تشغل بال المثقفين العرب، ومنذ فترة، مسألة إحجام القطاعات الأوسع من الجمهور عن الكتاب، ويستشهد البعض بعدد النسخ التي تُطبع من أي كتاب عربي، وهو في حده الأقصى ثلاثة آلاف نسخة، هذا في حال كان المؤلف علما كبيرا في الثقافة أو الشهرة.
نكتب للحصول على دفء العلاقة مع الملايين من المتلقين العرب أم نكتب للحصول على الجوائز العالمية، تشغل بال المثقفين العرب، ومنذ فترة، مسألة إحجام القطاعات الأوسع من الجمهور عن الكتاب، ويستشهد البعض بعدد النسخ التي تُطبع من أي كتاب عربي، وهو في حده الأقصى ثلاثة آلاف نسخة، هذا في حال كان المؤلف علما كبيرا في الثقافة أو الشهرة.
يلقي البعض باللائمة إزاء إشكالية القارئ والكتاب على وسائل التكنولوجيا الحديثة، التي تسيطر على وقت الإنسان وتصنع ذائقته، وأحيانا تؤخذ كلفة الكتاب حتى يصل إلى (المستهلك) القارئ، حجة بسبب إرهاقها لدخله المحدود ذي القدرة الشرائية الضعيفة والمتدهورة.
إنه ودون إهمال لآثار السببين المذكورين، ثمة وجهة نظر أخرى، لعلّها الأكثر شمولا والأعمق رؤية، تقوم على قصور العاملين المذكورين على تفسير الظاهرة وتحليل أبعادها ومعانيها. فالتكنولوجيا (تلفزيون، فيديو، محطات فضائية، كمبيوتر وإنترنيت) دخلت مجال الاستخدام بتدرج، بدأ محددا، ثم اتسع وعلى مراحل، وكانت قبل هذه المراحل ظاهرة العزوف عن تناول الكتاب والمادة المطبوعة موجودة، هذا بالإضافة إلى ملاحظة تؤكد أن تاريخ الإبداع قد أوضح أن العلمي أو التقني منه لم يكن يسعى إلى محاصرة الإبداع الأدبي أو الفكري والثقافي عموما.
1 - علاقة ضدّية:
في أبعد الافتراضات، ربما قد يُشكّل العلمي منافسا للثقافي، لكنه يلعب دور المحفز على تجديد الأدوات في حقل المعرفة الإنسانية، وعليه فإن النظرة الصحيحة إلى العلاقة بين الإبداعين (العلمي التكنولوجي والفكري الثقافي) تستبعد فكرة التناقض، وتُرجّح التنافس الذي يجدد ويخدم تكامل العملية، أي إنها بإيجاز علاقة لا تقوم على الاقتتال والمحو والنفي.
من خلال القاعدة المذكورة فإن كل محاولة لجعل العلاقة بين ألوان الإبداع صراعية ضدية سوف تكون جائرة ومفتعلة، وربما قاصرة أساسا، كما أنها تنطوي أحيانا على الرغبة في التبرير، فالإبداع الحقيقي، ومهما كان ميدانه، هو تجاوز وتخط وفعل حرية، فكيف يمكن لحرية حقيقية أن تقتل حرية حقيقة أخرى؟ فالكلمة المكتوبة لها طاقاتها وإشعاعاتها ومساربها وميادينها، ومن المؤكد أن التقدم العلمي والتقني يدفع بها إلى البحث عن مسارب جديدة وتقنيات وأساليب حديثة، ولكنه لم يبدد طاقاتها المتفردة وإشعاعاتها المتميزة ووظائفها النوعية الخاصة.
2 - العامل الاقتصادي:
أما العامل الاقتصادي لـ"المستهلك" القارئ، فهو غير مقنع، كسبب رئيسي، لتفسير عزوف الجمهور عن تداول المطبوع، لأن أوجه الإنفاق التي يتصرف وفقها الفرد من القطاعات العربية الواسعة، تتبدّد فيها من مداخيله المحدودة إمكانيات كثيرة في اقتناء ما هو غير ضروري، وحين يصبح الكتاب أو المجلة في الدرجة الأخيرة من السلّم، لا تكون المسألة اقتصادية محضة، ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى أن ثمن الكتاب في ارتفاع حقا، إلا أنه لا يمكن أن يصل إلى ثمن الأدوات الأخرى التي يقتنيها الفقراء من أجل المتعة والتسلية وملء الحاجة إلى الإطلاع والمعرفة.
ثمة مقاربة للإشكالية (علاقة القارئ مع النتاج الأدبي والفكري) تنأى عن تعليق المسألة على مشجب التكنولوجيا، أو على الثمن المرتفع للمادة المطبوعة، سعيا إلى محاولة الكشف عن العمق والجوهر، فالوقوع في أسر التبعية الجمالية، وحبائل التجريب الشكلي، ومحاكاة النماذج الأدبية الغريبة ومجاراتها، هما أمران يضعان الأدب والفكر في مواقع العزلة والتعالي والاغتراب، ويتولد عنهما نتاجات سمتها الغموض، الذي يصل أحيانا إلى حد الألغاز والإبهام والأحاجي.
ومن هنا يقوم الشرخ في الصداقة مع المتلقّين (القراء) وتنحصر الأعمال الأدبية في إطار الحوار الداخلي، وتغترب الأعمال الفكرية عن هموم الواقع، وفي غضون ذلك يتحول الأدب والنقد إلى مؤسسة معزولة تقتصر عضويتها على النخبة من الأدباء والنقاد والكتاب، الذين تصبح كتاباتهم موجهة إلى بعضهم دون سائر القطاعات البشرية.
3 - مسؤولية النقد:
من نافل القول إن المثاقفة الحضارية شأن ضروري، لكن محاكاة الحركات الأدبية الأجنبية ومجاراتها، اللتين تجريان غالبا في ظل فهم سطحي للعالمية، تجعلاننا كالفراشة داخل قطار، تتوهم أنها قادرة على اجتياز المسافات بسرعة فلكية. أسئلة كثيرة وضرورية، قديمة ومتجددة، تواجه المبدعين إن كان سعيهم حقا ينشد جسر الثغرة بين الإنتاج الأدبي والفكري وبين المتلقين، مثل: لمن نكتب؟ ماذا نكتب؟ كيف نكتب؟ أو لمن نقول؟ وماذا نقول؟ وكيف نقول؟ هل نكتب للقارئ العربي؟
وأي قارئ عربي؟ أم نكتب لقارئ آخر، أو لمستوى معين من قرّاء مفترضين؟ هل نكتب للتعبير عن مشكلاتنا وقضايانا الحقيقية، أم نكتب لكي نُترجَم؟ هل نكتب للحصول على دفء العلاقة مع الملايين من المتلقين العرب، أم نكتب للحصول على الجوائز العالمية، بفعل الاستلاب والانبهار والتبعية الجمالية؟.
يتحمل النقد أيضا نصيبه من المسؤولية في الإشكال، كما في المساهمة في حله، فالنقد الغامض، الذي يستهوي اللعب مع المصطلحات اللغوية، والإيغال في التجريد، وإغراق النص في الجداول والرموز الرياضية، هو الوجه الآخر المكمل للنقد الصحفي السريع والسطحي، بينما المفترض أن تكون مهمته التاريخية، منذ تشكله كفن "جنس″ مستقل، هي القيام بدور الوسيط بين النص والمتُلقي، وأغلب الظن أن انشغال النقد بمداولات تقتصر على نظريات النقد الأدبي العالمية، وإهمال معالجة النصوص، والوقوف عندها جماليا وفنيا، انطلاقا من هدف تطوير الإنتاج الأدبي، والارتقاء بوعي القارئ وذائقته، هو قصور آخر، يعبر عن أحادية الاهتمام بوظيفة النقد.
المبدعون من أدباء ونقاد هم المعنيون أولا بالبحث عن أبعاد المشكلة، ويجب أن يستبعدوا تعليق الأزمة على مشجب التكنولوجيا، أو أي مشاجب أخرى، فالآثار التي تسوقها العوامل التكنولوجية أو الاقتصادية لإعاقة تناول الكتاب أو المطبوع، لا تعدو كونها محرضا على الارتقاء بنصوص الأدب وأجناس الكتابة.
بقلم : باسل العودات