يشير مصطلح الإستراتيجية إلى تلك الخطوات المرسومة بعناية بعد جهد مضنٍ من الدراسات والأبحاث الجادة الحقيقية المنطلقة من الواقع، بحيث تكون معلومة الهدف والغاية، ومعروفة الآليات المتبعة في التنفيذ والتقويم والتقييم، وذات فترة زمنية محددة، ومتابعة مستمرة للنتائج أولا بأول، لنصل في نهاية المطاف إلى ثمرة حقيقية بعد ذلكم التعب الفكري المرهق الذي نلخصه بمفردة واحدة اعتدنا على سماعها، ولن تمل الأبحاث التربوية والسياسية من إطلاقهاإنها مصطلح الإستراتيجية.

 وأخصُّ الأعمال احتياجا للإستراتيجيات العمل المتمحور حول الطاقات البشرية، وأعقد الإستراتيجيات تلك التي تتعامل مع العقول البشرية، نظرا لتعدد العقول وما يتبعها من اختلاف في آليات التفكير، تبعا لما غذيت به من أفكار واتجاهات وقيم، ولذلك فإن إعداد الإستراتيجية لعمل من هذا القبيل هو عمل خطير، يشير إلى أن من وضع تلك الإستراتيجية قد أخذ بعين الاعتبار أنه سيواجه كما لا بأس به من التنوع الفكري بين من سيتعامل معهم، ونادرا ما تجد اثنين متطابقين في فكر واحد تطابقا تاما، إذن فالمهمة صعبة، وتكاد تكون عسيرة المنال، ما الحل إذن؟

 لعل الإجابة عسيرة وغير ممكنة للوهلة الأولى على ما قدمت آنفا، ولكن دعونا نستعين بمصطلح آخر، لعله يكشف عن بعض ما نريده في هذه الوقفة، إنه مصطلح "ديناميكية التبئير المعرفي".

 لو حاولنا تفكيك بنية هذا المصطلح لغويا لوجدنا أنه يشير إلى مركزية المعرفة المتجددة، وأقصد بالذات بالمركزية دوران المعرفة حول بؤرة معينة مركزية يتفق عليها الجميع، ولا يرون فيها اختلافا كبيرا، إلا في بعض الجوانب غير المؤثرة في عصب الفكرة المطروحة، والاختلاف حول تلك القضايا لا ينقض الاتفاق حول تلك الفكرة العصب، وهنا يمكن التغلب على الاختلافات في الأفهام حول الإستراتيجية وتطبيقها، وهذا هو الخيط الأول.

 أما المعرفة المشار إليها في المصطلح الآنف الذكر، فإنها ليست المعرفة المستفيضة المنبسطة، وإنما المعرفة المقترنة بالبؤرة المراد الحديث عنها، وهي هنا مجال تخصصك، فإذا كان التخصص هو الحكم فإن الاختلافات أيضا ستضيق، ولعلها ستتلاشى، فإذا التقت المركزية بمفهومها السابق مع المعرفة التخصصية نكون قد حققنا ثلثي ما نريد من بناء إستراتيجية معلومة الأهداف ومعروفة الغاية والنتيجة.

 ويبقى الثالوث الأخير في هذا المصطلح، وهو ديناميكية تلك المعرفة المركزة، وينبه مصطلح الديناميكية إلى شيئين اثنين:

* الأول: تجدد المعرفة التخصصية، وهذا يعني بالضرورة تمدد تلك المعرفة إلى كثير من الفرعيات والتخصصات الجانبية.

* الثاني: اتساع المعرفة التخصصية ذاتها، لتكون ذات تمددات معرفية أخرى لها صلة بغيرها، وهنا تبدأ المسألة بالتشتت مرة أخرى، فكيف يمكن أن يساعد هذا الجانب من المعرفة الديناميكية المتحركة أفقيا وعموديا في رسم إستراتيجية واضحة المعالم.

 إن أخطر ما في رسم الخطة الإستراتيجية هو السيطرة على نهر المعلومات المتدفق، وكثيرا ما أربك هذا التدفق كثيرا من الإستراتيجيات وعقد المسائل، وأصبح المجدفون يحركون أذرعهم بلا هدف، فلا ساحل أمامهم ولا شاطئ لسفنهم، وعليه لا بد لمن يضع تلك الإستراتيجيات أن يوجه مراكبه، ويضبط أشرعتها حتى لا يحرفها سيل المعرفة المتدفق عن مسارها، والذي لن يكون ذا مدلول إيجابي في غالب الأحيان، ولذلك لا بد من العودة إلى مركزية المعرفة حول بؤرة محددة، عندها ستجد الإستراتيجية المناسبة المكتملة المعالم، ليكون لدينا ثلاثة أقانيم واضحة: المعرفة، الهدف، الغاية.

 والآن نسأل السؤال الآتي: هل فكرت كمشرف تربوي بإعداد إستراتيجية للنهوض بعملك الإشرافي والارتقاء بالمبحث الذي تتولى مسؤولية الإشراف عليه مع معلميك في الميدان؟
إنه سؤال صعب ومربك، وشائك، إنني لأول وهلة أراني حائرا لا أستطيع أن أقول نعم، ولن أستطيع أن أقول لا، ما رأيكم أن نقول جميعا لعم!

 إنها حقيقة، لم نفكر بهذا، إذن فلنفكر من الآن على أن نخطط بشكل سليم، لينهض كل منا بمبحثه الإشرافي، في التربية الفنية والرياضية قبل اللغة العربية والرياضيات، أتدرون لماذا؟ لأنني يجب ألا أهمل قدرات عقلية متنوعة الأشكال لدى أبنائنا الطلبة، فما المانع أن نعتمد جميعا نظرية الذكاءات المتعددة بجوانبها المعروفة، لماذا لا يكون في حصة اللغة العربية جانب من التربية الفنية والموسيقية، وجانب من التفكير الرياضي المنطقي، والابتعاد، إلا في حدود ما هو مطلوب، عن تمحور الحصة حول الذكاء اللغوي.

 لماذا لا تكون حصة التعبير مجالا للتعبير عن الذكاء الاجتماعي والبيني في تعامل الطلبة معا، وإشراكهم في حوار حر حول مسائل واقعية غير افتراضية، وقد شهدت كثيرا من تلك الحوارات الإلكترونية الواعية، فقد كان الطلبة قادرين على قيادة حوار فعال ونقاش حي لا يخلو من عمق وتفكير.

 إذن، يجب أن أضع في إستراتيجيتي أن الطالب ذو قدرات عقلية متنوعة، لأستفيد من ذلك، وهذا جانب محدد يسهل التعامل معه، وآلياته واضحة، فلن أغرق في يم المتاهات، وعليّ بوصفي مشرفاً تربوياً مهمة تعريف المعلم بهذه الآليات، إما بالحوار المباشر، أو بإحالته للمراجع ذات الصلة، وعلى المعلم أيضا أن يأخذ هذا الأمر على محمل الجد، ويبحث وينقب ويبرمج التعليم لتحقيق هذا الجانب من جوانب الخطة الإستراتيجية، فأكون قد حققت مركزية المعرفة المتجددة وحصرتها في بؤرة واضحة، ومرئية لكلينا: المعلم والمشرف التربوي.

 هذا كان مثالا ضربته لحصر المفاهيم ودلالة المصطلحات التي أسست عليها هذا المقال، والآن وبعد أن تناولنا شيئا من جوانب الطالب والمعلم، وتكاملهما معا لتحقيق الهدف، بقي أن نبحث أخيرا في المحتوى التعليمي.

 وليكن معلوما بداية أن المحتوى التعليمي هو أداة ووسيلة للتعليم وتلقي المهارات والتدريب عليها، وليس المقصود منه المعرفة بحد ذاتها، لاسيما في الصفوف السبعة الأولى الأساسية، ففي هذه المرحلة تتوخى السياسة التربوية في المقام الأول وضع أسس التعليم المعتبرة لصقل العقليات والمهارات، وتنمية القيم والاتجاهات الإيجابية، ومعرفة هذا الأمر سيجعلنا نغير كثيرا من وجهة نظرنا نحو المحتوى التعليمي والتعامل معه، فنركز على ثماره في الأداء والقيم وبناء آليات التفكير في المحتوى نفسه، وعدم أخذه مسلمات، وتجنب حفظه ورسمه حروفا صماء في مخيلة تحفظ ولا تفكر، وهنا أكون قد حققت المقصود بتبئير المعرفة وتمركزها حول هدف معين، فلست معنيا كثيرا بذلك النهر المتدفق من المعلومات، وعليه لن يستطيع أن يجرفني معه، فقط أحتاج منه كمية معقولة لأتابع مسيرة بناء العقل، حتى إذا اكتملت العدة، واشتد الساعد واستدّ رميه، سهل على الطالب التعامل مع أي معرفة من أي مصدر كانت، وهذا جانب آخر ميسور وسهل.

وفي الختام أجمل ملامح التفكير في بناء الإستراتيجية في ثلاثة مرتكزات أزعم أنها أساسية:

• الطالب واستثارة ما فيه من قدرات عقلية متنوعة.

• المعلم ودفعه إلى الاستزادة والتعلم الذاتي لما يلزمه ليفهم طلابه جيدا، ويعطيهم حقهم في استثارة قدراتهم العقلية، وصقل مواهبهم.

• المحتوى التعليمي وطريقة التعامل معه، بوصفه مادة تعليمية لصنع الشخصية عبر آليات محددة من التلقي، وليس مادة ثقافية للحفظ والتعليب.

                                                           بقلم: فراس حج محمد