الفلسفة هي حُب الحكمة؛ فإذا كنت تعتقد أنك تحب الحكمة، فإن الفلسفة هي المجال الذي يُفترض أن تدرسه. ولكن ما هي الحكمة التي تُعلِّمُنا إياها الفلسفة؟ بالنسبة إلى سقراط، وتقريبًا كل الفلاسفة القدماء الذين جاءوا من بعده، الحكمة التي تعلمنا إياها الفلسفة تتعلق بما قد يعني عيش حياة بشرية طيبة. وكان بديهيًّا في معظم الأفكار الفلسفية القديمة أن الحياة البشرية الطيبة تكون أيضًا حياة سعيدة. وفي إطار هذا التصوُّر - الذي يوجد تعبيرٌ واضحٌ عنه لدى أرسطو، ولكنه يكون مفترضًا من قِبل المدارس الهلينستية اللاحقة مثل المدرسة الرواقية - فإن الفلسفة تسمح بتحقيق أعلى درجة من السعادة، وهي حياة التأمل الزاهد؛ ومن ثَمَّ فإن الفلسفة هي الحياة التأملية، الحياة التي توضع قيد الاختبار والفحص، ويصير الافتراض أن الحياة غير المختبرة لا تستحق أن تُعاش. فينبغي أن تشكِّل الفلسفة البشر، لا أن تعلِّمهم وتوجِّههم فحسب.
ولكن يجب ألا ننسى أنه على الرغم من أن الحياة غير المختبرة لا تستحق العيش، فإن الحياة التي لا تعاش لا تستحق التأمل، والفلسفة عند القدماء لم تنفصل عن التقلُّبات الفعلية التي تحدث في الحياة الاجتماعية اليومية. بل إن الفلسفة باعتبارها ممارسة تأملية لفحصِ ما يُعتقد أنه حقيقة باسم الحقيقة هي شيء كان يحدث فيما سماه الإغريق «الدولة»؛ أي المجال العام للحياة السياسية. فكانت الفلسفة نشاطًا «عمليًّا» بارزًا، يختلف على نحو ملحوظ عن الشكل الاستقصائي النظري على نحو كبير الذي أصبحت عليه الفلسفة بدايةً من القرن السابع عشر.
في التصور القديم، الحكمة التي تعلِّمنا الفلسفةُ حُبَّها هي السعي لتحقيق حياة طيبة، حياة تفكير وتأمل، ستكون بحكم تعريفها حياةً سعيدة. والآن، وربما على نحو غريب، هذا هو النموذج الذي يعتقد معظم الأشخاص خارج مجال الفلسفة - أي خارج مجال الدراسة الأكاديمية للفلسفة - أن معظم الأشخاص داخل مجال الفلسفة يخضعون له، وهذا هو السبب في أنهم يفترضون على نحو طبيعي تمامًا أن المسألة الرئيسية في الفلسفة يجب أن تكون معنى الحياة.
وبوضع هذه الفكرة في الاعتبار، تخيل المشهد التالي: تلتقي فيلسوفة أكاديمية شخصًا غريبًا في حفلة ويسألها: «ما عملك؟» تجيب بأنها فيلسوفة، ويتجرأ الغريب لِلَحظة، ولافتقاده لأي شيء يقوله غير ذلك يسأل: «ما معنى الحياة إذن؟» عند هذه المرحلة، يحدث بعض الضحك العصبي مع محاولةٍ قلقةٍ من جانب الفيلسوفة إما لتغيير الموضوع بأسرع وقت ممكن، وإما للشرح بابتسامة خَجِلة أن الدراسة الأكاديمية للفلسفة لا تتعلق في الحقيقة بمثل هذه الأمور. والآن، وبقدرِ ما أجد هذا الموقف مُحرجًا اجتماعيًّا، أعتقد أن الشخص الغريب لديه ما يبرر افتراضه تمامًا. بعبارة أخرى، إذا لم تعالج الفلسفةُ مسألةَ معنى الحياة - ليس بالضرورة أن تتوصل لكُنْهِهَا، ولكن على الأقل تدرسها - فإنه يمكن القول إن الفلاسفة لا يقومون بعملهم على نحو صحيح.
في رأيي، المشكلة هنا لا تتعلق بالأشخاص خارج مجال الفلسفة أكثر من تعلقها بالأشخاص داخله؛ فلاسفتنا الأكاديميين. فبالنسبة إلى معظمنا، فكرة أن الفلسفة ربما تكون متعلقة بمسألة معنى الحياة أو تحقيق حياة بشرية طيبة وسعيدة تُعد إلى حدٍّ ما مزحة؛ مزحة سخيفة بالتأكيد. فمثل هذه المسائل يدرسها مجال ما يسمى تجاوزًا «علم النفس الشعبي». عمومًا، الفلسفة الأكاديمية سلمت عن طيب خاطرٍ هذا المجال إلى هذا المد الكبير المتواصل الزيادة من الكتب التي تدور حول «العقل والجسد والروح»؛ تلك الرفوف من كتب العصر الجديد الزاهية الألوان التي تقبع على نحو محرج بالقرب من أقسام كتب الفلسفة المتواصلة التقلص في المكتبات الموجودة في الشوارع الرئيسية. لقد تخلت الفلسفة الأكاديمية إلى حدٍّ كبيرٍ عن هذه المعارك واختارت التقاعد المبكر.
إذن، بماذا تُعنى الفلسفة بالنسبة إلى معظم الفلاسفة الأكاديميين، إذا لم تكن معنية بالحكمة؟ دعنا نقُل إنها معنية ﺑ «المعرفة». معرفة ماذا؟ في أوسع معانيها، يمكننا القول إن الفلسفة تُعنى بمعرفة طبيعة الأشياء. ويَبرز هنا المقابل اللاتيني لكلمة معرفة، وهو علم) scientia. ومسألة المعرفة - معرفة طبيعة الأشياء - مسألة علمية؛ فالعلوم - العلوم الطبيعية الحديثة - هي التي توفِّر لنا المعرفة الأفضل والأكثر موثوقية لماهية الأشياء. لماذا؟ لأن العلوم الطبيعية يمكن أن تقدِّم أدلة تجريبية على فرضياتها، فيمكن التأكد من صحة ادعاءاتها. فإذا قلتُ: «المسيح هو مخلص البشرية»، ولم أقدِّم أي دليل تجريبي، فإن قبولي لهذا الادعاء من عدمه مسألة تخص الإيمان كليًّا؛ ولكن إذا قلتُ إن مادة الماء تتكون في جميع الأوقات من جزأين من الهيدروجين وجزء من الأكسجين، فإنني أستطيع إثبات ذلك من خلال تجربةٍ أقوم بها.
وكما ندرك جميعًا تمامًا، نحن نعيش في عالم علمي؛ عالم يُتوقَّع منا فيه تقديم أدلة تجريبية على ادعاءاتنا، وإلا فستُرفض تلك الادعاءات على نحو مستحَق؛ فالتصور العلمي للعالم، والذي يعود تاريخه إلى العقود الأولى من القرن السابع عشر في إنجلترا وفرنسا، يهيمن على الطريقة التي نرى بها الأشياء، وربما أهم من ذلك، أنه يهيمن على الطريقة التي «نتوقع» أن نرى بها الأشياء؛ فنحن نتوقع أن نرى الأشياء إلى حدٍّ ما مثل المتفرجين في مسرح حيث يمكننا فحصها نظريًّا؛ الكلمة الإغريقية التي تعني المتفرج في المسرح هي (نظرية) theoros. وتُقدَّم الأشياء ككائنات تَرِدُ تجريبيًّا وعلى نحو مباشر في شكل أحاسيس أو تمثيلات. ويمنحنا العلم معرفة بطبيعة هذه الأشياء، وبعد ذلك تسمى هذه الأشياء «حقائق».
في عالم يسيطر عليه العلم، ما الدور الذي يسنده الفيلسوف الأكاديمي للفلسفة؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال جزئيًّا بالإشارة إلى الكلمة الإغريقية التي تعني معرفة وهي episteme؛ فتصبح الفلسفة إبستمولوجي؛ أي نظرية المعرفة. وهذا يعني أنها تهتم على نحو كبير بالمسائل المنطقية والمنهجية؛ مثل كيفية معرفتنا لما نعرفه، وكيفية التأكد أن هذه المعرفة صحيحة. تصبح الفلسفة استقصاءً نظريًّا حول الظروف التي تكون فيها المعرفة العلمية ممكنة. وفي التصور العلمي للعالم، يتغير دور الفلسفة من كونها ملكة العلوم - كما كانت بالنسبة إلى أفلاطون - حيث كانت المعرفة النظرية تتوحد مع الحكمة العملية لتصبح بدلًا من ذلك عاملًا مساعدًا للعلم - وفقًا لرؤية جون لوك في بداية «مقال عن الفهم الإنساني» في عام ١٦٨٩ - تتمثل مهمته في إزالة المخلفات التي تعترض طريق المعرفة والتقدم العلمي؛ فيصبح الفيلسوف عامل نظافة في صرح العلم العملاق.
إن مهنة عامل النظافة محترمة بما فيه الكفاية، ولكن ماذا عن مسألة الحكمة؟ المشكلة هنا هي أن العلم مذهل؛ إذ إنه يقدِّم لنا وصفًا أفضل وأكثر صدقًا للطريقة التي تكون عليها الأشياء، وهو ما يُغرَم الفلاسفة المعاصرون بتسميته «الأنطولوجيا الطبيعية». علاوة على ذلك، من خلال عمل قرينة العلم - التكنولوجيا - تغيرت حياتنا وتحسَّنت إلى حد لا يمكن تصوره مقارنة بشخص من العالم القديم، أو حتى مقارنة بأجدادنا. وبناءً على ذلك، فالعلم ليس مذهلًا فحسب، وإنما فعالٌ أيضًا. ولكن على الرغم من هذا - أو ربما بسبب هذا - لا تزال مسألة الحكمة تزعجنا؛ تزعجنا مثل زائدة دودية نعتقد أننا لم نعد بحاجة إليها.
والسؤال هو: هل التصور العلمي للعالَم يجعلنا في غير حاجة إلى الوصول لِكُنْهِ مسألة معنى الحياة؟ هل يتطلب جسد المعرفة استئصال الزائدة الدودية المتمثلة في الحكمة؟ من وجهة نظرٍ متطرفة معينة، يتطلَّب الأمر ذلك، وربما يجادل بعض الفلاسفة بأن جميع المسائل يجب أن تكون إما قابلة لتحديدها من خلال الاستقصاء التجريبي، وإما يتم رفضها باعتبارها غير صحيحة. على هذا النحو، ربما يُدَّعى أن مسألة معنى الحياة يمكن سبر غورها على نحو سببي أو تجريبي من خلال نظرية التطور الداروينية. وفي هذا الإطار، يمكن تفسير الحياة على أساس بعض الفرضيات السببية، مثل الانتقاء الطبيعي؛ أي إن الإدراك البشري ناتج عن نزعات تطورية، حتى إنه يوجد فرع من فروع الفلسفة يسمى «نظرية المعرفة التطورية» الذي يحاول أولًا تحويل جميع المسائل الفلسفية إلى مسائل معرفية، ثم الادعاء بأن كل هذه المسائل يجب أن يُكشف عنها بالرجوع للنزعات التطورية.
إنني أعتنق وجهة نظر أقل تطرفًا حيال العلاقة بين المعرفة والحكمة، أو بين الاستقصاء العلمي وما يمكن أن نسميه الاستقصاء الإنساني. أنا لا أعتقد أن مسألة معنى الحياة يمكن إخضاعها للدراسة التجريبية؛ فهي ليست مجرد مسألة سببية؛ فكما أعتقد، توجد فجوة بين المعرفة والحكمة؛ وهي ليست فجوةً تفسيريةً يمكن سدُّها من خلال إنتاج نظرية أفضل وأكثر شمولًا، وإنما فجوة «شعورية». فإذا كان يمكن حل كل المشاكل المعرفية تجريبيًّا من خلال الاستقصاء العلمي، فإننا قد نشعر أنه حتى لو حُلت كل تلك المشاكل في صباح يوم رائع وجميل، فسيظل هذا على نحوٍ ما غيرَ ذي صلة بمسألة الحكمة؛ بمسألة معرفةِ ما الذي قد تتألف منه الحياة البشرية الطيبة بالضبط.
والمفارقة - وإنها لَمفارقة مهمة خاصة بخبرات الحياة اليومية، التي سنعرض لها في الفصل الثاني في صورة مفارقة العدمية - هي أن التصور العلمي للعالم لا يسد الفجوة بين المعرفة والحكمة، ولكنه يجعلنا نشعر بها على نحو أكثر حدة. حتى إنني أراهن أن هذه المفارقة تكون في أقصى حدة لها في المجتمعات المتقدمة للغاية علميًّا وتكنولوجيًّا. ويبدو أن الفجوة بين المعرفة والحكمة في المجتمعات الغربية المتقدمة تتسع إلى حد الهوة السحيقة. وبهذا المعنى، فإن المسألة التأملية المتعلقة بمعنى الحياة تكون نتيجةً للترف والثراء. ربما كانت هكذا دائمًا؛ فالفلسفة تَظهر فقط عندما تتوافر ضرورات الحياة الأساسية، فكما قال برتولت بريخت: «الغذاء أولًا، ثم الأخلاق.» وهذا صحيح على نحو كافٍ، ولكن الحقيقة الغريبة عن البشر هي أنهم عندما تعطيهم طعامًا - ولو طعامًا أكثر مما يمكنهم أكله - وعندما تغدق عليهم كل النعم الدنيوية، فإنهم سوف يبتكرون مآسيَ جديدةً لأنفسهم، واضطرابات عصبية وأمراضًا جديدة، وحتى «علومًا» جديدة للتعامل مع تلك الاضطرابات والأمراض الجديدة؛ على سبيل المثال، التحليل النفسي أو العلاج النفسي أو العلاج بالروائح أو علم المنعكسات، أو ما شابه.
وعندما يبدأ الشعور بقوة هذه المفارقة وجوديًّا، تعود المسألة المهملة الخاصة بمعنى الحياة بحماسٍ حقيقي ومخيف: «يبدو لي أنني أمتلك كل ما أحتاج وأريد، ولكن ما هو الهدف من حياتي؟»
تعد هذه الحالة الغريبة - على الرغم من أنها شأن يومي - مصدرًا مبررًا للعديد من المحاولات غير المبررة، من وجهة نظري، لِمَلْء «فجوة المعنى» والتعامل مع مسألة معنى الحياة. ويمكن أن يتم ذلك بطرق عديدة: من خلال العودة إلى الدِّين التقليدي، أو من خلال ابتداع دين جديد، أو من خلال السلطوية السياسية، والتي غالبًا ما يصاحبها العودة إلى الدين التقليدي في صورة مزيج قوي عنيف (على سبيل المثال، القومية الصربية)، أو من خلال أحد فروع الروحيات السبعة والخمسين المتوافرة حاليًّا لسد فجوة المعنى: التنجيم أو اليوجا أو الجلوس تحت حيزٍ هرميٍّ مع حمل بلوراتٍ أو العثور على الطفل الموجود في داخل الشخص، أو أيًّا ما يكون. وكما سنرى في نهاية هذا الكتاب الصغير، هذه أشكال مختلفة من «الظلامية»؛ بمعنى أنه إذا ما كان خطأُ جانبٍ كبير من الفلسفة المعاصرة هو الافتتان بالعلم - الأمر الذي يؤدي إلى العلموية - فإن الرفض الخاطئ بالقدر نفسه للعلم يؤدي إلى الظلامية.
ويتمثل أحد ادعاءاتي الختامية في خطر وجود الظلامية في جانب كبير من الفلسفة القارية المعاصرة؛ إذن، إذا كان الخطر الذي تتعرض له الفلسفة المعاصرة هو العلموية، فإن انعكاسه المقابل هو الظلامية. وبكلمات جون ستيوارت مِل: «أحد الاتجاهين يمكن أن يصنع من الرجال وحوشًا، والآخر مجانين.»
ولكي ألخِّص قليلًا، فإن الفلسفة القديمة تميَّزت - من بين أمور أخرى - بهوية تقوم على المعرفة والحكمة، أو على الأقل بمحاولة دمجهما معًا؛ أي إن معرفة طبيعة الأشياء من شأنها أن تؤدي إلى الحكمة في تسيير المرء لحياته. والافتراض الذي يربط المعرفة والحكمة معًا هو فكرة أن الكون على هذا النحو يعبِّر عن هدفٍ إنساني؛ ومن ثم فإن معرفة الكون ستكون جزءًا لا يتجزأ مما يعنيه أن يكون المرء إنسانًا. وهذا هو ما يسمى «النظرة الغائية للكون»؛ حيث يمكن تفسير كل شيء طبيعي في ضوءِ ما أَطْلق عليه أرسطو سببه النهائي، هذا الهدف الذي من أجله يكون أي شيء على ما هو عليه. وأدت هذه النظرة إلى وحدة ملائمة بين النظرية والتطبيق، بين المعرفة والحكمة، بين التفسير السببي والفهم أو المعنى الوجودي؛ حيث يمكن على سبيل المثال أن يُنظر إلى الكون على أنه كتاب حي كتبه الرب.
في العالم الحديث، ومن خلال التقدم الاستثنائي للعلوم من القرن السابع عشر حتى الوقت الحاضر، تصدَّعت هذه الوحدة. وكتب رينيه ديكارت بالفعل في عام ١٦٤١، في عمله «تأملات في الفلسفة الأولى» قائلًا: «البحث المألوف عن الأسباب النهائية لا طائل منه مطلقًا في الفيزياء.» لا يعبر الكون عن أي هدف إنساني؛ فهو يخضع ببساطة للقوانين الفيزيائية التي يمكننا أن نبذل قصارى جهدنا للتحقق منها، ولكنها غير مبالية بالسعي البشري؛ فالكون واسع وقاسٍ ولا إنساني وآلي، وهذا هو السبب في كتابة بليز باسكال في وقت ظهور هذه النظرة المتحولة للعالم في أواخر خمسينيات القرن السابع عشر قوله: «الصمت الأبدي للفضاء اللامتناهي يملؤني بالخوف»؛ أي «معرفة» أن كون كوبرنيكوس وَجاليليو المفتوح اللامتناهي دون معنًى أو هدف نهائي تُسبِّب خوفًا كبيرًا عندما يتحول المرء للتفكير في مسألة «الحكمة». وهذا أحد التعبيرات عن التجربة التاريخية والروحية التي تُعرف باسم «التنوير»؛ إذ يترك ذلك لدينا فجوة تجريبية بين عوالم المعرفة والحكمة، والحقيقة والمعنى، والنظرية والممارسة، والتفسير السببي والفهم الوجودي. وكما عبَّر ماكس فيبر عن ذلك بعد حوالي قرنين ونصف القرن، فإن الثورة العلمية، في حقيقتها التي لا يمكن إنكارها، تسبَّبت في «نزع السحر عن الطبيعة»؛ فلم تعد الطبيعة تعبيرًا مرئيًّا ﻟ «روح العالم» الذي يشارك فيه البشر أيضًا، بل بدلًا من ذلك، الطبيعة هي «مادة» موضوعية غير شخصية على نحوٍ صِرف، تحكمها القوانين، ويمكن تفسيرها سببيًّا، ولكن لا علاقة لها مطلقًا بأهداف البشر.
إذا كان الأمر كذلك، فإن المشكلة بالنسبة إلينا - نحن المعاصرين - واضحة؛ ففي مواجهة نزع السحر عن العالم الذي أحدثته الثورة العلمية، فإننا نشعر بفجوة بين المعرفة والحكمة تتسبب في تجريد حياتنا من المعنى. والسؤال هو: هل تستطيع الطبيعة أو، في الواقع، الذوات البشرية أن تصبح مسحورة مرة أخرى بطريقةٍ تقلل بل تزيل فجوة المعنى وتُنتج تصورًا معقولًا للحياة الجيدة؟ تبدو هذه المعضلة غير قابلة للحل؛ فمن جهة، يبدو أن التكلفة الفلسفية للحقيقة العلمية هي العلموية، وفي هذه الحالة نصبح وحوشًا. ومن جهة أخرى، يبدو أن رفض العلموية من خلال أَنْسَنَةٍ جديدة للكون يؤدي إلى الظلامية، وفي هذه الحالة نصبح مجانين. ولا تتميز إحدى جهتي هذا البديل بجاذبية خاصة. وفي نهاية هذا الكتاب، سأحاول اقتراح حل وسط.
ربما تتساءل: ولكن ما علاقة هذا بالفلسفة القارية؟ في رأيي أن ما يجب أن يتمحور حوله تفكير الفلسفة في الوقت الحاضر هو هذه المعضلة التي تُهدِّد على أحد جانبيها بتحويلنا إلى وحوش، وعلى الجانب الآخر بتحويلنا إلى مجانين؛ وهذا يعني أن مسألة الحكمة، ومسألة معنى الحياة المرتبطة بها، ينبغي على الأقل أن تدخل في صلب الأنشطة الفلسفية، وألا تعامل بلا مبالاة أو بحرج أو حتى باحتقار. إن جاذبية الكثير مما يقع تحت مسمى الفلسفة القارية في رأيي تتمثل في أنه يحاول الجمع بين مسألتَي العلم والحكمة، والحقيقة الفلسفية والمعنى الوجودي، أو على الأقل التقريب بينهما. والأمثلة على هذا وفيرة، سواء فكرنا في فلسفة هيجل حول صراع الإنسان حتى الموت من أجل الاعتراف به ككائن بشري له كرامة ومنزلة داخل الطبيعة باعتبار ذلك جزءًا لا يتجزأ من ارتقائه إلى المعرفة المطلقة؛ أو فلسفة نيتشه حول موت الرب والحاجة إلى إعادة تقييم القيم؛ أو فلسفة كارل ماركس حول اغتراب البشر في ظل ظروف الرأسمالية والحاجة إلى التحول الاجتماعي التحرري والعادل؛ أو فرويد حول الكبت اللاواعي النشط في الأحلام والنكات وزلات اللسان وما يكشفه ذلك عن اللاعقلانية الموجودة في قلب الحياة العقلية؛ أو هايدجر حول القلق، وعدم الاكتراث المميت بالحياة الاجتماعية الزائفة، والحاجة إلى وجود حقيقي؛ أو سارتر حول خداع الذات، والغثيان، والشغف غير المجدي - على الرغم من أنه ضروري - بحُرية الإنسان؛ أو ألبير كامو بشأن مسألة الانتحار في الكون الذي أضحى عبثيًّا بسبب وفاة الرب؛ أو إيمانويل ليفيناس حول صدمة مسئولياتنا اللانهائية تجاه الآخرين. ويمكن أن تمتد هذه القائمة إلى ما لا نهاية.
هذا يعني أن أهم عوامل جاذبية الفلسفة القارية هو أنها تبدو أقرب إلى قلب وتفاصيل الوجود الإنساني؛ فتبدو أكثر واقعية بالنسبة إلى دراما الحياة، والآمال والمخاوف البشرية، والعديد من مواقف السراء والضراء التي نتعرض لها. وبطبيعة الحال، هذا لا يعني أن هذه المخاوف غائبة تمامًا عن الفلسفة الأنجلو أمريكية أو التحليلية. على الرغم من أنه قد يكون من الإنصاف القول، من وجهة نظري، إن جزءًا كبيرًا من هذا النوع الأخير تهيمن عليه مسألة المعرفة، المتصورة علميًّا أو طبيعيًّا، على حساب مسألة الحكمة، فإن هذا لا يفسر شخصية مثل لودفيج فيتجنشتاين - على سبيل المثال - الذي يمكن أن يقال إن جاذبيته الهائلة باعتباره مفكرًا تعتمد على طريقة جمعه بين الحقيقة الفلسفية وتصوُّرٍ معينٍ للمعنى الوجودي، أو في الواقع، طريقة معينة للحياة. وهكذا ربما يقال إن الهدف الأساسي وراء أعمال فيتجنشتاين هو هدف علاجي وإرشادي؛ لذا دعنا نقُل إن محاولة سد الفجوة بين المعرفة والحكمة ليست عاملًا كافيًا للتمييز بين الفلسفة التحليلية والقارية. وليست تلك هي المشكلة؛ فنقطتي الرئيسية هي أن محاولة سد هذه الفجوة يجب أن تكون أساسًا ضروريًّا «لجميع» طرق التفلسف.
بقلم: سايمون كريتشلي؛ ترجمة: أحمد شكل