إنّ الاضطرابات الجوهرية التي تشهدها الإنسانية اليوم خاصة مع ضبابية القيمة والجدوى والمعنى، وغيرها من ركائز قامت عليها حضارة الإنسان، تدعو إلى إعادة التفكير في مدى صحة الحديث القديم المتجدد عن نهايات الفلسفة، بينما هي الوسيلة الأولى لإنقاذ البشر اليوم. "العرب" كان لها هذا الحوار مع الباحثة والكاتبة اللبنانية مارلين إيلي كنعان حول أهمية الفلسفة وأدوارها.
 
تمثلت وظيفة الفلسفة في انتشال العقل من الركود والانطلاق بالفكر إلى مدى أبعد من أطر الوثوقيات العقائدية، وصياغة الفرضيات بشأن كل ما يبدو غامضا ومجهولا بالنسبة إلى الكائن البشري من غاية الحياة والموت والمصير، وما يمنح هذا النشاط العقلي مرونة في التجدد هو رفضه لمنطقة الراحة والسكونية إذ يستمد مسوغه من مناوشة المنحوتات الفكرية السائدة أوما يتخذ شكل المسلمات في أفق النظر والفهم.
 
قد يذهب البعض إلى أن الفلسفة في العالم اليوم فقدت صلاحيتها ولم يعدْ وجودها ضروريا لأن صوت التقانة العلمية لا تعلو عليه الأصوات، لكن يغيب لدى أصحاب هذا الرأي أن أزمة الحياة المعاصرة تكمن في قلة الاهتمام بالمسعى الفلسفي. إذ يحسب للعلم كل ما تحقق من الوفرة والتحرر من ربقة الجغرافيا واكتشاف الهندسة الجينية فذلك لا يعني بأن الارتداد إلى الهمجية لم يعدْ ممكنا لأنه لا يوجد مكسب تاريخي لا رجعة منه، حسب تعبير إدغار موران.
 
حول موقع الفلسفة في الحياة المعاصرة وما يمكن أن تقدمه الأفكار الفلسفية على صعيد جودة الإدراك والتبصر بفرصة الإنسان الوجودية تتحدث الباحثة والكاتبة اللبنانية مارلين إيلي كنعان، وهي أستاذة الفلسفة والحضارات في جامعة البلمند، نشرت أكثر من 70 دراسة علمية باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية، إضافة إلى نشاطها الأكاديمي تواظب على كتابة مقالات ذات منحى فكري في المنابر العربية كما شاركت في كتابة فصل عن الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي في الجزء الأول من موسوعة الفلسفة العربية المعاصرة التي تصدر من دار صوفيا بالكويت.
الفلسفة مستمرة.
 
الفلسفة ليست نسقية متعالية هي الدواء ضد رعب كل ما لا يتزحزح عن مكانه وضد كل ما هو ثابت ونهائي:
 
العرب: يبدو للمتابع بأن العالم لا يحتاج إلى المزيد من الأفكار والمبادرات، بقدر ما يتطلب الوضع التأمل في ما تحقق إلى الآن ومناقشة حصيلة الحراكات التي كانت لها قاعدة فلسفية برأيك من يقوم بهذه المهمة؟
 
مارلين كنعان: أولا يخطئ من يظن أن الفلسفة عبارة عن أفكار وآراء وتصورات وتخزين للمعارف. هي السؤال وسط الضجة عن العالم وضيقه، عن حلوه ومره، عن الذات والآخر، عن الكره والحب، عن الصداقة والشيخوخة، عن تجربة المرض والموت، عن الدولة والفرد، عن معنى الوجود كله وعما ابتدعه الإنسان من معارف وعلوم. وهي كذلك التحليل والفكر النقدي المتواصل الذي يواكب كل الإنجازات.
 
باختصار الفلسفة هي السؤال الذي يرافق وجود الإنسان ومشكلاته وهمومه، وأفعاله وإنجازاته، واختياراته وقراراته اليومية… ولعلها أيضا الابتعاد عن الفكر الواحد، وإن كان صحيحا والقبول بالاختلاف. بمعنى أن الفلسفة مرادف للنقاش الذي يتناول كل شيء، ما تحقق من أفكار وحراكات، وما لم يتحقق بعد. هي حوار مع النصوص التراثية والأدبية والدينية والفلسفية. الفلسفة ليست إذا نسقية متعالية. هي الدواء ضد رعب كل ما لا يتزحزح عن مكانه، ضد كل ما هو ثابت ونهائي. وهذا السؤال كامن في طبيعة الإنسان.
 
 صحيح أن العامة تتهم الفلسفة بأنها مجموعة أفكار غارقة في التجريد والتعقيد. لكنها تنسى أو تتناسى أن هذه العمليات الفكرية ضرورية من أجل استقامة الفكر وصوابيته. ذلك أن العقل الفلسفي لا يكتفي بمعاينة الظاهر والفردي، بل يتعداهما ليتناول جوهر الأشياء بحد ذاتها.
 
كل منا مدعو للتأمل في ذاته ومراجعتها؛ مدعو للتأمل في ما تحقق من أفكار على كل المستويات الذاتية والمجتمعية. هذا جزء من عمل الفلسفة ولكنه أيضا جزء من عمل العلوم الإنسانية. قد أذهب حد القول إن هذا التأمل جزء من عمل الأدب والعلم والمعارف مجتمعة. ليست هذه المهمة محصورة إذا بالفلسفة وممارسي الفكر الفلسفي، علما أن الفيلسوف على ما يصفه المفكر اللبناني مشير باسيل عون "رقيب الزمان وحاكم الوعي وراعي الفكر".
 
العرب: رأى عدد من الباحثين بأن الفلسفة لم يعدْ لها موقع سوى أنْ تكون جزءا من اللسانيات. ما هي الآليات التي يمكن أن يراهن عليها النشاط الفلسفي للخروج من التبعية؟
 
مارلين كنعان: ليس صحيحا أن الفلسفة لم يعد لها موقع في عالمنا المعاصر وأنها جزء من اللسانيات أو تابعة للعلوم الأخرى. يهمني أن أشير إلى أن الفلسفة تجيء دوما متأخرة على ما تقول أسطورة إبيميثيوس وهو رمز للفيلسوف. يعني اسم إبيميثيوس حرفيا "الذي يفكر بعد الحدث أو الواقعة". قد يترجم البعض كلمة "إبيميثيس" اليونانية وهي تقع بمنزلة النعت إلى “حكيم حذر”. هذا بالضبط عمل الفكر. الفلسفة هي هذا التأمل الفكري الحذر الذي يلي الحدث أو يواكبه.
 
أظن، عكس ما تقول، أن كل العلوم مترابطة وهي بحاجة لبعضها البعض أو تابعة لبعضها البعض. والتبعية ههنا ليست بمعنى التراتبية، بل بمعنى الترابط والتضامن. ما نفع العلوم البحتة دون إبيستمولوجيا أي تأصيل النظريات المعرفية؟ وهل ثمة تكنولوجيا دون علم؟ أحب أن أقول إن العالم اليوم بما وصل إليه من تقدم في ميادين العلم المختلفة هو أكثر مما مضى بحاجة إلى الفلسفة. ليس المهم إنتاج المعارف، بل التفكر في تبعاتها، خاصة وأن التطور التقني والتكنولوجي لم يواكبه تطور على المستوى الإنساني.
 
إنّ الأصوات التي نسمعها اليوم والتي تعلن قرب انتهاء الفلسفة أو الزعم بأنها فقدت موقعها أو أنها جزء من اللسانيات أو غيرها من العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبالتالي يمكن الاستغناء عنها، هي أصوات تصدر عن جهل بماهية الفلسفة ومعناها ووظيفتها. ليس من علم دون فلسفة. ما معنى التقدم العلمي والتكنولوجي والصناعي دون فلسفة، أي دون تفكر يرافقه؟ سيصبح هذا التقدم آلة للقتل والتدمير أو سيحول الإنسان إلى مستهلك؟ الفلسفة تواكب العلم والتكنولوجيا والطب والنصوص الأدبية. ثمة مجالات لا يمكن تنظيمها وحل مسائلها بالعلم وحده، فلا بد من الفلسفة. ماذا عن الأسئلة الأخلاقية المتعلقة بالهندسة الجينية؟ يكفي أن ننظر إلى المجتمعات التي لم تعرف الفلسفة أو غيبتها أو سخفتها، لنفهم ضرورتها. نحن لا نكتب ونقرأ ونفكر ونحلل لنغير العالم، بل لنغير أنفسنا. لكن، من يستطيع أن يغير نفسه أليس بإمكانه أن يساهم في تغيير العالم أيضا، أو، على الأقل، أن يحلم بتغييره؟
 
ثمة حديث عن "النهايات" يطال كل شيء مهدت له نهاية الألفية الثانية وغذته مسارات العولمة والثورة الرقمية:
 
 قلت في سؤالك "رأى عدد من الباحثين". من هم هؤلاء؟ ما هي الأسس العلمية والمنطقية التي أقاموا عليها استنتاجهم؟ كيف نقيم آراء العلماء أو الباحثين في الفلسفة؟ بشكل عام، صفة "الباحث" توحي سلفا بأن المتحدث شخص رفيع المستوى ذكائيا ومعرفيا. لكن القدرات العقلية والعلمية مهما كانت رفيعة المستوى لا تصنع وحدها من صاحبها عالما ومرجعا في كل المجالات. هذا يعني أن باحثا ضليعا في الفيزياء مثلا، ليس بالضرورة ضليعا في الفلسفة. في ميدان الفلسفة نقيم وفق معايير الفلسفة. هذا كلام عديم القيمة بالمعيار العلمي نفسه، ورأي هؤلاء "الباحثين" مجرد رأي شخصي.
 
 الحديث عن موقع الفلسفة في العالم المعاصر أو ذوبانها في معارف أخرى جدل قديم. لكن استمرار السؤال الفلسفي وظهور كتابات فلسفية جديدة وفلاسفة جدد وإقبال القراء على قراءة نتاجهم واستمرار دراسة الفلسفة في الجامعات، ولو قل عدد الطلاب المنتسبين إلى قسمها بسبب طغيان التكنولوجيا والاهتمام بالمردود المالي، لدليل على فقدان هذه الآراء السلبية مصداقيتها.
 
أحب أن أؤكد أن موضوعات الفلسفة تغيرت اليوم. قديما كان دورها تفسير الكون والظواهر الطبيعية. لكن مع الثورة العلمية والصناعية والتكنولوجية وما سمي خطأ "بالذكاء الاصطناعي" (وهو برنامج قائم على نسخ وسرقة محتوى) تغيرت موضوعات الفلسفة لتصبح نوعا من المنهج النقدي الذي يقارب كل ما ينتجه العقل البشري من علوم إنسانية وعلوم بحتة. كل شيء حتى يستمر عليه أن يراعي الواقع الزمني والتاريخي الذي ينسلك فيه.
المعارف في مأزق.
 
العرب: لماذا من بين العدد الكبير من الفلاسفة تعود أسماء معينة أمثال نيتشه وشوبنهاور وكيركغارد وألبير كامو إلى مجال اهتمام الإنسان المعاصر؟
 
مارلين كنعان: ثمة أسباب عديدة لتركيز الاهتمام حاضرا على أسماء بعض الفلاسفة كنيتشه وشوبنهاور وكيركغارد وألبير كامو وغيرهم، لراهنية الموضوعات التي تَفَكَّرُوا فيها، ولأنهم قدموا تحليلات نقدية جديدة جديرة بلفت انتباه الإنسان المعاصر. هذا التجديد النقدي في الفكر الفلسفي هو بالضبط ما يجعل نصوصهم مثيرة للاهتمام والدراسة.
 
ركز كيركغارد مثلا على الوجود الإنساني وعلى الذات والهوية الشخصية للكائن البشري والضيق واليأس والجمال والأخلاق والقيم والإيمان والحقيقة وغيرها من المسائل الوجودية التي ما زالت تخاطب إنسان اليوم. وكذلك فعل كامو وقبله نيتشه وشوبنهاور. عكست أعمال هؤلاء التغيرات الاجتماعية والثقافية التي حدثت في أيامهم، والتي ما زال بعضها على صلة بحاضرنا. إن الفلاسفة الذين ذكرتهم شخصيات عصية على التنميط خرجت عن الأنساق الفكرية المعروفة. أحب أن أذكر هذه العبارة لكيركغارد والتي تنسجم مع حوارنا حول الفلسفة: "في عصرنا، وبسبب التزايد العظيم في المعرفة، نسينا معنى أن نوجد". تذكرنا إذا كتابات هؤلاء الفلاسفة بوجودنا وبضرورة الاتصال بالمعنى الحقيقي للحياة. أظن أن كل فكر فلسفي حقيقي يصح في كل زمان ومكان. لكن علينا بلورة رؤية خاصة لماهية اشتغال الفيلسوف.
 
 الفلاسفة الذين ذكرت أسماءهم بعيدون عن الإغراق التجريدي. ركزوا في كتاباتهم على اختبار الوجود الإنساني الفردي، وحرصوا على نقل العبر وأمثولات التفكر الفلسفي للناس أجمعين. أظن أن الاهتمام بكامو وكيركغارد ونيتشه وغيرهم يعود إلى ابتعادهم عن التنظير الخالص كما في الفلسفات التجريدية الأخرى وتناولهم مسائل الخير والشر، والضمير والواجب، وحقوق الإنسان، والحرية والمسؤولية والعدالة، والرهانات التي تحملها قرارات الإنسان الحياتية. والسبب الأوضح في ذلك كله أن الناس يريدون أن يفهموا أنفسهم على الصعد الجسدية والنفسية والروحية، ويدركوا معنى وجودهم.
 
العرب: مع إعلان نهاية السرديات الكبرى وضمور القوة الإقناعية للمدارس الفلسفية هل يجب الاعتراف بأن الفلسفة بنسختها المؤسسية قد انتهت وهي أصبحت ضمن الاهتمامات الفردية وأداة لصياغة الحكمة الشخصية؟ 
 
مارلين كنعان: لطالما قدمت السرديات الكبرى تعليما أساسيا قادرا على جعل الإنسانية أكثر إنسانية. لكن الفكر الما بعد حداثي، أفكر بليوتار، رفض معاودة طرح الأسئلة الفلسفية الكبرى وأعلن "سقوطها" وسقوط اليقين المعرفي. هذا لا يعني برأيي انتهاء الفلسفة. فليوتار نفسه فيلسوف وكذلك فوكو وديريدا وغيرهم. في الزمن ما بعد الحداثي كل المعارف في مأزق. والمأزق يحث على التفكير.
 
منذ سنوات حدد جيل دولوز وفليكس غاتاري الفلسفة بوصفها “صناعة مفاهيم”. لكن إبداع المفاهيم هو بمعنى ما إبداعٌ للمعنى واستمرار هَمِّ التفكر الفلسفي. قبل أن أجيب عن سؤالك، يهمني أن أشير إلى أن العيش في زمن العولمة والجهل والتفاهة والسطحيات والمظاهر والهشاشة السياسية والثقافية والاجتماعية والبحث الحثيث عن الربح المادي، يجعل من الفلسفة أكثر من ضرورية. هذا ما لفت انتباهنا إليه نوتشيو أوردينه حين دافع في كل كتبه عن ضرورة دراسة الفلسفة واللغات والآداب الكلاسيكية كاللاتينية واليونانية والاهتمام بالبحث الحر، والخيال، والفن، والأدب، والتفكير النقدي، في زمن يسوق أن كل هذه الأشياء والدراسات من لزوم ما لا يلزم، علما أنه ينبغي، وفقا لمصطلحاته، أن تشكل هذه الدراسات " الأفق لكل نشاط إنساني".
بناء على ما تقدم يمكن القول إن الكلام عن انتهاء الفلسفة لا يقوم فعليا على أي أساس علمي موثوق. هذا جدل عام. ولكن مع ذلك يدفعنا هذا الجدل إلى السؤال عن سببه. ثمة تراجع للفلسفة التقليدية بدأ في القرن العشرين. لكن في موازاة هذا التراجع الذي سببته فلسفات القرن التاسع عشر بما فيها السرديات الكبرى، والتي تحول بعضها إلى حركات سياسية طاغية تصارعت صراعا عنيفا في ما بينها، شهدت المجتمعات الغربية، ظهور أنماط جديدة من الفلسفة يمكن وصفها بالعملانية تعمل على إخراج الفلسفة من الأسوار الجامعية وإدخالها في معترك الحياة اليومية.
 
 ثمة في أوروبا مقاه وبرامج تعليمية مدرسية تبسيطية تعمل على إدخال الفلسفة في الصفوف الابتدائية، دون أن أنسى انتشار الاستشارات الفلسفية العيادية العلاجية التي أنشأها الفيلسوف الهيغيلي الألماني غرد أخنباخ وحلقات النقاش الفلسفي التي تنظم في المصانع والمؤسسات التجارية والمكاتب الإدارية والمرافق العامة. لربما جعل هذا الخطاب الفلسفي المبسط البعض يعتقد أن الفلسفة اهتمام فردي للإنسان الباحث عن معنى لحياته. ويهمني أن أشير ههنا إلى أن القرن العشرين شهد على نشاط فلسفي مميز ولو كان في بعض الأحيان مختلفا عن النشاط الفلسفي الذي ساد قبلا. أذكر على سبيل المثال تطور الفلسفة الوجودية والفلسفة السياسية وظهور الفلسفات الاقتصادية والفلسفات النسوية، والوضعانية المنطقية، والفلسفة التحليلية، والفنومنولوجيا، وما بعد البنيوية وسواها. ليس ثمة انكماش أو غياب للفلسفة.
 
يحضرني في هذا المقام مشروع إدموند هوسرل الذي قام على ضرورة استعادة الفلسفة لمصداقيتها العلمية الأولى. علمنا هوسرل أنه على الإنسان مواجهة أزمات عصره. وهذه المواجهة تكون أولا باستخراج أصول المعرفة وأسسها من ارتباط الذات أو الوعي بحركة العالم وحيوية ظواهره وكائناته وموجوداته وأشيائه. وتكون ثانيا بتحليل عمل الوعي في إقباله على العالم، واستنباط القواعد التي تخضع لها الذات في سعيها إلى استجلاء طبيعة هذه الظواهر. فكانت الفنومنولوجيا أو علم الظواهر. فالحقيقة، خلافا للمتافيزياء القديمة تتبين في الظاهرة لا في الجواهر المتعالية المنحجبة عن الوجود.
 
العرب: ساد الحديث عن النهايات بدءا بنهاية المثقف ونهاية المؤلف ونهاية الأيديولوجيا ونهاية الإنسان ماذا تقدم الفلسفة والمفاهيم كلها على وشك الغروب وفي الاحتضار؟
 
مارلين كنعان: ثمة حديث عن “النهايات” يطال كل شيء مهدت له نهاية الألفية الثانية وغذّتها مسارات العولمة والثورة الرقمية بسبب ما أحدثته الأولى من تنميط للأفكار والمفاهيم والثانية من انقلاب في الحياة، وإن كانت مقولة النهايات ليست بجديدة. جذورها تعود إلى الميثولوجيا الإغريقية، وإلى الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام وعلامات الساعة… فوكو أعلن موت الإنسان، وفوكوياما تحدث عن "نهاية التاريخ" وفيريليو قال بـ"نهاية الجغرافيا" إذ أصبحت الأرض "قرية كونية" قربت سرعة التكنولوجيا مسافاتها وقلبت الصور والشاشات تصوراتها للمكان رأسا على عقب، إلخ.
 
في موازاة هذا الحديث نسمع أصواتا تنادي بالعودة إلى "البدايات". كان الشاعر الأميركي روبرت فروست يقول "أنت تبحث عن شيء غير موجود وهو البدايات والنهايات". وبعده قال الروائي الأميركي وليم فولكنر إن "الحاضر بدأ قبل عشرة آلاف سنة، والماضي بدأ الآن، وهو لا يموت حتى أنه ليس ماضيا". لعل النهايات هي بلوغ مسار الحياة خواتيمها ثم عودتها إلى بداياتها كنوع من حلقة مفرغة.
 
لست أظن أن هذا المصطلح يعني الأفول أو الاندثار، أو توقف الحياة. إنه يحيل إلى ضرورة التغيير في الأدوار والوظائف التي تلائم المعارف والأزمنة الجديدة وإلى الانقلاب في فهم الوجود، وإلى التحولات التي تقلب معاني القيم والمفاهيم. النهايات تعني أزمات تستدعي التفكر والمراجعة والمساءلة. ولعل هذه المقولات النهايوية في حد ذاتها تحد إيجابي يحث على ضرورة تجديد الفيلسوف لآليات اشتغاله وطرائق تفكيره انطلاقا من تطور العلوم والمعارف والتقنيات والتكنولوجيا، ما يؤكد أن القول بالنهايات ليس سوى دعوة ضمنية للتجديد. أظن أن التفكير في تكنولوجيا المعرفة واقتصادها ومجتمعها قد صار ملحا. هذه أسئلة لم تكن مطروحة من قبل، يجدر بنا تناولها. فالعالم وصل إلى منعطف كبير في تاريخه، تغيرت معه القيم والاهتمامات وظهرت قضايا وأسئلة جديدة لا يمكن مواجهتها بأجوبة انتهت صلاحيتها.
 
◙ الكتابة هي الكتابة لا شيء ينقذنا من الخواء غير الفلسفة:
 
العرب: كانت الفلسفة حتى منتصف القرن العشرين حكرا على الرجال ماذا تغير في معجم هذا النشاط العقلي بعد مشاركة الأصوات النسائية؟
 
مارلين كنعان: ليس صحيحا أن الفلسفة حتى منتصف القرن العشرين كانت حكرا على الرجال، ولو كان الصوت النسائي في مجالها خفرا. أحب أن أذكر أن ديوتيما التي ورد ذكرها في محاورة أفلاطون "مأدبة" هي التي شرحت لسقراط مفهوم الحب والرغبة، وأن هيباتيا كانت أهم فيلسوفة وعالمة رياضيات في عصرها، وأن أسبازيا احتلت مكانة هامة في فلسفة أنتيستنيس وكزينوفون ويقال إن أفلاطون تأثر بذكائها ورجاحة عقلها وندواتها، وأن ماكرينا قال عنها غريغوريوس النيصي أنها معلمته وغيرهن.
 
المرأة انخرطت عبر التاريخ في العلوم، التي كانت تدعى كلها آنذاك فلسفة، بقدر ما كانت المجتمعات التي ولدت فيها تسمح بذلك. في بعض نصوص الأوبانيشاد القديمة، قامت بعض النسوة الحكيمات المعروفات في التقاليد الفلسفية الهندية بمحاورة الحكيم ياجنافالكيا. من العصور الوسطى أذكر هيلدغارد دو بينغن وكاترينا السينائية، إلخ.
 
صحيح أن عدد الفيلسوفات كان قليلا، لكن يجدر بنا أن ننتبه إلى أن دخول النساء إلى الجامعة والدراسات العليا كان متأخرا. أنا لا أؤمن بوجود فوارق بين الكتابة الأنثوية والذكورية. الكتابة هي الكتابة والفكر هو الفكر أكان واضعه رجلا أو امرأة. ولئن كان ثمة اختلاف أنطولوجي بين المرأة والرجل يلعب الجسد فيه دورا مهما، فإن التجربة المعيشة تنعكس على رؤية المفكر أو المفكرة أيا يكن جنسه/ها.
 
لربما تطرقت النساء إلى موضوعات تخصهن تحديدا، فعبرن بعمق وإحساس عن صوتهن الخاص. لكن ما الفرق بين كتابات إديت شتاين التي تفكرت في كتبها التسعة المتأثرة بالفنومنولوجيا وبأفكار فرويد بمفهومي الشخص والدولة؟ ما الفرق بين دراسات حنة آرندت التي تناولت الأنظمة الشمولية وواقع الإنسان الحديث عن غيرها من الدراسات التي تناولت الموضوعات نفسها بتوقيع رجال؟ وإن أنسى فلا أنسى مساهمات روزا لوكسمبورغ وإليزابيث أنسكومب وسيمون دو بوفوار وأيريس ميردوك وسيمون ڤايل وإيلين سيكسو وجوليا كريستيفا وغيرهن. هن رفيقات درب ورؤية. والتغيير في معجم النشاط العقلي يأتي من قلة عزيزة، لا فرق إن كان صانع هذا التغيير رجلا أو امرأة.
 
من حوار مارلين كنعان مع صحيفة العرب (بتصرف)