اللّغة التي لا تتطوَّر، وتفتح ذراعيها للجديد - بضوابط علمية مُتقنة - تنتهي وتموت!... وموت اللغات واندثارها حقيقة علمية مُثبتة بطول التاريخ وعرضه، فلا أحد لم يسمع عن اللغة اللاتينية التي كنت في وقت من الأوقات ملء السمع والبصر، ولم يكن أي بحث علمي أو مُنجز حضاري يُكتَب إلا بها، يكفي أن تعرف أن كل هؤلاء كتبوا بها لتعرف قيمتها: من العلماء أرخميدس ونيوتن ودارون وأينشتين، ومن الفنانين دافنشي ورفاييل ومايكل أنجلو وجويا وفان جوخ، وغيرهم، ومع ذلك ورغم استخدامها قرونًا، ماتت في النهاية واندثرت لعوامل عدة، كالانهيار التدريجي للإمبراطورية الرومانية، وانتهاء استخدامها كلغة رسمية، وكذا ظهور اللغات الرومانية الوليدة مثل الإيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية، بالإضافة إلى اختلاط الرومان مع الشعوب الأخرى وتفريطهم في لغتهم تدريجيًا.
 
عصرنة اللغة العربية وإطالة عمرها:
 وبالرجوع إلى مرصد اللغة العالمي (Global Language Monitor) يظهر نحو 5,400 كلمة جديدة في اللغة الإنجليزية سنويًا، معظمها مصطلحات وكلمات جديدة تُولد يوميًا نتيجة للتغيير المستمر في جميع مناحي الحياة، وتُتداول على نطاق واسع ومن ثمَّ تضاف إلى المعاجم اللغوية.
 
ناهيك بأن من اخترع العلم فله أن يسميه، فمخترع فيس بوك قال إنه “بوست” إذًا هو بوست، حتى يخترع العرب ما يريدون ويسمّونه كما يشاؤون. فإجازة المَجمَع اللغوي كلمتي “ترِند” و”ترويقة” أخيرًا من قبيل توسيع اللغة وعصرنتها ووصلها بما يجري من حولها وإطالة عمرها. و”تِرِنْد” أي الشيء الرائج مَثار الحديث، أو ما يؤثر في اتجاه الرأي العام.
 
أما “ترويقة” فهي الاسم الذي يطلقه الشوام على الفطور في مصر، من الفعل “روَّق”. يقال: روَّق الشرابَ: صفَّاه، والرَّوْق من كل شيء: مُقدِّمه وأوله، وهي صحيحة لغويًا وكثيرة الاستعمال، على وزن “تفعيلة”، و”اختصت  بدلالة اجتماعية اكتسبتها من ممارسات الناس في حياتهم الاجتماعية، وتفاعلاتهم اللغوية اليومية”، وفقًا للمجمع اللغوي.
 
تكفين اللغة!
ولعل الرافضين لمثل هذه الكلمات، يتحجَّجون بأنها لم ترد عن العرب، ومعنى هذا أنهم يطالبوننا بإيقاف اللغة على الاستخدام العربي القديم لها ورفض التطوّر والتقدم، أي رفض الواقع وسُنن الكون، وهم بذلك لا يحفظون للغة أصالتَها -كما يدَّعون!- بل يعزلونها عن محيطها الاجتماعي ويخيطون لها كفنها بأيديهم!
 
وديدن العربية تقبُّل الكلمات الجديدة منذ القدم، من أيام القرآن الكريم نفسه الذي احتوى كلمات من الفارسية واليونانية والسريانية وغيرها، شريطة أن تكون مفهومة في محيطها ولا تُحدث لبسًا، وهو ما يشير إليه قوله تعالى في مُحكم التنزيل “بلسانٍ عربي مبين”، أي يفهمه العرب في زمنهم ويعرفون معانيه، أي إن ما يفعله المَجمَع اليوم إن هو إلا السير على خطى الكتاب المقدّس في توسيع الاستخدام اللغوي لإثراء المعاني وتوضيحها.
 
كلمة السّر.. الاعتياد:
ولو تأملتَ المعجم العربي خلال السنوات الماضية لوجدتَ ثُلَّة من الكلمات التي أثارت الجدل في بداية طرحها ثم أصبحت أمرًا مألوفًا بالاعتياد، مثل الكلاسيكية والرومانتيكية والفلسفة والموسيقى (بالألف أو بالياء) والتليفون والموتور والميكانيكا والفيزياء والجيولوجيا والجغرافيا، وغيرها.
فأهلًا بتوسيع رقعة العربية، وضمّ ما هو عصري ومفهوم ويُفيد الناس إليها، وزيادة ما يرفع من قدرتهم على الأداء والتعبير والإحاطة بالمعاني واستيعاب كل جديد.
 
ونأمل في أن يكون الجدل الحادث بسبب كل كلمة جديدة دافعًا للناس إلى إحياء اللغة العربية والتمسك بها أكثر، وتعليمها وتعلّمها كما يجب، وإنزالها المكانة التي تستحق من نفوسهم وحياتهم.
 
بقلم: حسام مصطفى إبراهيم

أضف تعليق


كود امني
تحديث