حين قرأتُ أن الفيلسوف البريطاني برتراند راسل الذي درس الرياضيات في الجامعة، وتخرج فيها بتفوق، أصبح، لاحقاً، نافراً منها، خطر في بالي سؤال: «لماذا لا يحب الكثيرون الرياضيات؟». وبالمناسبة، أنا واحد منهم، حتى إني تحولت، بسببها إلى القسم الأدبي في المدرسة الثانوية، بعد أشهر من دخولي القسم العلمي تحت ضغط العائلة الموقنة أن في هذا القسم مفاتيح النجاح في الحياة المهنية التالية.
ونحسب أن ملَكات الناس وميولهم المختلفة تجذبهم تلقائياً نحو المواد الدراسية ومجالات المعرفة والاهتمام التي يجدون أنفسهم فيها، لذا يبدو مفهوماً أن ينكبّ البعض على مطالعة الأدب، حدّ الشغف، فيما ينغمس آخرون في الرياضيات أو الفيزياء وما إليها من علوم، وأن المجالات المختلفة مكملة لبعضها بعضاً، فالأمم تحتاج إلى أدباء، وإلى علماء، في الآن ذاته.
 
لكن هذا لا يشفي غليل السائل: لماذا يكره الكثيرون الرياضيات؟ هل يكفي القول إنهم لا يتوفرون على المهارات الذهنية المطلوبة لدراستها والغوص فيها؟ إذاً، ما الذي يحمل شاباً درس الرياضيات وتفوق فيها ك«برتراند راسل» على أن يهجرها، وينفر منها؟
قادني «جوجل» إلى مقال على موقع اسمه «المحطة»، يطرح هذا السؤال بالدقة التالية: «كيف يمكن لعلم متنوع جداً، من حيث قيمته وفوائده للقيم الإنسانية، أن يظل مكروهاً من قبل العديد من الأشخاص المحبين للثقافة، والتي من أجل تقدير جمالها وعظمتها يحتاج المرء إلى نوع خاص من العقل الرياضي؟». لن أعرض الإجابة كاملة، وسأكتفي بما يشبه الخلاصة التي انتهى إليها المقال: «سبب كرهنا للرياضيات ناتجٌ عن تحيز ثقافتنا، فلا نلقي اللوم على جوهر الرياضيات».
 
قرأتُ عن نفور برتراند راسل من الرياضيات في الكتاب الذي وضعه عنه د. رمسيس عوض، الذي أوضح أن «السبب يعود إلى ما وصفه باشمئزازه من الأسلوب المتبع في تدريس هذه المادة، وفي امتحاناتها التي تجعل من هذا العلم المهم ضرباً من الأحاجي والألغاز يتطلب التفوق فيها مهارة في التملص والمراوغة».
كانت عائلة راسل تريده أن يكون سياسياً، مواصلة لتقليد درجت عليه، وعرضت عليه وظيفة في السفارة الإنجليزية بباريس، كما عرض عليه وزير في إيرلندا وظيفة أخرى، لكن راسل لم يهجر الرياضيات ليصبح دبلوماسياً، أو رجل دولة، وإنما لأنه اختار الحقل الذي جعل منه الرجل الذي عرفه العالم بسببه، فباع كل ما بحوزته من كتب الرياضيات، ويمّم وجهه نحو الفلسفة، التي لا تترك خلية واحدة في الدماغ عاطلة عن العمل، كما قال هنري كيسنجر مرة.
بقلم: حسن مدن

أضف تعليق


كود امني
تحديث