ما زالت الجامعة تَتذكّرُ اليومَ المشهودَ، فذاكَ يومٌ لا يجودُ به الدّهر إلاّ لماماً...
 
 جئنا، يومها، قبل انطلاقِ النّدوةٍ بنصفِ ساعةٍ. وقفَ الجميعُ مُنتظرين فتحَ بابِ قاعةِ النّدواتِ. مضت ساعةٌ ونيّف. لا أحدَ من المشرفين جاءَ ليفتحَ الباب. وكنتُ أتساءلُ: أفي التأخير ترويض لغريزة الانتظار أم هو خطةٌ لتطويعِ الطالبِ على استصغار نفسه منتظراً قدوم المعرفة مُتَلَبِّسَةً جسدَ أكاديميّ محنكٍ؟ لا جوابَ أسعفني في هذه الساعة المختنقةِ. يممت وجهي شطرَ باب الكلية مُزمعاً الانصراف. حين قدّمت قدماً ظهرَ حمّادي مرتديا معطفه الأسودَ وهو يتوسّط ثُلةً من الأكاديميين الكبار. والحقُّ يقال: إن بعض هؤلاء الأكاديميين كانوا مرموقين لهم مكانةٌ مُعتبرةٌ في حقول المعرفة التي يشتغلون فيها. كانَ حمادي يقفز من مكانٍ إلى آخر كَحبّة ذرةٍ تستعدّ لتصبحَ فشارةً ساخنةً. لا يستطيعُ مكانٌ احتواءَ هذا الجندب. وكأن كلَّ دودَ الأرضِ ينغلُ مؤخرته. ولهُ في التقافزِ والنطّ مذاهبُ لا حدّ لها.
 
  مرّ بجوار طلبته مُعتدًّا بنفسه. لم يكن يراهم. فعيبٌ أن ترى طلبتَك يوم الندوة. اجتاز باب القاعةِ متوسّطاً الدكاترة والمفكرين. واتجه إلى منصةٍ عالية مقتنصاً مقعداً يحاذي مفكراً كبيراً. هنا تراءى له الجمع الغفير الذي حضر ليسمع لوامعَ فكرهِ وبوارق علمه. أخيراً، رأى طلبته، وكان هذا أمراً مُفرحاً، فبدأ يحرك يديه دلالةً على ضرورة التقاط الصور وفق وِضعاتٍ وزوايا مختلفةٍ. عندما انطلق الطلبة لتأبيد المعرفةِ صوراً نبسَ "حزين" في أذني: "أنظر كيف يروّج هذا المأفون صُورته. يا له من فكرٍ تسلُّقي حقير". ابتسمتُ في وجه الصديق الذي كان اسمه مُطابقاً لحاله. وخنقت الابتسامة بسرعةً حتى لا يراني حمّادي فيظن بي ظّن السوء، ويُبَيّت لي في طويّته: الويلَ والثبور وعظائم الأمور.
 
  كانت الندوة تضمُّ خمسة أساتذة، ينتمون، في أغلبهم، إلى مجال المعرفة الأدبيّة، وهم على التّوالي: علال العطروش، وحُرام النواعري، وسعيد الرزين، وكريم ولد البّانضي، وحمّادي لبهْلْ. كانت الحرب المحتدمة بين حمّادي وحُرام معروفة في أوساط الكلية. ومردُّ هذه الحرب، حسب العارفين بخبايا الكلية، أنّ كلِا الأستاذين اشتغل على نفس الموضوع، تقريبا، في الدكتوراه. فيظن كلّ منهما أنه الرائد في المضمار. فضلاً عن ذلك كان "حُرام" متنفّذاً داخل أسوار الكليةِ وله علاقات رفيعة المستوى. لم يكن "حمّادي" يرضى أن يرى ابن قريته يتفوق عليه ويحوز المكانة الخاصة به. فحمادي يتحدر من عائلة شريفةٍ أما "حُرام" فوالدهُ خمّاس وأمه حمّالة البعر. لكن ينسى "حمّادي" أن "حُرام" أكثر شطارةً منه في استمالة رؤوس الأفاعي؛ وهذه موهبةٌ لا يملكها إلا من "تَحَيْوَنَ" فتطبّع بوداعة الخرافِ وهدوء الثعالب ومكر الذئاب. ولحُرام في هذا الضرب السلوكيّ مدارسُ واتجاهاتٌ.
 
  بدأت الندوة، كما هي الحالُ دائماً، متأخرة عن موعدها بساعةٍ كاملة. بدأ المسير يتحدثُ عن عنوانها ومحاورها الكُبرى، مُبرزاً راهنية الموضوع وانفتاحه على معارف شتى. أنصتنا جميعاً لمداخلة الأستاذ المقتدر سعيد رزين. كانت مداخلته منصبة حول موضوع "محدودية المنهج البنيوي في تحليل السّرد"، فأكدَ أن التحليل التقنيّ المحايثَ لا يُمكن أن يقدّم معرفةً حقيقيةً عن النّص السّردي. المداخلةُ الثّانية كانت من نصيب حُرام وفيها عرضَ الخطوطَ الرئيسة لنظرية تحليل السّرد، مبرزاً كيفية تشغيلها إجرائياً. وقد كانت مداخلته، صِدْقاً، جيدة من حيثُ التنظيمُ النظري والنقلُ البيداغوجيّ. 
لمتعزب عن نظرِ الحاضرين ملامح وجه "حمادي" آن إلقاء "حُرام" أفكارهُ وتصوراته. كان وجهه يتخذ شكل علبةِ سردينٍ مبعوجةٍ، ثم سرعانَ ما يصيرُ أشبه بفزاعة قشٍ تجهد نفسها لإخافة جمهورية العصافير. لم يكن "حمّادي" يتقنُ توريةَ انطباعاته وانفعالاته. كانت تظهر من عيونه مُتجشئةً مفضوحةً عاريةً. حين وصل دورُ "حمّادي" لتقديم مداخلته، غيّر طريقة جلوسه، وضع قدمَ على قدمٍ، أجال بصره على نحوٍ بانوراميّ معتدٍّ، ثم طفق يشكرُ رئيس الجامعة، فعميدَها، فنائب عميدها، فكاتبها العام، فأساتذتها المقتدرين -الذين ذكر، انتقاءً، منهم من يروقونه- ولم ينس أن يشكرَ نفسه، عارضاً ما كابده من تشقُّقات روحيّة أثناء البحث والتحرير. آثر في البدايةِ أن يستهل مداخلته مُصحِّحاً، على حدّ تعبيره، مُغالطةً فادحة سرّبها "حُرام"، فوضّح، أن الــمُداخل يخلط بين التطويع الانفعالي والتطويع الذهني، وهذا عائدٌ لعدمِ فهمه النظرية.وهنا ستشتعلُ معركةٌ لن يسنها الحاضرون أبداً. قفزَ "حُرام" من مكانه صارخاً: 
 
- ماذا قلتَ، يا حمّادي، متى كنت تفهم معنى الـمُغالطة؟ هل تريدُ أن تحقق "البوز" على ظهري؛ تفضل، أولا، واكتب المغالطة على السبورة بشكل صحيح أيها الضحل...
زفرَ حمادي غيضاً من أفران أعصابه الداخلية. وبدأ يلوّح بحركات بلهاءٍ، نافثا بصاقهُ الأصفرَ على الأساتذة الذين يجاورونه، ثم ردّ بتشنجٍ بادٍ:
- المغالطة، المغالطة، المغالطة، هي المغالطة، هي المغالطة، واشْ أنْتَ غَادِي تْورِينِي شُنُو هيّ المغالطة، أنا قريت المغالطة أنا فهمت المغالطة مزيان...
ضجت القاعة بضحك عارمٍ. كان حمّادي وهو ينطّ من مكانه كقصبةٍ تنكحها الرياح من كلّ فروجها. مشهدٌ مقتطعٌ من فيلمٍ كوميديّ عالميّ. كنت أُطأطئ رأسي وأواريه بين الحاضرين لأضحك بسلام، لم أستطع أن أكبحَ دفقات الضحكِ التي تهتاج داخلي. فجأة، نهضَ "حُرام" حاملاً في يُمناهُ كتاباً لــحمّادي، ثم صدعَ أمام الجميع:
- أنظر، يا حمادي، إلى الصفحة الرابعة والستين من كتابك "المعنى والمعنى"، هل تعلم كم خطأً إملائياً ارتكبتَ. لقد اقترفتَ جريمةً في حق اللغة. عليكَ تحسين مستواك اللغويّ، أولاً، ثم تطوير قدرة فهمك، تاليا، وبعدها يمكنك التعليق على أعمال أسيادك...
 
  لكم أن تتخيلوا وجه حمادي؛ أصبحَ كالحاً كحافر بغلٍ يمشي على الرّماد. كان يديرُ رأسه كبومة حمقاء ويحملقُ بعيونه كحرباء فقدت صغارها. ثم لملمَ أوراقهُ بلهوجةٍ مضحكةٍ، مقرراً مغادرةَ القاعةِ. في طريقه تعمّد الوطء على قدمِ "حُرام"، فاستفزّ هذا الفعل "حُراماً"، الذي لم يحسَ بنفسه إلا حينَ وجدَ شعرَ حمادي بين أسنانهِ ودماً أحمرَ ينزّ من أذنٍ بدت له تَغُور في فمِ حمّادي الذي كان يلوكها بالتذاذٍ متشفٍ...  
 بقلم: رحيم دَودي