الذكاء منتوج طبيعي لتربية الأسرة والمدرسة والثقافة الاجتماعية أساسا، ولم يحسم العلم لحد الساعة بالتجربة في مدى تأثير العوامل الوراثية فيه؛ فهو بالتالي مُكتَسب وليس فطري.
الأسرة والمحيط بثقافتهما الاجتماعية يعملان على "تشغيل" سليم لعقل الطفل يضمن قيامه بوظائفه الفطرية من انتباه وإدراك وتفكير، ومن فهم وتذكر وتحليل وتركيب، ومن استدلال واستنتاج واستنباط واستقراء واستشراف وبالتالي تنمية الذكاء؛ أو بالمقابل يعملان على عدم تنمية هذه الوظائف، أو تعطيلها بالمرة في مقابل تنمية العقل اللاّسببي المحنّط المادة الخام للغباء، ولسيادة الذاتية والعاطفية والخرافية.
كما يعملان من خلال التفاعل النفسي مع الصغير على جعل عالمه الوجداني رافعةً تشدُّ عضُدَ العقل، وتُمِدّه بالطاقة الإيجابية للاشتغال من إحساس بالتقدير، وتحفيز وثقة بالنفس، واستقلالية واستماتة وعدم الاستسلام؛ أو بالمقابل أداةَ خذلانٍ وعدمَ إسعافٍ له بسبب طريقة تفاعلهما مع خطأ الطفل، وبنوعية العلاقة التي أَرْسَياها بين الطفل و"الجُهد" سواء كان عضليا أو ذهنيا.
المدرسة بدورها بتصورها للعملية التربوية، وبأنماط العلاقات التي تبنيها مع التلميذ، وبطرق التدريس التي تعتمدها، وبالمحتويات التي تدرسها تساهم في إنماء الذكاء أو إضعافه؛ وذلك بحرصها على القيام بمهمتي التربية والتعليم معا (أي بتنمية الشخصية إلى جانب مهمة التعليم)، أو باكتفائها بالتعليم فقط ؛ وباعتمادها الإيجابية سلوكا في تربية التلميذ والأفقية في التدريس منهجا، أو بالسلبية والعمودية ممارسة؛ أو بتنميتها الوجوه الإجرائية في الدماغ، أو اكتفائها بتنمية الوجوه التمثلية له بتعبير جان بياجي..
تحقيق "التشغيل" السليم للعقل وبالتالي تنمية الذكاء يقتضيان أولا تأسيس علاقة إيجابية مع بذل الجهد سواء كان عضليا أو ذهنيا لضمان الفعالية، واعتبار الخطأ محطة للتربية والتعلم وليس فعلا مُنكَرا، من أجل توفير سياق وجداني فاعل و داعم ومحفز، وإخراج الطفل بالتدريج من الذاتية إلى الموضوعية.
يقتضيان أيضا اعتمادَ منهج التعليل والسببية لكل ما يستفسر عنه الطفل، وتنميةَ قدرته على السماع بدقة ( الإصغاء)، وتنميةَ قوة الملاحظة لديه، والتحكم في خاصية الإعتكاسية (مشي: أمام/ خلف- جمع / طرح- ضرب/قسمة - تفكير في الماضي/ تفكير في الحاضر والمستقبل – أداء للعمل / تقييم له...)، وتعليمَه كيفيات ومناهج البحث عن المعلومة وليس تقديم المعرفة الجاهزة له (علمني كيف أصطاد سمكة ولا تعطني كل يوم سمكة)، هذا علاوة على الإرساء اللغوي السليم للمصطلحات اللغوية بما يمكن من ارتباط الدال بالمدلول والمعنى بالمبنى، وأيضا على البناء الجيد للمفهوم العلمي انطلاقا من الوضعيات الحية وصولا للوضعيات المجردة ثم عودة للوضعيات الحية؛ بما يضمن تمكن العقل من " المعنى" مادة اشتغاله دون تشويش.
كل ما سلف يمكن العقل من امتلاك آليات الاشتغال الضرورية للتمكن من "التدبير المتزامن لمتغيرات عديدة في الوضعيات التعليمية المجردة كما في وضعيات الحياة" جوهر الذكاء وماهيته.
بقلم: عبد القادر أكوجيل (بتصرف)