كثيرا ما تتدخل المعارف والعلوم فتتبادل التأثير ويغذي بعضها بعضا، ومن ذلك ما وقع بين المنطق والبلاغة طوال العهد العباسي إبان انفتاح الثقافة العربية على غيرها من الثقافات المتحضرة.
ويتميز هذا التداخل بأنه كان ينبع من الفلسفة والمنطق ويصب في البلاغة وليس العكس، وسبب ذلك أن المنطق لا يحتاج لأي علم من العلوم، بينما العلوم الأخرى تحتاج إليه. مما جعل بعض المناطقة ينظرون إليه باعتباره المدخل لكل العلوم، فقد ذهب أرسطو إلى أن "المنطق نسق من القواعد التي يمكن أن يتم الاستنباط وفقا لها. وهذا يعني أن العلوم الأخرى لا بد وأنها تحتاج المنطق كعلم للاستنباط"[i].
وهذا التداخل الأحادي الحاصل من أحد الطرفين دون الآخر لا يخص المنطق والبلاغة وإنما يعم الأدب والنقد والمناهج الأدبية، ففي قرننا الواحد والعشرين نجد الفلسفة والعلوم الطبيعية في الغرب قد أثرت في الأدب والنقد والأبحاث اللغوية مما أدى إلى ظهور كثير من المناهج كالبنيوية والأسلوبية والسيميائية، وهو أمر يوضح أن الفلسفة والعلم يؤثران في الأدب وما يتصل به من نقد ومناهج، بل إنهما أكثر من هذا يؤثران في الفنون عامة.
وبالرجوع إلى الثقافة العربية نجد المنطق قد أثر فيها كثيرا بحيث أفاد منه علم الكلام والفلسفة، وأفادت منه العلوم الدينية كالأصول، وأفاد منه النقد الأدبي في بعض مناهجه، وتتجلى إفادة هذه العلوم من المنطق في ضبط مناهجها وجعلها قائمة على البحث الدقيق المحكم، وليس في نيتي الكلام على تأثير المنطق في العلوم بهذا المعنى الواسع، فهذه الكلمة لا تنهض بذلك، وليس من اختصاص صاحبها، وإنها المراد محاولة حصر أثر المنطق في البلاغة بوجه عام.
وإذا استعرضنا تأثير الفلسفة وفروعها من المنطق والكلام في البلاغة فإننا نجد أن هذا التأثير كان قويا واسع المدى يشمل جميع مراحل عمرها، فقد نشأت البلاغة في أحضان كثير من العلوم كان المنطق والكلام على رأسها، والدليل على هذا أن أكثر البلاغيين كانوا يتعاطون الفلسفة والكلام، وأذكر منهم بشر بن المعتمر، والجاحظ، وقدامة بن جعفر، وعبد القاهر الجرجاني، والزمخشري والسكاكي وغيرهم كثير، وقد كان لصلة رجال البلاغة بالفلسفة أثرها في توجيه الأبحاث البلاغية توجيها كلاميا فلسفيا مما جعل بعض الباحثين يذهب إلى القول بأن البلاغة كانت وديعة في يد المتفلسفين على مر الدهر.
ولتأثير الفلسفة بمنطقها وكلامها في البلاغة صور ومظاهر كثيرة: منها أن المتكلمين وضعوا المصطلحات وأمدوا بها البلاغة أثناء نموها وتكوينها بحيث استفادت من ذلك في وضع أسسها وتدعيمها وجعلها نشاطا خاصا قائما بذاته، ومنها أيضا ظهور الفنون البلاغية على يد الباحثين في الإعجاز وأغلبهم من المتكلمين الذين تمثلوا المنطق واعتمدوا عليه في أبحاثهم الاعتقادية، ومنها كذلك النزعة الجدلية الحجاجية التي سيطرت على البلاغة ولا سيما عند المتكلمين، ومنها الكلام على أوجه الحسن الفلسفي كما نجد في البيان، والكلام على الأسباب والمسببات كما نجد في المجاز المرسل، والكلام على الفاعل الحقيقي والفاعل المجازي كما نجد في علم المعاني، وهي مسألة أدت إليها الفلسفة الإلهية[2].
وازداد تأثير المنطق في البلاغة قوة عند المتأخرين، فالسكاكي مثلا حين ألف كتابه مفتاح العلوم في العلوم الأدبية أردف علوم البلاغة بالبحث المنطقي في الحد والاستدلال وعلل ذلك بأن "تتبع تراكيب الكلام الاستدلالي ومعرفة خواصها، مما يلزم صاحب علم المعاني والبيان"[3]، فقد جعل معرفة المنطق –كما ترى- ضرورية لمن يتعاطى البلاغة، فهو عنده عمادها الذي تقوم عليه، ومن ثم تكلم على البلاغة والمنطق في كتاب واحد.
ونظير هذا التأثير القوي تلك المداخل المنطقية التي ذكرها البلاغيون المتأخرون كمقدمة أو تمهيد للبيان، وتنصب على الدلالة وشروطها وأقسامها الوضعية، والعقلية، وقد أفضى هذا التأثير إلى ظهور مدرستين في البحث البلاغي نص عليهما أبو هلال العسكري بقوله: "وليس الغرض في هذا الكتاب سلوك مذهب المتكلمين، وإنما قصدت فيه مقصد صناع الكلام من الشعراء والكتاب، فلهذا لم أطل الكلام في هذا الفصل"[4].
فالعسكري في هذا النص يذكر مدرستين في البحث البلاغي هما: المدرسة الكلامية، والمدرسة الأدبية، ويسميها "صناع الكلام" وسألقي على كل مدرسة نظرة موجزة لتتضح معالمها.
1 ـ المدرسة الكلامية: وتتميز بالجدل والمناقشة والتحديد اللفظي، والعناية بالتعريف الدقيق الصحيح، والحرص على القواعد المحددة مع الإقلال من الشواهد الأدبية، والاعتماد على المقاييس الفلسفية والقواعد المنطقية في الحكم بحسن الكلام وجودته أو بقبحه ورداءته دون نظر إلى معاني الجمال وقضايا الذوق.
وتعنى المدرسة الكلامية –غالبا- بإعجاز القرآن الذي هو ملتقى ما بين الأدب والعقائد والفلسفة الإلهية وما أشبهها.
2 ـ المدرسة الأدبية: وتتميز بالإكثار من الشواهد نثرا وشعرا، مع الإقلال من التعاريف، والقواعد والأقسام، وتعتمد في النقد الأدبي على الذوق الفني والحاسة الجمالية أكثر من اعتمادها على المقاييس الفلسفية وسلامة النظر المنطقي.
وتعني هذه المدرسة بالتكوين الأدبي والتمرين على صناعة الجيد من الكلام، وتربية الذوق النقدي، وعندما تخوض في مسألة الإعجاز تخوض فيها خوضا أدبيا غالبا[5].
ومن رجال المدرسة الأدبية عبد الله بن المعتز في كتاب البديع حيث نجده يقتصد في التعاريف ويسوق للفن الواحد عشرات الأمثلة والشواهد من القرآن الكريم، والحديث الشريف، وكلام الصحابة، والشعر القديم والمحدث. ومنهم أيضا عبد القاهر الجرجاني في كتابه أسرار البلاغة حيث تكلم على أساليب البيان وقارن بينها وذكر لها من الشواهد مصحوبة بتحليل جمالي دقيق يزخر بكثير من الإشراقات الأسلوبية، ومنهم كذلك ابن الأثير في كتابه المثل السائر الذي سار فيه على طريقة الأدباء في ذكر الشواهد وتحليلها اعتمادا على الذوق الفني.
ومن رجال المدرسة الكلامية قدامة بن جعفر في كتابه نقد الشعر. ففي هذا الكتاب نرى الطريقة المنطقية الكلامية جلية، وذلك إذ يتحدث قدامة عن المديح فينظر إلى مذهب أفلاطون في أصول الفضائل الأربع وأمهاتها: من العقل، والشجاعة، والعدل، والعفة، ويرى أن القاصد لمدح الرجال بهذه الخصال مصيب، والقاصد إلى مدحهم بغيرها مخطئ[6].
ويتجلى تحكيم القواعد الفلسفية في نقد المعاني الشعرية حين يتكلم قدامة على الهجاء بالغدر فيقول بأن هذا الفعل إنما هو من أفعال أهل الجهل والبهيمية والقحة التي هي القوة المميزة كما قال جالينوس[7] في كتابه في أخلاق النفس[8].
ويعتمد قدامة كذلك على الفلسفة حين يفاضل بين المغالاة وغيرها فيقول: "إن الغلو عندي أجود المذهبين وهو ما ذهب إليه أهل الفهم بالشعر والشعراء قديما، وقد بلغني عن بعضهم أنه قال: أحسن الشعر أكذبه، وكذلك يرى فلاسفة اليونانيين في الشعر على مذهب لغتهم"[9].
وقد حذا أبو هلال العسكري حذو قدامة في اعتماد المنطق وإن لم يبالغ مثله، وذلك إذ ذهب إلى أن المدح إنما يكون بالفضائل الأربع، وأن الهجاء إنما يكون بسلب تلك الصفات المستحسنة التي تختصها النفس[10]. ويدخل في هذا المجال كلامه على خطأ المعاني وصوابها وأقسامها كما جاء في الفصل الثاني من كتابه[11].
وإذا نظرنا في القرون التالية فإننا نجد المدرسة الكلامية قد خطت خطى بعيدة على يد السكاكي الذي جعل البلاغة أبوابا وفصولا وفرع مسائلها وشقق أقسامها ووضع لها الحدود المركزة والقواعد المحددة بحيث تغلغل فيها المنطق وأصبحت كثير من أساليبها لا تفهم إلا به ومن خلاله.
وبالرجوع إلى تاريخ البلاغة واستعراض ما كتب فيها إلى عصرنا الحاضر نجد أن المدرسة الكلامية الفلسفية غلبت على البحث البلاغي بحكم سبق الاتصال الكلامي بحياة البلاغة ومواكبته إياها طوال عمرها، وقد أدت هذه الغلبة إلى انفصال البلاغة عن النقد منذ القرن الرابع الهجري على يد أبي هلال العسكري[12]. بحيث أصبحت متقدمة الوظيفة، تسبق الإبداع، فالبلاغي يضع القواعد والقوانين ويطالب الأديب بتطبيقها واحتذائها والنسج على منوالها، بينما بقي النقد كما كان متأخر الوظيفة يأتي بعد إنشاء الكلام الفني لينظر فيه وفق مقاييس نقدية يقدر بها الكلام لبيان ما فيه من محاسن ومساوئ.
وقد أدى انفصال البلاغة عن النقد تحت تأثير الفلسفة وما يدخل تحتها من منطق وكلام إلى ظهور المنهج التقريري في مقابل المنهج الفني التأثري، ويتميز المنهج الأول بأنه منهج عقلي علمي يقوم على التعاريف والتقاسيم، ويصدر عن آراء سابقة في موضوعات الأدب ومعانيه ويحاول أن يخضع لها الشعراء والكتاب، مما جعل بعضهم يمقت هذا النوع من التحكم في الإبداع، يقول البحتري[13]:
كلفـتـمونا حدود منطقـكم في الشعر يغنى عن صدقه كذبه
ولم يكن ذو القروح يلهج بالـ ـمنطـق، ما نوعه وما سببـه
والشعر لمـح تكفى إشارتـه وليس بالهـذر طولـت خطبـه
أما النهج الثاني فيتميز بأنه فني ذاتي يقوم على تأثير الناقد وعلى القواعد والأصول الفنية لنوع الأثر الأدبي، وهو أصيل في الأدب العربي عرفه النقاد قبل تأثرهم بالفلسفة اليونانية بخلاف الأول.
وبعد الكلام على أهم مظاهر التأثير للفلسفة بمنطقها وكلامها في البلاغة نصل إلى سؤال يفرضه المقام، وهو: هل ذلك التأثير؛ وإن شئت هل ذلك التداخل أفاد البلاغة أم أنه أضر بها؟
الواقع أن تأثر البلاغة بالفلسفة قد أفادها في بعض المواطن، أفادها من حيث العناية الفائقة التي أولاها المتكلمون إياها إذ أمدوها بوضع المصطلحات أثناء نشأتها ونموها مما عجل باتساع أبحاثها وظهور أبوابها واستقلال علومها.
ولكنه في المقابل أضر بها حين ضيق ميدانها وجعل أبحاثها –كما يقول بعض الباحثين- لا تتعدى دائرة الجملة التي رأوها نظيرة القضية[14]. وهذا واضح في علومها، فالبحث في علم المعاني إنما هو بحث في طرفي الجملة -المسند والمسند إليه- وتوابعها، وكذلك البحث في البيان. فهو لا يتجاوز دائرة الجملة أو بعض الجمل التي تنزل منزلة الجملة الواحدة كما في التشبيه المركب وكذلك المجاز.
وأضر التأثير المذكور بالبلاغة أيضا إذا جعلها تنفصل عن النقد وتعتمد المنهج التقريري، وموطن الضرر هنا أن البلاغة أصبحت تعليمية معيارية ترمى بقواعدها وتقنيناتها إلى خنق الإبداع، وهو أمر له ضرره الواضح على الأدب لأنه ضد حرية الابتكار، فالذي يتقيد بوصايا المنهج العقلي التقريري لا يصدر –في الغالب- عن طبعه ولا ينتج أدبا صحيحا.
وأكثر من هذا أن خضوع البلاغة للمنهج التقريري بروحه العلمية التعليمية قد أبعدها عن تلك الإشراقات الجمالية التي نجدها عند بعض البلاغيين كعبد القاهر الجرجاني، فقد عمد السكاكي إلى أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز وجردهما مما يزخران به من تحليل فني وتعليل جمالي ونفسي للأساليب والشواهد وجرى وراء التقاسيم والقواعد، وتبعه في ذلك الخطيب القزويني وجميع الشراح، مما جعل البحث البلاغي ناقصا قاصرا من هذه الناحية. وصح بهذا ما قاله القدماء في حكمهم المجمل على البلاغة "بأنها علم لا نضج ولا احترق"[15].
واعتقد أنه لإنضاج البحث البلاغي دون إحراقه لا بد من جعل ميدانه أكثر سعة وأكثر خصبا، بحيث ينصب –إلى جانب الجملة-على الأساليب ويبين أوجه اختلافها وتفاوتها ومزاياها، ويسعى فوق هذا في مجال التشبيه والاستعارة والكناية إلى ما وراء المستوى الدلالي الظاهر، بحيث يقف على المستوى الجمالي أو النفسي أو الحضاري أو ما إلى ذلك مما يكمن وراء المعنى الجزئي للصورة.
ولإنضاج البحث البلاغي دون إحراقه أيضا لا بد من الرجوع به إلى أحضان النقد بحيث ينظر البلاغي في الإبداع بعد وجوده، ويزاول في تلك النظرة بين الموضوعية والذوق الفني، ويتجاوز تحليل الشاهد الواحد إلى تحليل النص برمته بحيث يستخرج ما يزخر به من علاقات ويكشف عن تشابكها وتفاعلها في خلق النص الأدبي، فهذا سبيل البلاغة الصحيح، وصدق الأستاذ أمين الخولي إذ سمى كتابه في البلاغة فن القول ولم يقل "علم القول" لأن الكلام الفني لا تكون أداة فهمه إلا فنية جمالية.
المراجع: