أعلنت بلدان عديدة في ظلّ أزمة كورونا إغلاق المؤسسات التعليمية، والانتقال إلى التعلّم والتعليم عن بعد، باستخدام التعلّم الإلكتروني، وتحديداً بواسطة الإنترنت ووسائل التكنولوجيا المتعدّدة، وكأنما الموضوع بسيط جداً، كانتقال قبطان الطائرة من القيادة العادية إلى القيادة باستخدام الطيّار الآلي (لست متأكداً من مدى بساطة الأخيرة، ولكنها تبدو في الأفلام السينمائية كأنها لا تحتاج سوى إلى الضغط على زر الطيار الآلي). وبالطبع، للإصرار على بذل كل الجهود للاستمرار بعملية التعلّم ما يبرّره ويدعمه، من حيث المحافظة على استمرار عملية التعلّم، وإشراك الطلبة بأنشطة تعلمية مفيدة، خلال وجودهم معظم الوقت في البيوت، ما يخفف من التبعات النفسية والاجتماعية السلبية. ولا مكان في الظروف الحالية للسؤال: أيّهما أفضل؟ التعلم عن بعد أم في غرفة الصف؟ السؤال المنطقي: كيف نقوم بالتعلم والتعليم عن بعد بطريقة فاعلة، تحقق أكبر فائدة ممكنة، وأقلّ الأعباء على أطراف العملية التعلّمية / التعليمية، وطبعاً بما يتوافق مع المرحلة العمرية؟
ولا شك أن المؤسسات التعليمية التي تمارس التعلم الإلكتروني في الأوضاع الطبيعية ستكون أكثر جاهزيّة للانتقال إلى التعلّم عن بعد، إذا اعتاد معلموها وطلبتها استخدام مصادر إلكترونية للتعلم في الصف أو خارجه، كما أن هنالك فروقا بين المراحل التعليمية المختلفة، مدرسية أو جامعية. وأول ما يتم التفكير به عند التخطيط لممارسة التعلّم عن بعد هو الأدوات والوسائل الإلكترونية التي سيتم استخدامها، وتحديداً المنصّات الملائمة لهذا النوع من التعلم، وهي كثيرة،
  وتكاد تكون جميعها تحقق الأهداف نفسها. أما في المناطق التي لا توجد فيها البنية التحتية التكنولوجية المناسبة، ففي الإمكان تطبيق التعلّم عن بعد من خلال تبادل المواد التعلّمية / التعليمية الورقية بين المعلمين والطلبة. ويتيح عديد من هذه المنصات المجال للتواصل المباشر بين المدرّس والطلبة بشكل جماعي وكأنهم في غرفة الصف، ويتم شرح الدروس، والقيام بأنشطة تعلمية، ويتفاعل المشاركون في ما بينهم. وبالإمكان أيضاً تسجيل هذه اللقاءات المباشرة، بحيث يستطيع الطالب العودة لها في الوقت الذي يريده. أمّا الطريقة الأخرى فهي توفير دروس مفصّلة للمتعلمين عبر منصّات إلكترونية معينة، بحيث تتضمن هذه الدروس أهدافا تعلميةً وأنشطةً ومراجع ومواد وتكليفات تعلّمية، وينفّذ المتعلمون المهام المطلوبة في هذه الدروس، كلٌّ في الوقت الذي يناسبه...

 وأخيراً تصميم مهام لتقييم أداء المتعلّمين، ومدى تحقق المخرجات التعلّمية لديهم. ولو افترضنا أن ذلك كله تمّ، وبالإمكان عملياً إنجازه، خصوصا أن استخدام التكنولوجيا في التعليم والتعلّم يتنامى بشكل مضطرد، وأن معلمات ومعلمين كثيرين يمتلكون المهارات الأساسية اللازمة لذلك، ومؤهلون للتخطيط لدروسهم ولتصميم أنشطتهم، يبقى عنصر استعداد المتعلّمين (الطلبة) للمشاركة في هذه العملية، والاندماج فيها، وتحقيق الفائدة المرجوّة منها.

 وعلينا التذكّر باستمرار أن الهدف من كل هذه العملية هو تعلّم الطلبة، وعلينا عدم الخلط بين ذلك وبين قيام المعلمين بالتعليم، إذ قد يقوم المعلمون بأفضل ما لديهم من حيث التعليم، ولكن قد لا يتعلّم الطلبة إلا القدر اليسير. من حيث امتلاك (المتعلّمين) الطلبة مهارات استخدام التكنولوجيا فلا داعي للقلق، فلدى معظم الطلبة، صغاراً كانوا أم كباراً، هذه المهارات. ومع بعض التدريب البسيط، بإمكانهم تجاوز أي صعوبات قد تواجههم على هذا الصعيد. يبقى التحدّي الذي يعدّ الأصعب، جاهزيّة الطلبة من حيث مهارات التعلّم، فالطالب يحتاج أن تكون لديه الدافعية الذاتية للتعلّم والقدرة على التنظيم وإدارة الوقت والتواصل بشكل فعّال. ويبدو لي أن هنالك حاجة لتطوير هذه المهارات لدى الطلبة، بمعزل عن الظروف الحالية، حيث تُعتبر هذه المهارات ضرورية في عصرنا الحالي، وكل إنسان يحتاجها للنجاح في دراسته وحياته العملية وحياته العائلية والاجتماعية أيضاً. وربما من المفيد أن تقوم كل مؤسسة تعليمية الآن بتقييم مدى توفر هذه المهارات لدى طلبتها، ووضع الخطط لتنميتها في المستقبل. وتتطلب تنمية هذه المهارات خططا وأنشطة تعلمية، كغيرها من المهارات الأكاديمية التي يتم تعليمها، ويحتاج ذلك للوقت الطويل والجهد الكبير، ولا يتأتّى إنجازه سريعاً. ولما كانت هنالك فروق فردية بين الطلبة في هذا المجال، فإن أهالي الطلبة الذين يعانون من نقصٍ في هذه المهارات سيعانون مع أطفالهم في متابعة التعلّم عن بعد، فبعض هؤلاء الطلبة يفتقرون للدافعية، ما يتطلب من أهاليهم متابعتهم عن كثب، وبالتالي تزداد الأعباء عليهم.

 بناء على ما سبق، لا أعتقد بوجود وصفة موحدة لجميع المؤسسات التعليمية لتطبيق التعلّم عن بعد، إذ هنالك عدة عوامل تحدّد الطريقة التي يجب اتباعها، ابتداء من المرحلة العمرية ومروراً بالبنية التحتية التكنولوجية ومدى تطبيق المؤسسة للتعلّم الإلكتروني، أي استخدام التكنولوجيا في التعلم خلال الأوضاع العادية. وبالتالي مدى جاهزيّة المعلمين والطلبة لتطبيق ذلك، وانتهاء بمهارات التعلم لدى الطلبة، ومدى اهتمام المؤسسة في تنمية هذه المهارات لديهم، بالإضافة إلى مدى وجود أحد الوالدين في البيت لمساندة الطالب المدرسي ومتابعته. وعليه، قد يكون مناسبا لمؤسسة تعليمية ما أن تطبّق هذا النوع من التعلّم بهدف استمرار العملية التعلّمية/ التعليمية بشكل طبيعي، كما لو أن الطلبة موجودون في الصفوف، بينما تطبّق مؤسسة أخرى ذلك بهدف البقاء على صلةٍ بالطلبة، وإشراكهم بأنشطة تعلّمية لا ترتبط بالضرورة بالمنهاج التعليمي، وإنما تعمل على تخفيف الآثار الاجتماعية والنفسية التي قد تنتج عن بقائهم في البيوت. ولكن كي تُحقق هذه العملية فوائدها المرجوّة، وكي لا تتحول إلى عبء أشبه بكابوس للطلبة أو الأهالي أو المعلمين، لا بد من مراعاة الأمور التالية:
   ♦ المطلوب من المدرسة: تنظيم جدول لقاءات مباشرة مع الطلبة مخفف، بحيث لا يشكل عبئاً على الطلبة والأهالي، خصوصا في البداية، وبالإمكان زيادته تدريجياً. والتركيز على تقديم مواد ومهام تعلمية إلكترونية متنوعة للطلبة، بحيث تناسب مختلف أنماط التعلّم، ويستطيع الطلبة تنفيذها كل حسب سرعته ووتيرة عمله.

   ♦ المطلوب من الأهل: توفير بيئة عمل ملائمة للطالب في البيت، مثل تخصيص مكان منفصل قدر الإمكان عن الأنشطة المنزلية الأخرى، وإشراك الطالب في اتخاذ هذا القرار. مساعدة الطالب في تجهيز نفسه لمواعيد اللقاءات المباشرة وارتدائه ملابسه استعداداً للعمل. تحفيز الطلبة على العمل، وتنفيذ التكليفات ومساعدتهم على تنظيم أوقات عملهم، وعدم ضغطهم بشكل مبالغ فيه، وعدم محاولة تحويل المنزل إلى رديف للمدرسة. التواصل مع المعلم/ة مباشرة بشأن أي استفسارات أو ملاحظات أو اقتراحات. عدم الشعور بالإحباط إذا لم يحقّـق الطالب الأهداف التعليمية بشكل كامل، والتواصل مع المعلم/ة بهذا الخصوص، للتفكير بأنشطة تكميلية. القيام بأنشطة ترفيهية مع الطالب خلال اليوم، لا علاقة لها بالتعلم عن بعد، وترتيب لقاءات للطالب مع الأصدقاء عبر الإنترنت.

إعداد: محمود عمرة (بتصرّف)

أضف تعليق


كود امني
تحديث