توطئة:

تمتد فترة مابعد الحداثة (Post modernism) من سنة 1970م إلى سنة 1990م، ويقصد بها النظريات والتيارات والمدارس الفلسفية والفكرية والأدبية والنقدية والفنية التي ظهرت ما بعد الحداثة البنيوية والسيميائية واللسانية. وقد جاءت مابعد الحداثة لتقويض الميتافيزيقا الغربية، وتحطيم المقولات المركزية التي هيمنت قديما وحديثا على الفكر الغربي، كاللغة، والهوية، والأصل، والصوت، والعقل. وقد استخدمت في ذلك آليات التشتيت والتشكيك والاختلاف والتغريب، وتقترن مابعد الحداثة بفلسفة الفوضى والعدمية والتفكيك واللامعنى واللانظام. وتتميز نظريات ما بعد الحداثة  عن الحداثة السابقة بقوة التحرر من قيود التمركز، والانفكاك عن اللوغوس والتقليد وماهو متعارف عليه، وممارسة كتابة الاختلاف والهدم والتشريح ، والانفتاح على الغير عبر الحوار والتفاعل والتناص، ومحاربة لغة البنية والانغلاق والانطواء، مع فضح المؤسسات الغربية المهيمنة، وتعرية الإيديولوجيا البيضاء، والاهتمام بالمدنس والهامش والغريب والمتخيل والمختلف، والعناية بالعرق، واللون، والجنس، والأنوثة، وخطاب مابعد الاستعمار.

إذاً، ماهو  مفهوم مابعد الحداثة؟ وماسياقها التاريخي والإبستمولوجي(المعرفي)؟ وماهي مرتكزات هذا المفهوم ومكوناته النظرية والتطبيقية والمنهجية؟ وماهي أهم النظريات التي رافقت مابعد الحداثة؟ وما هي إيجابيات ما بعد الحداثة وسلبياتها؟ تلكم هي مجمل الإشكاليات التي سوف نحاول رصدها في هذه الدراسة المقتضبة.

 

1 - مفهوم ما بعد الحداثة:

من المصطلحات الأكثر التباسا وإثارة في فترة مابعد الحداثة هو مصطلح:" مابعد الحداثة" نفسه، حيث اختلف حوله نقاد ودارسو مابعد الحداثة؛ نظرا لتعدد مفاهيمه ومدلولاته من ناقد إلى آخر. بل نجد أن المعاني التي قدمت لمفهوم مابعد الحداثة متناقضة فيما بينها ومختلفة ومتداخلة، حتى أثير حول استخدام مفهوم مصطلح "مابعد الحداثة" نقاش مستفيض، إذ يعتبر من أهم المصطلحات التي:" شاعت وسادت منذ الخمسينيات الميلادية، ولم يهتد أحد بعد إلى تحديد مصدره: فهناك من يعيد المفردة إلى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي عام 1954م، وهناك من يربطها بالشاعر والناقد الأمريكي تشارلس أولسون في الخمسينيات الميلادية، وهناك من يحيلها إلى ناقد الثقافة ليزلي فيدلر، ويحدد زمانها بعام 1965م. على أن البحث عن أصول المفردة أفضى إلى اكتشاف استخدامها قبل هذه التواريخ بكثير، كما في استخدام جون واتكنز تشابمان لمصطلح " الرسم مابعد الحداثي" في عقد 1870م، وظهور مصطلح مابعد الحداثة عند رودولف بانفتز في عام 1917م."[1]

 

وقد تبين واضحا أن أفكار مابعد الحداثة مختلفة نسبيا عن مفاهيم الحداثة السابقة. وهناك من يرى أن أفكار مابعد الحداثة مختلفة جذريا عن أفكار الحداثة. ويعتقد:"بعضهم أنه من الممكن اعتبار الكتاب والفنانين في مرحلة ماقبل الحداثة على أنهم مابعد الحداثيون، بالرغم من أن المفهوم لم يكن مصاغا آنذاك. وهذا أقرب إلى الجدل الذي يرى نظريات فرويد عن اللاوعي أنها موجودة مسبقا في الفكر الرومانسي الألماني.وقد ناقش الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (Habermas) أن مشروع الحداثة لم ينته أبدا بعد، حيث يواصل هذا المشروع سعيه لتحقيق أهدافه (وبهذا، يقصد هابرماس قيم تنوير العقل والعدالة الاجتماعية). ويعد مصطلح مابعد الحداثة (والكلمات المشابهة له) أيضا في نظر الكثيرين أنه يشير، بصفة عامة، إلى دور وسائل الإعلام في المجتمعات الرأسمالية في أواخر القرن العشرين. وأيا كان استخدامه المفضل، فمن الواضح أن نظرية تفسير التطورات الاجتماعية والثقافية عن طريق السرديات الكبرى لم تعد ممكنة أو مقبولة، وأنه لم يعد ممكنا للأفكار أن تكون مرتبطة ارتباطا وثيقا مع الواقع التاريخي. فكل شيء هو النص والصورة. وبالنسبة للكثيرين، يحاول العالم الذي يتم تصويره في فيلم" الماتريكس"، حيث نجد الحياة البشرية تقلد الآلات التي تسيطر عليها، إقناع المشاهد بعالم مابعد الحداثة، لإقناعه بكابوس من عالم الخيال العلمي، فهذا العالم هو بمنزلة استعارة أو مجاز عن حالة الإنسان الحالي."[2]

 

وهناك من الباحثين والدارسين من يربط  مابعد الحداثة بفلسفة التفكيك والتقويض، وتحطيم المقولات المركزية الكبرى التي هيمنت على الثقافة الغربية من أفلاطون إلى يومنا هذا. وفي هذا الصدد، يقول دافيد كارتر (David karter) في كتابه:" النظرية الأدبية":" وتعبر هذه المواقف من مابعد الحداثة عن موقف متشكك بشكل جوهري لجميع المعارف البشرية، وقد أثرت هذه المواقف على العديد من التخصصات الأكاديمية وميادين النشاط الإنساني(من علم الاجتماع إلى القانون والدراسات الثقافية، من بين الميادين الأخرى). وبالنسبة للكثيرين تعد مابعد الحداثة عدمية على نحو خطير، فهي تقوض أي معنى للنظام والسيطرة المركزية للتجربة. فلا العالم ولا الذات لهما وحدة متماسكة"[3].

 

ومن ثم، فقد اعتمدت فلسفة مابعد الحداثة على التشكيك والتقويض والعدمية ، كما اعتمدت على التناص واللانظام واللاانسجام، وإعادة النظر في الكثير من المسلمات والمقولات المركزية التي تعارف عليها الفكر الغربي قديما وحديثا. ومن ثم، تزعزع مابعد الحداثة- حسب دافيد كارتر- :" جميع المفاهيم التقليدية المتعلقة باللغة والهوية، إذ نسمع كثيرا من الطلاب الأجانب الذين يدرسون الأدب الإنكليزي ينعتون أي شيء لايفهمونه أو يعبرون عنه بمابعد حداثي. وكثيرا ماتكشف النصوص الأدبية في مابعد الحداثة عن غياب الانغلاق، وتركز تحليلاتها على ذلك. وتهتم كل من النصوص والانتقادات بعدم وضوح الهوية، وماهو معروف باسم" التناص": هو إعادة صياغة الأعمال المبكرة أو الترابط بين النصوص الأدبية."[4]

 

هذا، ويمكن الحديث في إطار مابعد الحداثة عن أربعة منظورات تجاهها ، المنظور الفلسفي الذي يرى أن مابعد الحداثة دليل على الفراغ بغياب الحداثة نفسها، والمنظور التاريخي الذي يرى أن مابعد الحداثة حركة ابتعاد عن الحداثة أو رفضا لبعض جوانبها، والمنظور الإيديولوجي السياسي الذي يرى أن ما بعد الحداثة تعرية للأوهام الإيديولوجية الغربية، والمنظور الاستراتيجي النصوصي الذي يرى أن مقاربة نصوص مابعد الحداثة لا تتقيد بالمعايير المنهجية،  وليست ثمة قراءة واحدة، بل قراءات منفتحة ومتعددة.[5]

 

2 - السياق الذي ظهرت فيه مابعد الحداثة:

ارتبطت مابعد الحداثة في بعدها التاريخي والمرجعي والسياقي بتطور الرأسمالية الغربية ما بعد الحداثية اجتماعيا، واقتصاديا، وسياسيا، وثقافيا. كما ارتبطت ارتباطا وثيقا بتطور وسائل الإعلام. كما جاءت مابعد الحداثة كرد فعل على البنيوية اللسانية، والمقولات المركزية الغربية التي تحيل على الهيمنة والسيطرة والاسغلال والاستلاب. كما استهدفت مابعد الحداثة تقويض الفلسفة الغربية، وتعرية المؤسسات الرأسمالية التي تتحكم في العالم، وتحتكر وسائل الإنتاج، وتمتلك المعرفة العلمية. كما عملت مابعد الحداثة على انتقاد اللوغوس والمنطق عبر آليات التشكيك والتشتيت والتشريح والتفكيك.

هذا، وقد ظهرت مابعد الحداثة في ظروف سياسية معقدة، وذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخاصة في سياق الحرب الباردة، وانتشار التسلح النووي، وإعلان ميلاد حقوق الإنسان، وظهور مسرح اللامعقول(صمويل بيكيت، وأداموف، ويونيسكو، وأرابال…)، وظهور الفلسفات اللاعقلانية كالسريالية، والوجودية، والفرويدية، والعبثية، والعدمية. وقد كانت التفكيكية معبرا رئيسا للانتقال من مرحلة الحداثة إلى مابعد الحداثة. ومن ثم، فقد كانت مابعد الحداثة مفهوما مناقضا ومدلولا مضادا للحداثة. ولذلك،" احتفلت مابعد الحداثة بأنموذج التشظي والتشتيت واللاتقريرية كمقابل لشموليات الحداثة وثوابتها، وزعزعت الثقة بالأنموذج الكوني، وبالخطية التقدمية، وبعلاقة النتيجة بأسبابها، حاربت العقل والعقلانية، ودعت إلى خلق أساطير جديدة تتناسب مع مفاهيمها التي ترفض النماذج المتعالية، وتضع محلها الضرورات الروحية، وضرورة قبول التغيير المستمر،  وتبجيل اللحظة الحاضرة المعاشة. كما رفضت الفصل بين الحياة والفن، حتى أدب مابعد الحداثة ونظرياتها تأبى التأويل، وتحارب المعاني الثابتة."[6]

 

هذا، وقد ظهرت مابعد الحداثة أولا في مجال التشكيل والرسم والعمارة والهندسة المدنية، قبل أن تنتقل إلى الفلسفة والأدب والفن والتكنولوجيا وباقي العلوم والمعارف الإنسانية. ولايمكن الحديث عن مابعد حداثة واحدة، بل هناك مابعد حداثة عامة ومابعد حداثات فرعية. وقد غزت نظرية مابعد الحداثة جميع الفروع المعرفية، كالأدب، والنقد، والفن، والفلسفة، والأخلاق، والتربية، وعلم الاجتماع، والأنتروبولوجيا، وعلم الثقافة، والاقتصاد، والسياسة، والعمارة، والتشكيل...

 

3 - مرتكزات مابعد الحداثة:

تستند مابعد الحداثة في الثقافة الغربية إلى مجموعة من المكونات والمرتكزات الفكرية والذهنية والفنية والجمالية والأدبية والنقدية، ويمكن حصرها في العناصر والمبادىء التالية:

•  التقويض: تهدف نظرية مابعد الحداثة إلى تقويض الفكر الغربي، وتحطيم أقانيمه المركزية ، وذلك عن طريق التشتيت والتأجيل والتفكيك. بمعنى أن مابعد الحداثة قد تسلحت بمعاول الهدم والتشريح لتعرية الخطابات الرسمية، وفضح الإيديولوجيات السائدة المتآكلة، وذلك باستعمال لغة الاختلاف والتضاد والتناقض.

•  التشكيك: أهم ما تتميز به مابعد الحداثة هو التشكيك في المعارف اليقينية، وانتقاد المؤسسات الثقافية المالكة للخطاب والقوة والمعرفة والسلطة. ومن ثم، أصبح التشكيك آلية للطعن في الفلسفة الغربية المبنية على العقل والحضور والدال الصوتي. ومن هنا، فتفكيكية جاك ديريدا هي في الحقيقة تشكيك في الميتافيزيقا الغربية من أفلاطون إلى فترة الفلسفة الحديثة.

•  الفلسفة العدمية: من يتأمل جوهر فلسفات مابعد الحداثة، فإنه سيجدها فلسفات عدمية وفوضوية، تقوم على تغييب المعنى،وتقويض العقل والمنطق والنظام والانسجام. بمعنى أن فلسفات مابعد الحداثة هي فلسفات لا تقدم بدائل عملية واقعية وبراجماتية، بل هي فلسفات عبثية لا معقولة، تنشر اليأس والشكوى والفوضى في المجتمع.

• التفكك واللاانسجام: إذا كانت فلسفة الحداثة أو تيارات البنيوية والسيميائية تبحث عن النظام والانسجام، وتهدف إلى توحيد النصوص والخطابات، وتجميعها في بنبات كونية، وتجريدها في قواعد صورية عامة، من أجل خلق الانسجام والتشاكل، وتحقيق الكلية والعضوية الكونية، فإن فلسفات مابعد الحداثة هي ضد النظام والانسجام، بل هي تعارض فكرة الكلية. وفي المقابل، تدعو إلى التعددية والاختلاف واللانظام، وتفكيك ماهو منظم ومتعارف عليه.

• هيمنة الصورة: رافقت ما بعد الحداثة تطور وسائل الإعلام، فأصبحت الصورة البصرية علامة سيميائية تشهد على تطور مابعد الحداثة، ولم تعد اللغة هي المنظم الوحيد للحياة الإنسانية، بل أصبحت الصورة هي المحرك الأساس للتحصيل المعرفي، وتعرف الحقيقة. ولاغرو أن نجد جيل دولوز (Gilles Deleuze) يعنى بالصورة السينمائية، إذ يقسمها إلى الصورة- الإدراك، والصورة– الانفعال، و الصورة– الفعل، ويعتبر العالم خداعا، كخداع السينما للزمان والمكان عن طريق خداع الحواس، وذلك في كتابيه:"الصورة- الحركة" (1983م) و" الصورة- الزمان" (1985م).

• الغرابة والغموض: تتميز مابعد الحداثة بالغرابة، والشذوذ، وغموض الآراء والأفكار والمواقف، فتفكيكية جاك ديريدا– مثلا - مازالت مبهمة وغامضة، من الصعب فهمها واستيعابها، حتى إن مصطلح التفكيك نفسه أثار كثيرا من النقاش والتأويلات المختلفة في حقول ثقافية متنوعة، وخاصة في اليابان والولايات المتحدة الأمريكية. كما أن فلسفة جيل دولوز معقدة وغامضة، من الصعب بمكان تمثلها بكل سهولة.

• التناصيعني التناص استلهام نصوص الآخرين بطريقة واعية أو غير واعية. بمعنى أن أي نص يتفاعل ويتداخل نصيا مع النصوص الأخرى امتصاصا وتقليدا وحوارا. و يدل التناص في معانيه القريبة والبعيدة على التعددية، والتنوع، والمعرفة الخلفية،وترسبات الذاكرة. وقد ارتبط التناص نظريا مع النقد الحواري لدى ميخائيل باختين(M.Bakhtine).

• تفكيك المقولات المركزية الكبرىاستهدفت مابعد الحداثة تقويض المقولات المركزية الغربية الكبرى كالدال والمدول، واللسان والكلام، والحضور والغياب،إلى جانب انتقاد مفاهيم أخرى كالجوهر، والحقيقة، والعقل، والوجود، والهوية... وذلك عن طريق التشريح، والتفكيك، والتقويض، والتشتيت، والتأجيل...

• الانفتاحإذاكانت البنيوية الحداثية قد آمنت بفلسفة البنية والانغلاق الداخلي، وعدم الانفتاح على المعنى، والسياق الخارجي والمرجعي، فإن ما بعد الحداثة قد اتخذت لنفسها الانفتاح وسيلة للتفاعل والتفاهم والتعايش والتسامح. ويعد التناص آلية لهذا الانفتاح، كما أن الاهتمام بالسياق الخارجي هو دليل آخر على هذا الانفتاح الإيجابي التعددي.

• قوة التحررتعمل فلسفات مابعد الحداثة على تحرير الإنسان من قهر المؤسسات المالكة للخطاب والمعرفة والسلطة، وتحريره أيضا من أوهام الإيديولوجيا والميثولوجيا البيضاء، وتحريره كذلك من فلسفة المركز، وتنويره بفلسفات الهامش والعرضي واليومي والشعبي.

• إعادة الاعتبار للسياق والنص الموازيإذا كانت البنيوية والسيميائيات قد أقصت من حسابها السياق الخارجي والمرجعي، وقتلت الإنسان والتاريخ والمجتمع، فإن فلسفات مابعد الحداثة، قد أعادت الاعتبار للمؤلف والقاريء والإحالة والمرجع التاريخي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، كما هو حال نظرية التأويلية، وجمالية التلقي، والمادية الثقافية، والنقد الثقافي، ونظرية مابعد الاستعمار، والتاريخانية الجديدة.

• تحطيم الحدود بين الأجناس الأدبيةإذا كانت الشعرية البنيوية تحترم الأجناس الأدبية، حيث تضع كل جنس على حدة تصنيفا وتنويعا وتنميطا، فتحدد لها قواعدها وأدبيتها التجنيسية، فإن ما بعد الحداثة لا تعترف بالحدود الأجناسية، فقد حطمت  كل قواعد التجنيس الأدبي، وسخرت من نظرية الأدب. ومن ثم، أصبحنا نتحدث اليوم عن أعمال أو نصوص أو آثار غير محددة وغير معينة جنسيا.

• الدلالات العائمةتتميز نصوص وخطابات مابعد الحداثة عن سابقتها الحداثية بخاصية الغموض والإبهام والالتباس. بمعنى أن دلالات تلك النصوص أو الخطابات غير محددة بدقة، وليس هناك مدلول واحد، بل هناك دلالات مختلفة ومتناقضة ومتضادة ومشتتة تأجيلا وتقويضا وتفكيكا، كما في المنظور التفكيكي عند جاك ديريدا. وبتعبير آخر، يغيب المعنى ، ويتشتت عبثا في كتابات مابعد الحداثة.

• مافوق الحقيقة: تنكر فلسفات مابعد الحداثة وجود حقيقة يقينية ثابتة، فجان بودريار - مثلا - ينكر الحقيقة، ويعتبرها وهما وخداعا، كما ذهب إلى ذلك نيتشه (Neitsze) الذي ربط غياب الحقيقة بأخطاء اللغة وأوهامها. بينما يربط بودريار الحقيقة بالإعلام الذي يمارس لغة الخداع والتضليل والتوهيم والتفخيم.

• التخلص من المعايير والقواعدما يعرف عن نظريات ما بعد الحداثة في مجال النقد والأدب تخلصها من النظريات والقواعد المنهجية، فميشيل فوكو يسخر من الذي ينطلق من منهجيات محددة يكررها دائما، ويحفظها عن ظهر قلب، فيرى أن النص أو الخطاب متعدد الدلالات، يحتمل قراءات مختلفة ومتنوعة، كما أن ديريدا يرفض أن تكون له منهجية نقدية أدبية في شكل وصفة سحرية ناجحة لتحليل النص الأدبي؛حيث لا يوجد المعنى أصلا مادام مقوضا ومفككا ومشتتا، فما هناك سوى المختلف من المعاني المتناقضة مع نفسها كما يقول جاك ديريدا.

 

4 - رواد نظرية مابعد الحداثة:

من المعلوم أن لمابعد الحداثة روادا ومنظرين وفلاسفة ونقادا، ومن بين هؤلاء نستحضر: الفيلسوف الفرنسي جان بودريار (Jean Baudrillard) (1929-2007) الذي اشتهر بنقده للتكنولوجيا الحديثة والإعلام. ومن ثم، فقد أدلى جان بوديريار بمجموعة من المفاهيم، كالحقيقة العائمة، ومافوق الحقيقة، والاهتمام بالخيال العلمي، والعناية بالعوالم الافتراضية غير المتحققة. ومن هنا، فقد انتقد العلاقة بين الدال والمدلول عند فرديناند دوسوسير، حيث أنكر - كجاك ديريدا - وجود معنى واضح، بل قال بالدلالات العائمة أو المعنى المغيب. وبالتالي،" فقد رفض التمييز بين المظاهر والحقائق الكامنة وراء هذه المظاهر. وبالنسبة له، انهارت أخيرا الفوارق بين الدال والمدلول. ولم تعد العلامات تشير إلى مدلولات بأي معنى معقول، حيث يتكون العالم الحقيقي من الدلالات العائمة. وقد شرح بوديار هذه الأفكار في عمله:" التظاهرات والمحاكاة " (1981م)."[7]

 

هذا، وقد أنكر جان بودريار، وذلك مثل: الفيلسوف الألماني نيتشه، وجود الحقيقة مادامت ترتبط ارتباطا وثيقا باللغة والخطأ والظن والمبالغة المجازية والبلاغة التخييلية ووسائل الإعلام. ومن ثم، فقد قال بودريار بمفهوم "مافوق الحقيقة":" يتولد مفهوم مافوق الحقيقة، حيث يكون شيء ما حقيقيا فقط عندما يتحرك ضمن نطاق وسائل الإعلام. وتولد تكنولوجيات الاتصال في مابعد الحداثة الصور العائمة بشكل حر، حيث لايمكن لأحد أن يعيش أي تجربة إذا لم تكن بصيغة مشتقة. وقد أخذت تجربة العالم للعبث مكان أي ثقافة مميزة، وأصبح للعبث لهجة واحدة فقط: تلك التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد أصبحت كتابات بودريار (على سبيل المثال:" إستراتيجيات فادحة" و" وهم النهاية") عدمية بشكل متزايد: فقد أصبحت العلامات بلا معنى بسبب تكرارها واختلافها اللذين لاينتهيان. وقد قادت آراؤه المتطرفة إلى العبارة الشهيرة- التي اجتذبت انتقادات قاسية - أن حرب الخليج عام 1991م لم تكن حقيقية، بل كانت حدثا إعلاميا:" إنها غير حقيقية، إنها حرب دون أعراض الحرب". وهذا ماقاد العديد للشك في أن بودريار نفسه قد ابتعد إلى مافوق الحقيقة، ولم يعد يسكن جسدا دنيويا. "[8]

 

وعليه، فقد دفعه مفهوم مافوق الحقيقة إلى الاهتمام بالعوالم التخييلية والافتراضية. وفي هذا الصدد، يقول دافيد كارتر:"لا يرى بورديار في حججه أي تفاصيل محددة عن السياقات الثقافية أو الاجتماعية. وليس في كتابة قصص الخيال العلمي والروايات الخيالية. وقد برهن بعضهم أيضا أن العديد من أفكاره قد استبقت في مثل هذه الأعمال. كتب بودريار نفسه مقالا يمدح كاتب الخيال العلمي ج. جي بالارد. وكما سبق الإشارة إليه وجدت رؤيته للعالم أصداء في السينما، وخصوصا في هذا النوع من الأفلام الذي يصبح فيه الواقع الافتراضي غير مميز عن العالم الحقيقي، وأيضا في مفهوم " السايبورغ"،وهو هجين من البشر والتكنولوجيا."[9]

 

ونستدعي أيضا من رواد مابعد الحداثة  المفكر الفرنسي جان فرانسوا ليوتار (Jean-François Lyotard) (1924-1998)، الذي أنكر الحقيقة مثل: نيتشه، وخاصة في كتابه:" حالة مابعد الحداثة" (1979م). ففي هذا الكتاب:" يجادل ليوتار أن المعرفة لا يمكنها أن تدعي أنها تقدم الحقيقة في أي معنى مطلق؛ لأنها تعتمد على ألاعيب اللغة التي هي دائما ذات صلة بسياقات محددة. وهنا، نجد أن ليوتار مدين بالفضل الكثير لنيتشه وفيتغنشتاين، حيث يدعي أن أهداف التنوير في تحرير الإنسان، وانتشار المنطق لم ينتج سوى نوع من العجرفة العلمية. وقد رفض يورغن هابرماس قبول هذا التقييم لمصير أهداف التنوير، حيث يعتقد أنها لاتزال قابلة للحياة."[10]

 

هذا، وقد ثار ليوتار على التمركز العقلي على غرار رواد الفلسفة التفكيكية (جاك ديريدا مثلا)، منتقدا هيمنته، واستغلاله، وانغلاقه، وسطوته على الفن والحياة، حيث "يقدم ليوتار ملاحظة في كتابه:" الخطاب والشخصية" (1971م) بأن البنيوية قد تجاهلتها. فقد ميز ليوتار بين ما "يرى" ويفهم وهو البعد الثالث. أي: الشكل، وبين مايقرأ في النص ذي البعدين. ويناقش ليوتار مستشهدا بفوكو أن ما يعد تفكيرا عقلانيا من قبل المفكرين الحداثيين هو، في الواقع، شكل من أشكال السيطرة والهيمنة. وبالنسبة لليوتار المستوى" الشكلي"، الذي يبدو أنه يضم ما يشبه الرغبة الجنسية عند فرويد أو قوة الرغبة، يكتسب معنى موحدا من خلال عمليات التفكير العقلاني، وينتقد ويزعزع ويقلق الفن، من جهة أخرى.أي : معنى من معاني الانتهاء والانغلاق."[11]

 

وأهم مايطرحه جان فرانسوا ليوتار في إطار مابعد الحداثة  النقدية الأدبية هو التخلص من القواعد النظرية والمعايير التطبيقية في لحظة الممارسة النقدية، بمعنى أن يتحرر النقد الأدبي من الالتزام بالقواعد المنهجية والمعايير المسبقة. وفي هذا النطاق، يقول دافيد كارتر:" وأحد تلميحات ليوتار عن مابعد الحداثة، وهو أمر هام بالنسبة للإجراءات التي اعتمدها النقد الأدبي، هو أن التحليل يجب أن يمضي قدما دون أي معايير محددة مسبقا، حيث يتم الكشف عن المبادىء والقواعد المنظمة في عملية التحليل."[12]

 

ويعد جاك ديريدا (Jacques Derrida) كذلك من أهم فلاسفة مابعد الحداثة، حيث اهتم بتفكيك الثقافة الغربية تشتيتا وتأجيلا، وتقويض مقولاتها المركزية بالنقد والتشريح، بغية تعرية المؤسسات الغربية المهيمنة، وفضح الميثولوجيا البيضاء المبنية على الهيمنة والاستغلال والاستعمار والتغريب والإقصاء. ومن ثم، فقد ثار دريدا على مجموعة من المقولات البنيوية كالمدلول والصوت والنظام والبنية، وغيرها من المفاهيم ، ودعا إلى تعويض الصوت بالكتابة، كما ارتأى أن مدلول العلامة ليس مدلولا واحدا، بل هو عبارة عن مدلولات مختلفة، وأن المعنى لا يبنى على الإحالة المرجعية، بل على الاختلاف بين المدلولات المتناقضة. كما أن ديريدا لا يحب القواعد والتعاريف والمعايير والمنهجيات الثابتة. لذا، فالتفكيكية منهجية وليست منهجية، لها خطوات وليس لها خطوات، هي ما بين بين، بين الداخل والخارج. ما يهمها هو تفكيك الفكر والنص والخطاب، وذلك عبر آلية التشتيت والتقويض والهدم، لبناء المعاني المختلفة والمتناقضة، والتشكيك في المسلمات اليقينية، ودحضها عن طريق النقد والتشريح والاختلاف.

 

هذا، وقد انتقد جاك ديريدا الميتافيزيقا الغربية التي تمثل الحضور واللغة والدال الصوتي. ومن ثم، قوض مجموعة من المفاهيم السائدة، مثل: الهوية، والجوهر، واللوغوس، والعلامة، والمدلول،والظاهرة،والنظام، والكلية، والعضوية، والجوهر، والذكاء، والحساسية، والواقعية، والحقيقة، واليقين، والثقافة، والطبيعة، والتمظهر، والخطإ، والكلام ...

هذا، ويعد ميشيل فوكو(Foucault) كذلك من رواد مابعد الحداثة، وقد اهتم كثيرا بمفهوم الخطاب والسلطة والقوة، حيث كان يرى أن الخطابات ترتبط بقوة المؤسسات والمعارف العلمية. بمعنى أن المعارف في عصر ما تشكل خطابا يتضمن قواعد معينة يتعارف عليها المجتمع، فتشكل قوته وسلطته الحقيقية. وبتعبير آخر، إن لكل مجتمع قوته وسلطته، ويتم التعبير عن تلك السلطة بالخطاب والمعرفة، وهذا مايوضحه فوكو في كتابه:" نظام الخطاب" (1970م). ويرى فوكو أن ثمة علاقة وثيقة بين المعرفة والقوة، وأن الخطاب حول الإنسان قديم، وقد أصبح الخطاب في القرن التاسع عشر خطابا حول الإنسان بامتياز. ويتأثر فوكو بنتشه حين يبين مدى ترابط المعرفة بالقوة وسلطة المجتمع، وأن الحقيقة قوة وسلطة. ومن ثم، فقد قرأ المعرفة الإنسانية في ضوء تحليلات حفرية وجينيالوجية ، وذلك في علاقتها بالسلطة. كما ثار ميشيل فوكو على الفلسفة الغربية وتقسيماتها الكلاسيكية، بمعنى أنه قوض الأوهام الفلسفية، وارتأى أن من يمتلك العلم والمعرفة يمتلك السلطة.ويدرس فوكو في كتابه:" المراقبة والعقاب" (1975م)  نظام السلطة ، وذلك باعتبارها مؤسسة مهيكلة ومنظمة، وجهازا للضبط والتأديب والعقاب، وهي كذلك تعبير عن المجتمع الليبرالي، وقد تأثر فوكو في ذلك بأعمال بنتهام (Bentham).

وقد بين فوكو في هذا الكتاب أننا قد انطلقنا تاريخيا  من مرحلة مراقبة الأجساد إلى مرحلة مراقبة العقول والسلوكات. ويعني هذا أن الدولة مبنية على قوة السلطة والتأديب والانضباط، ومراقبة الأفراد أجسادا وعقولا وسلوكات. ومن هنا، فإن السجن – مثلا- نموذج لقوة السلطة الليبرالية وقوة الدولة وهيبتها. ويعني هذا أن فوكو يدعو إلى تحرير الإنسان من السلطة، وتخليصه من قوة الدولة المؤسساتية.

وعليه، يرتبط فوكو بفلسفة السلطة ارتباطا وثيقا، ويدافع عن حرية الذات، ويبين بأن كل عصر ينتج خطابه المنظم والمهيمن. وبالتالي، يعلن نظام الخطاب حقيقة العالم، ويجسد معاييره اليقينية الثابتة.

هذا، ولقد اهتم فوكو كثيرا بتحليل الخطاب، ورفض التقيد بالمناهج الجاهزة، واستعمال آليات مكررة، واعتبرها بمثابة علبة للمفاتيح. فالنص منفتح ومتعدد، لايمكن قراءته قراءة أحادية فقط. ويعني هذا أن فوكو يؤمن بتعدد  القراءات واختلافها من ناقد إلى آخر. وقد اهتم فوكو بمواضيع جديدة كالجنوسة  والنظريات الجنسية. وقد كان أكثر الكتاب والفلاسفة الفرنسيين تأثيرا في الثقافة الأنجلوسكسونية.

ومن جهة أخرى، اهتم جيل دولوز (Gilles Deleuze)  بالتعددية والانفتاح على الآخر إدراكا وتفاعلا، حيث اعتبر الفلسفة بأنها فلسفة التعددية. ومن ثم، فقد انتقد الهوية وفلسفة الواحد والتطابق. كما انتقد دولوز مجموعة من الفلاسفة كدافيد هيوم، وبرجسون، وليبنز، وسبينوزا. وخصص الأنطولوجيا بدراسات فلسفية عميقة. وقد سخر فلسفته منطلقا لفهم الأدب والفن والسياسة. وبعد ذلك، تحدث عن الحقل الاجتماعي، وصاغ أنطولوجيا ملموسة للفعل والحدث. وقد آمن جيل دولوز بالتعددية والاختلاف، بعد أن تأثر في ذلك بأطروحات برغسون (Bergson) الحدسية حول الديمومة والزمان والمحايثة والتعددية. وقد اهتم دولوز بفلسفة التأسيس في كتابه:"الاختلاف والتكرار"، وتحدث عن التعددية في إطار الاختلاف، والتعددية - كما هو معلوم - نقيض فلسفة الهوية. ومن ثم، يربط فلسفة التأسيس بالديمقراطية كفضاء لتحقيق الاختلاف، ويعتبر  الديموقراطية النظام المناسب للتطور الحالي للمجتمع. وبالتالي، ففكر التأسيس والاختلاف هو فكر يناقض فكر الهوية والوحدة والإقصاء والتغريب.

 

5 - أهم نظريات مابعد الحداثة:

ثمة مجموعة من النظريات الأدبية والنقدية والثقافية التي رافقت مرحلة مابعد الحداثة، وذلك مابين سنوات الستين والتسعين من القرن العشرين. وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى  التأويلية، ونظرية التلقي والتقبل، والنظرية التفكيكية، والنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، ونظرية النقد الثقافي، والنظريات الثقافية، والنظرية الجنسية، ونظرية الجنوسة، والنظرية التاريخانية الجديدة، والنظرية العرقية، والنظرية النسوية، والنظرية الجمالية الجديدة، ونظرية مابعد الاستعمار، ونظرية الخطاب (ميشيل فوكو)، والمقاربة التناصية، والمقاربة التداولية،  والمقاربة الإثنوسينولوجية، والمقاربة المتعددة الاختصاصات، والفينومينولوجيا، والنقد البيئي، والنقد الجيني، والنقد الحواري، والمادية الثقافية، وسيميوطيقا التأويل، وسيميوطيقا الأهواء...

هذا، وقد ظهرت النظرية الإسلامية في الحقل الثقافي العربي في الفترة نفسها التي ظهرت فيها نظريات مابعد الحداثة، وذلك في مجالات: النقد والأدب والفن، لكن حداثتها تكمن في دعوتها إلى النظام والانسجام والاعتدال والوضوح، والانطلاق من الثقافة الربانية، واستلهام التصور الإسلامي في الأدب والنقد وجودا ومعرفة وقيمة. وبالتالي، فهي نظرية أخلاقية متوازنة  تهدف إلى البناء، والتأسيس، والتنوير، وتحرير الإنسان من الأوهام الأيديولوجية وإنقاذه من الضلالة والوثنية والعبثية، كما أنها نظرية لا تؤمن بفلسفات التقويض والتشتيت والاختلاف، وتسعى جاهدة للتعمير، والتغيير، وتخليق الإنسان على أسس أخلاقية صحيحة، تلك الأسس المستمدة من المصدر الرباني اليقيني.

 

6 - تقييم تجربة مابعد الحداثة:

من المعلوم أن لنظرية مابعد الحداثة إيجابيات وسلبيات كباقي الظواهر والنظريات الثقافية ، وباقي المناهج النقدية الأدبية. وبالتالي، لايمكن الحديث عن الكمال والتمام في العلوم الإنسانية إطلاقا؛ لأن الأفكار والمناهج والتصورات تتناسخ وتتناسل وتتوالد تناصا وتقويضا وتفكيكا وتأجيلا وتشتيتا. ومن إيجابيات مابعد الحداثة أنها حركة تحررية تهدف إلى تحرير الإنسان من عالم الأوهام والأساطير، وتخليصه من هيمنة الميثولوجيا البيضاء. كما تعمل فلسفات مابعد الحداثة على تقويض المقولات المركزية للفكر الغربي، وإعادة النظر في يقينياتها الثابتة ، وذلك عن طريق التقويض والتشكيك والتشتيت والتشريح والهدم، والهدف من ذلك هو بناء قيم جديدة. كما حاربت من جهة أخرى ثقافة النخبة والمركز، فاهتمت بالهامش والثقافة الشعبية، ثم انتقدت الخطابات الاستشراقية ذات الطابع الاستعماري بالنقد والتفكيك والتحليل. كما آمنت نظرية مابعد الحداثة بالتعددية والاختلاف وتعدد الهويات، وأعادت الاعتبار للسياق والإحالة والمؤلف والمتلقي، كما هو حال الهيرمينوطيقا وجمالية التلقي. واهتمت كذلك بالتناص والاختلاف اللوني والجنوسي والعرقي، وعملت على إلغاء التحيزات الهرمية والطبقية، واحتفت بالضحك، والسخرية، والقبح،  والمفارقة والغرابة، واعتنت كذلك بالعرضية، والمهمش، والمدنس، وانزاحت عن الأعراف والقوانين والقيم الموروثة. واستسلمت للغة التشظي والتفكك واللانظام، ونددت بالمفاهيم القمعية القسرية وسلطة القوة.

 

بيد أن من أهم سلبيات ما بعد الحداثة اعتمادها على فكرة التقويض والهدم والفوضى، إذ لا تقدم للإنسان البديل الواقعي والثقافي والعملي، فمن الصعب تطبيق تصورات مابعد الحداثة واقعيا لغرابتها وشذوذها. و" بذلك، استهلكت مابعد الحداثة قدرتها الإستراتيجية الفعالة في إبراز التحيزات المجحفة دون أن يكون لها موقف أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي. ويعجب المرء من المفارقة بين قوتها العدائية ضد التحيزات والنهاية المحايدة التي تنجم عن مثل هذه الحرب الضروس. ولعل مثل هذه النهاية هي التي دعت الكثير إلى توجيه أصابع الاتهام. فهناك من يقول: إن هذه السمة ذاتها هي التي تجعل ما بعد الحداثة متواطئة مع الأشكال الشمولية القمعية التي تسعى إلى الهيمنة والسيطرة والظلم الاجتماعي الاقتصادي. لاغرو والحالة هذه أن تدخل ما بعد الحداثة مجال العلوم الإنسانية حديثا جدا، وحتى هذا الدخول لم يتسم بالفعالية نفسها التي عرفتها في الفن والأدب والموسيقا والاستعراضات المسرحية وغيرها من مشارب الحياة اليومية التي لايترتب عليها اتخاذ قرارات حاسمة تمس حياة الإنسان مباشرة. ولعل المفارقة القارة التي تجعلها عاجزة هي معاداتها للثنائية الضدية، إذ إن التضاد أساس المعرفة وأساس التحيز، وبدون التضاد لايمكن معرفة ما إذا كان توجه ما أفضل من غيره. ولذلك، فإن دفاع مابعد الحداثة عن الهامش جعلها تتقمص خصائصه، إذ انقلب على أهميتها، فأصبحت هامشية لا تغير من الواقع شيئا. وككل هامشي، أصبحت مابعد الحداثة تتمنى أن يتحقق الوئام فجأة ، فتسود العدالة، وتختفي الطبقية الهرمية، ويختلط المركز بالهامش، وتلغى الفوارق من غير تحيز أو غاية. هذه هي الطوباوية التي تحلم بها كل المثاليات: حداثية كانت أو مابعد حداثية."[13]

 

ويلاحظ أن نظرية مابعد الحداثة تقوض نفسها بنفسها؛ نظرا لطابعها الفوضوي والعدمي والعبثي. وفي هذا السياق، يقول دافيد كارتر:" وقد اجتذبت مابعد الحداثة نقدا إيجابيا وسلبيا على حد سواء. فيمكن أن ينظر إليها على أنها قوة محررة إيجابية تزعزع استقرار الأفكار المسبقة عن اللغة وعلاقتها بالعالم، وتقوض جميع لغات الذات التي تشير للتاريخ والمجتمع. ولكن تعد حقبة مابعد الحداثة أيضا أنها تقوض افتراضاتها الخاصة، وتحجب جميع التفسيرات المترابطة. وبالنسبة للكثيرين تعد غير مؤثرة وغير ملتزمة من الناحية السياسية. وأحد الأنواع الأدبية الشائعة التي تمكن من الاعتراف الآني، وتفكك الأنماط الأدبية التقليدية. يحطم كتاب الحداثة الحدود بين الخطابات المختلفة، وبين القصص الخيالية وغير الخيالية، وبين التاريخ والسيرة الذاتية (ومثال ساطع على ذلك هو كتابات و.ج.سيبالد)."[14]

 

وهكذا، نجد أن فلسفة مابعد الحداثة لها قيم إيجابية وقيم سلبية، بيد أن مايهم الإنسان في واقعه العملي هو التأسيس والتأصيل، وليس التفكيك والتقويض، مع السعي الجاد إلى البناء الهادف بدلا عن الانغماس في عوالم افتراضية عبثية وعدمية وفوضوية.

 

خلاصات ونتائج:

وخلاصة القول؛ نستنتج مما سبق ذكره أن فلسفات ما بعد الحداثة عبارة عن معاول للهدم والتقويض والتفكيك، و تعمل جاهدة على تحرير الإنسان من المقولات المركزية التي تحكمت في الثقافة الغربية لأمد طويل فلسفيا وأنطولوجيا ولسانيا، مع تخليصه من الميثولوجيا الغربية القائمة على الهيمنة، والاستغلال، والاستلاب، والتعليب، والتغريب، وذلك عن طريق التسلح بمجموعة من الآليات الفكرية والمنهجية، كالتشكيك في المؤسسات الثقافية الغربية، وفضح أوهامها الإيديولوجية، وتعرية خطاباتها القمعية المبنية على السلطة والقوة والعنف، وإدانة خطابها الاستشراقي الكولونيالي، ومحارية التمييز العرقي واللوني والجنسي والثقافي والطبقي والحضاري.

بيد أن لمابعد الحداثة كذلك عيوبها الخطيرة، ومن أهم هذه العيوب أنها نظرية عبثية وفوضوية  وعدمية وتقويضية تساهم في تثبيت أنظمة الاستبداد والقمع والتنكيل، وتجعل من الإنسان كائنا عبثيا فوضويا لاقيمة له في هذا الكون المغيب، يعيش حياة الغرابة والشذوذ والسخرية والمفارقة، ويتفكك أنطولوجيا في هذا العالم الضائع بدوره تشظيا وضآلة وانهيارا وتشتيتا.



[1] د.سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية ، سنة 2000م، ص:138.

[2] ديفيد كارتر: النظرية الأدبية، ترجمة: د. باسل المسالمه، دار التكوين، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى سنة 2010م، ص:130.

[3] ديفيد كارتر: النظرية الأدبية، ص:131.

[4] ديفيد كارتر: النظرية الأدبية، ص:131.

[5] د.سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، ص:143.

[6] د.سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، ص:142.

[7] ديفيد كارتر: نفس المرجع السابق، ص:132.

[8] ديفيد كارتر: نفس المرجع السابق، ص:133.

[9] ديفيد كارتر: نفس المرجع السابق، ص:133.

[10] ديفيد كارتر: نفس المرجع السابق، ص:134.

[11] ديفيد كارتر: نفس المرجع السابق، ص:134.

[12] ديفيد كارتر: نفس المرجع السابق، ص:134.

[13] د.سعد البازعي وميجان الرويلي: المرجع السابق، ص:138.

[14] ديفيد كارتر: نفس المرجع السابق، ص144.

 

 بقلم: جميل حمداوي

 



أضف تعليق


كود امني
تحديث