تتغيا هذه المقالة معالجة تلك المواقف التعليمية التي يكرر فيها الطلبة أمثلة على القاعدة النحوية التي يتم شرحها وبيان جوانبها النظرية، إذ تكون هذه الأمثلة في الأعم الأغلب ساذجة بسيطة، وكثيرا ما كنت ألاحظ خلال عملي كمشرف تربوي أن المثال الواحد يتكرر عند طلاب مختلفين في الصف الواحد في المدرسة الواحدة أو في صفوف أخرى في مدارس متعددة، فإذا ما أردت تطبيقا لجملة فعلية سرعان ما أتاك الطلبة بجملة "أكل الولد التفاحة" أو "كتب الطالب الدرس"أو ما شاكل ذلك من أفعال أو أسماء، تشكل جملا مكرورة سقيمة، لا تنم عن ذوق لغوي سليم، ولا عن فائدة يستفيدها الطالب مما تعلمه، أو سمعه، أو عايشه في البيت أو في المدرسة، أو مع أقرانه خلال اللعب.
وهنا أحاول أن أبحث في أسباب هذه المشكلة التربوية والتعليمية في آن ومحاولة وضع بعض المقترحات، ليكون هناك مجال لأن يستطيع الطالب تركيب جملة نحوية فعلية أو اسمية ذات مدلول سام أو تعبيرات جيدة، تنبثق أول ما تنبثق من إثارة التفكير، ولفت الانتباه لما يحيط بالطالب نفسه.
تتعلق هذه المشكلة أساسا بتصور غير دقيق لتعلم اللغة – أي لغة-، فالتركيز على القاعدة النحوية وجعلها بؤرة للتعلم بعيدا عن التطبيق والممارسة، والاكتفاء بصياغة جمل صحيحة من حيث التركيب، هو الدافع الأول لوجود لمثل هذه الجمل الركيكة؛ لأنه –وببساطة- لم تحرص الفعاليات التعليمية السابقة لدرس النحو على أن تمد الطالب بمفردات وألفاظ وتراكيب تجعله غنيا باللغة والإحساس بها، وإن حاولت تلك الفعاليات إعطاء شيءٍ منها فإن ذلك لا يتم بطريقة تعليمية هادفة، بل تُصبُّ اللغة صبا، وكأنها أشياء مجردة يُراد لها أن تُستودع في خزان ليس لحين الطلب، بل لتكون هناك حيث الخمول والكسل والركون مفعمة بأجواء البساطة الفجة، وفي أمان من الاستعمال، فقد أصبحت كقطع الخردة التي تخلص منها أصحابها بمكبات لا يكاد يُلتفت إليها.
فلا بد إذن والحالة هذه، من أن نعلم اللغة بطريقة مختلفة وبعيدة عن التصور الذهني المجرد للمفردات، وأن تنطلق من كون اللغة معبرا حقيقيا عما في النفس، وهنا يجب أن يكون الطالب فعالا يعبر عما يجيش في صدره من معاني الأفكار يصوغها هو بلغته، وأن نبتعد ابتعادا مطلقا عن تلقين الطلبة معاني تلك المفردات أو حثهم على حفظها، بل بدلا من ذلك على الطالب أن ينغرس في صلب جمله ومعانيها، ليتعرف على المعنى المقصود وليس على معاني المفردات، فحفظ مفردات اللغة هكذا لا يؤدي في حقيقة أمره إلى امتلاك الطلبة ثروة لغوية فاعلة.
وإنما الأهم والأوجب من ذلك كله الالتفات إلى السياق العام الذي جاءت فيه الجملة، ونترك للطالب من خلال هذا السياق اللغوي التعرف على معاني الجمل والفقرات والمقصود منها دون أن نكلفه ذكر معنى الكلمات، ودون أن نعرِّف تلك المفردات بتلوينها بلون مغاير وتفسير معانيها على هامش الصفحة، كما يحدث في بعض مناهجنا، فنحن بهذه الطريقة التلقينية نساهم في الحجر على العقول ونمنعها من التفكير بما يجب أن تُفكر فيه، فتقديم المعاني جاهزة لا يخدم الطلبة ولا يساعدهم على تعلم اللغة التعلم المرجو.
لقد حان الوقت إلى أن نستبدل بذلك النقاشَ والتفاعل البناء بين طرفي التعلم والتعليم، الذي يتناول النص بشكل عام، ويدخل إلى جوانبه المعرفية من خلال مناقشة فقراته وجمله، حتى إذا ما تم التعرف إلى النص وأصبح واضح )الشيفرة) المعنوية، نتحول إلى التوظيف اللغوي الهادف، فيعبر الطالب والمعلم كلاهما عن جوانب الأفكار المتعلمة بناقشها ونقدها والبناء عليها، وكأننا ننتج نصا على هامش النص الأصلي، ونبني أفكار موازية للأفكار الأولى المطروحة، على أن نوظف في ذلك مهارات التعبير الشفوي والكتابي جنبا إلى جنب.
ولا بد هنا من ملاحظة أن الحديث الشفوي قد يغري بعض الطلبة بأن يعيدوا جمل زملائهم ممن سبقوهم بالحديث، ولذا فإنه من الممكن للمعلم، إن شعر بمثل هذا، أن يوجه دفة الحديث إلى فكرة أخرى، أو الكتابة الفردية – كل طالب على حدة- على بطاقات صغيرة معدة سابقا، ثم تجمع هذه البطاقات وتُقرأ على مسامع الطلبة، دون الإشارة إلى من كتبها، وذلك تشجيعا للطلاب على الكتابة والانطلاق في التعبير دون التوجس من الرقيب أو السلطة الحادة، سواء في ذلك تعليقات الزملاء أو تعليقات المعلم نفسه، بل لا بد من الابتعاد عن التعليق السلبي على أي جملة مهما كانت، ونخطو خطوة أبعد قليلا في هذا النشاط التعليمي الهادف بأن نترك للطلاب المجال لنقد ما كتبوا وإعادة صياغته بأفضل صورة متيسرة بعد حوار الأفكار ومناقشتها وهضمها.
هذا في المستوى الأول من التطبيق والممارسة، ونعني به تحديدا توظيف اللغة في جمل منفردة، فإذا ما أردنا بناء أكبر، وكتابة فقرة أو موضوعا حول أي فكرة كانت، فما هي الطريقة المناسبة؟ وكيف يمكن أن نبدأ معه؟
لعل الخطوة الأولى التي لا بد أن نستثمرها هنا وبكل كفاءة هي خطوة التطبيق الأولي للغة؛ ولكن مع تعديل طفيف، يتمثل في أن تكون صياغة الجمل موجهة؛ فنكلف الطلبة بكتابة جمل من دوائر معنوية أو حقول دلالية معينة لها ارتباطها بالموضوع الذي نريد أن نكتب فيه، ونقسم الطلبة إلى مجموعات؛ بحيث يكون نصيب كل واحدة من هذه المجموعات اختصاص في فكرة فرعية من هذه الدائرة، ولنفرض مثلا كتابة موضوع عن التعاون، فإنني أقترح تنفيذ الكتابة على النحو الآتي:
يبدأ الموضوع في التخطيط لتنفيذه من لدن المعلم، إذ لا بد أن يكون متصورا لطبيعة الموضوع وعادّا للأمر عدته، وأن تكون البيئة الصفية منطلقا رئيسيا، فنكلف أفراد المجموعة (أ) مثلا بكتابة أفرادها جملا عن مظاهر تعاون الطلبة فيما بينهم في غرفة الصف، أما المجموعة (ب) فتكلف بالكتابة عن تجليات تعاون الطلبة في حصة التربية الرياضية، أو حصة التربية الفنية، أو أي حصة من الحصص، وكذلك المجموعة (ج) فتكلف بالكتابة عن تعاون الطلبة خلال الاستراحة، .... وهكذا، تفرع ما شئتَ حسب ما ترتئي وتخطط، وحذار من الارتجال فالارتجال يفشل كل عمل!
وتأتي الخطوة الثانية، وتتمثل في جمع ما كتب الطلبة في المجموعات، فتقرأ الجمل، ونحاول تصنيفها وترتيبها في كل مجموعة على حدة، أي الجمل يكون أولا وثانيا وثالثا، ثم تُجمع الفقرات وتعرض للطلبة ليروا هم أنفسهم الترتيب المنطقي لترتيب الفقرات، وليتم تنفيذ اقتراحين مثلا وقراءتهما، ثم الاتفاق على شكل موحد للموضوع، يقرأ للمرة الأخيرة، ونعلن عن الخطوة الأخيرة، وهي إذاعة الموضوع ونشره في الإذاعة المدرسية، ومجلة الحائط، ومجلة المكتبة.
ولكن كيف يمكن أن أوظف هذا الشكل من التعلم في حصة النحو؟، إذن فلنعد إلى المشكلة المطروحة في بداية هذا المقال، وهي مشكلة تركيب جمل فعلية واسمية ذات معنى وأن نبتعد عن النمط المعهود، ولنضرب لذلك مثالا موضوع أقسام الكلام (الاسم، الفعل، الحرف)، وهو موضوع نحوي تأسيسي، إذ يُعتمد على مفاهيمه في إرساء أساسيات تركيب الجملة الفعلية والاسمية وأساسيات المعاني، فكل جملة هي من هذه التصنيفات، فمهما كثرت وتعددت فإن الجملة لا تخرج عن أربع اعتبارات: إما أسماء خالصة، وإما أفعال وأسماء، وإما أفعال وحروف، أو أسماء وحروف، أما ما يظن أن الجملة مكونة من أفعال فقط فوهم محض؛ فالمعاني التي تقتضيها الجملة لا بد من وجود الاسم؛ فجملة "بدأ يخطو" المكونة في صورتها اللفظية الظاهرية من فعلين إلا أنها غير تامة المعنى بدون الاسم، إذ تفرض الجملة مسندين إليه بعد كل فعل، الذي يشكل في الحقيقة جملة تامة، لتتوصل إلى أن التركيب السابق "بدأ يخطو" مكون من أربع كلمات فعلين واسمين.
والسؤال كيف يمكن للطالب أن يستوعب مفاهيم جديدة، (الفعل والاسم والحرف)؟ لا بد إذن من البحث عن رابط منطقي من بيئة الطالب، ولا بد كذلك من الابتعاد عن تلقين الطلبة التلقين الببغائي للمفاهيم مجردة، فتعريف الاسم والفعل والحرف ليس مقصودا في حد ذاته، وإنما المطلوب هو التوظيف الفاعل للاسم والفعل والحرف توظيفا سليما، ولنبدأ بتعريف الطالب بالاسم، منطلقين مما حوله، إذ إن كل ما هو حول الطالب من أشياء هي أسماء، وأن ما يمارسه ويقوم بتأديته هو أفعال، ومن هذه وتلك تتكون الجمل، وقد نضطر إلى كلمات أخرى للربط المسماة الحروف.
وبالطريقة نفسها السالف الحديث عنها في كتابة الجمل والفقرات، وبتوظيف ما جمعه الطالب من كلمات نبدأ بتشكيل جمل ذات معنى ومدلولات لها صلة بواقع الطلبة، بآفاق أوسع وتوجيه مستمر، وتجديد في كل مرة، وفتح مسارب أخرى في التفكير عندها ينسى الطلبة التفاح وأكله والدرس وكتابته، لنجد أن الطالب أصبح مشيدا بيتا نوافذه مفتوحة على شاطئ من المعاني المتدفقة، وأبوابه مشرعة على جمل وموضوعات متصلة بالحياة، لتكون هي الحياة، ساعتئذ يحق لنا أن نقول: إننا نعلم لغة، ولكن على نحو مختلف!
+ ديناميكية التبئيـر المعرفـي: إستراتيجية المشرف التربوي للنهوض بمبحثه الإشرافي:
يشير مصطلح الإستراتيجية إلى تلك الخطوات المرسومة بعناية بعد جهد مضنٍ من الدراسات والأبحاث الجادة الحقيقية المنطلقة من الواقع، بحيث تكون معلومة الهدف والغاية، ومعروفة الآليات المتبعة في التنفيذ والتقويم والتقييم، وذات فترة زمنية محددة، ومتابعة مستمرة للنتائج أولا بأول، لنصل في نهاية المطاف إلى ثمرة حقيقية بعد ذلكم التعب الفكري المرهق الذي نلخصه بمفردة واحدة اعتدنا على سماعها، ولن تمل الأبحاث التربوية والسياسية من إطلاقها. إنها مصطلح الإستراتيجية.
وأخصُّ الأعمال احتياجا للإستراتيجيات العمل المتمحور حول الطاقات البشرية، وأعقد الإستراتيجيات تلك التي تتعامل مع العقول البشرية، نظرا لتعدد العقول وما يتبعها من اختلاف في آليات التفكير، تبعا لما غذيت به من أفكار واتجاهات وقيم، ولذلك فإن إعداد الإستراتيجية لعمل من هذا القبيل هو عمل خطير، يشير إلى أن من وضع تلك الإستراتيجية قد أخذ بعين الاعتبار أنه سيواجه كما لا بأس به من التنوع الفكري بين من سيتعامل معهم، ونادرا ما تجد اثنين متطابقين في فكر واحد تطابقا تاما، إذن فالمهمة صعبة، وتكاد تكون عسيرة المنال، ما الحل إذن؟
لعل الإجابة عسيرة وغير ممكنة للوهلة الأولى على ما قدمت آنفا، ولكن دعونا نستعين بمصطلح آخر، لعله يكشف عن بعض ما نريده في هذه الوقفة، إنه مصطلح "ديناميكية التبئير المعرفي".
لو حاولنا تفكيك بنية هذا المصطلح لغويا لوجدنا أنه يشير إلى مركزية المعرفة المتجددة، وأقصد بالذات بالمركزية دوران المعرفة حول بؤرة معينة مركزية يتفق عليها الجميع، ولا يرون فيها اختلافا كبيرا، إلا في بعض الجوانب غير المؤثرة في عصب الفكرة المطروحة، والاختلاف حول تلك القضايا لا ينقض الاتفاق حول تلك الفكرة العصب، وهنا يمكن التغلب على الاختلافات في الأفهام حول الإستراتيجية وتطبيقها، وهذا هو الخيط الأول.
أما المعرفة المشار إليها في المصطلح الآنف الذكر، فإنها ليست المعرفة المستفيضة المنبسطة، وإنما المعرفة المقترنة بالبؤرة المراد الحديث عنها، وهي هنا مجال تخصصك، فإذا كان التخصص هو الحكم فإن الاختلافات أيضا ستضيق، ولعلها ستتلاشى، فإذا التقت المركزية بمفهومها السابق مع المعرفة التخصصية نكون قد حققنا ثلثي ما نريد من بناء إستراتيجية معلومة الأهداف ومعروفة الغاية والنتيجة.
ويبقى الثالوث الأخير في هذا المصطلح، وهو ديناميكية تلك المعرفة المركزة، وينبه مصطلح الديناميكية إلى شيئين اثنين:
الأول: تجدد المعرفة التخصصية، وهذا يعني بالضرورة تمدد تلك المعرفة إلى كثير من الفرعيات والتخصصات الجانبية.
الثاني: اتساع المعرفة التخصصية ذاتها، لتكون ذات تمددات معرفية أخرى لها صلة بغيرها، وهنا تبدأ المسألة بالتشتت مرة أخرى، فكيف يمكن أن يساعد هذا الجانب من المعرفة الديناميكية المتحركة أفقيا وعموديا في رسم إستراتيجية واضحة المعالم.
إن أخطر ما في رسم الخطة الإستراتيجية هو السيطرة على نهر المعلومات المتدفق، وكثيرا ما أربك هذا التدفق كثيرا من الإستراتيجيات وعقد المسائل، وأصبح المجدفون يحركون أذرعهم بلا هدف، فلا ساحل أمامهم ولا شاطئ لسفنهم، وعليه لا بد لمن يضع تلك الإستراتيجيات أن يوجه مراكبه، ويضبط أشرعتها حتى لا يحرفها سيل المعرفة المتدفق عن مسارها، والذي لن يكون ذا مدلول إيجابي في غالب الأحيان، ولذلك لا بد من العودة إلى مركزية المعرفة حول بؤرة محددة، عندها ستجد الإستراتيجية المناسبة المكتملة المعالم، ليكون لدينا ثلاثة أقانيم واضحة: المعرفة، الهدف، الغاية.
والآن نسأل السؤال الآتي: هل فكرت كمشرف تربوي بإعداد إستراتيجية للنهوض بعملك الإشرافي والارتقاء بالمبحث الذي تتولى مسؤولية الإشراف عليه مع معلميك في الميدان؟
إنه سؤال صعب ومربك، وشائك، إنني لأول وهلة أراني حائرا لا أستطيع أن أقول نعم، ولن أستطيع أن أقول لا، ما رأيكم أن نقول جميعا لعم!
إنها حقيقة، لم نفكر بهذا، إذن فلنفكر من الآن على أن نخطط بشكل سليم، لينهض كل منا بمبحثه الإشرافي، في التربية الفنية والرياضية قبل اللغة العربية والرياضيات، أتدرون لماذا؟ لأنني يجب ألا أهمل قدرات عقلية متنوعة الأشكال لدى أبنائنا الطلبة، فما المانع أن نعتمد جميعا نظرية الذكاءات المتعددة بجوانبها المعروفة، لماذا لا يكون في حصة اللغة العربية جانب من التربية الفنية والموسيقية، وجانب من التفكير الرياضي المنطقي، والابتعاد، إلا في حدود ما هو مطلوب، عن تمحور الحصة حول الذكاء اللغوي.
لماذا لا تكون حصة التعبير مجالا للتعبير عن الذكاء الاجتماعي والبيني في تعامل الطلبة معا، وإشراكهم في حوار حر حول مسائل واقعية غير افتراضية، وقد شهدت كثيرا من تلك الحوارات الإلكترونية الواعية، فقد كان الطلبة قادرين على قيادة حوار فعال ونقاش حي لا يخلو من عمق وتفكير.
إذن، يجب أن أضع في إستراتيجيتي أن الطالب ذو قدرات عقلية متنوعة، لأستفيد من ذلك، وهذا جانب محدد يسهل التعامل معه، وآلياته واضحة، فلن أغرق في يم المتاهات، وعليّ بوصفي مشرفاً تربوياً مهمة تعريف المعلم بهذه الآليات، إما بالحوار المباشر، أو بإحالته للمراجع ذات الصلة، وعلى المعلم أيضا أن يأخذ هذا الأمر على محمل الجد، ويبحث وينقب ويبرمج التعليم لتحقيق هذا الجانب من جوانب الخطة الإستراتيجية، فأكون قد حققت مركزية المعرفة المتجددة وحصرتها في بؤرة واضحة، ومرئية لكلينا: المعلم والمشرف التربوي.
هذا كان مثالا ضربته لحصر المفاهيم ودلالة المصطلحات التي أسست عليها هذا المقال، والآن وبعد أن تناولنا شيئا من جوانب الطالب والمعلم، وتكاملهما معا لتحقيق الهدف، بقي أن نبحث أخيرا في المحتوى التعليمي.
وليكن معلوما بداية أن المحتوى التعليمي هو أداة ووسيلة للتعليم وتلقي المهارات والتدريب عليها، وليس المقصود منه المعرفة بحد ذاتها، لاسيما في الصفوف السبعة الأولى الأساسية، ففي هذه المرحلة تتوخى السياسة التربوية في المقام الأول وضع أسس التعليم المعتبرة لصقل العقليات والمهارات، وتنمية القيم والاتجاهات الإيجابية، ومعرفة هذا الأمر سيجعلنا نغير كثيرا من وجهة نظرنا نحو المحتوى التعليمي والتعامل معه، فنركز على ثماره في الأداء والقيم وبناء آليات التفكير في المحتوى نفسه، وعدم أخذه مسلمات، وتجنب حفظه ورسمه حروفا صماء في مخيلة تحفظ ولا تفكر، وهنا أكون قد حققت المقصود بتبئير المعرفة وتمركزها حول هدف معين، فلست معنيا كثيرا بذلك النهر المتدفق من المعلومات، وعليه لن يستطيع أن يجرفني معه، فقط أحتاج منه كمية معقولة لأتابع مسيرة بناء العقل، حتى إذا اكتملت العدة، واشتد الساعد واستدّ رميه، سهل على الطالب التعامل مع أي معرفة من أي مصدر كانت، وهذا جانب آخر ميسور وسهل.
وفي الختام أجمل ملامح التفكير في بناء الإستراتيجية في ثلاثة مرتكزات أزعم أنها أساسية:
• الطالب واستثارة ما فيه من قدرات عقلية متنوعة.
• المعلم ودفعه إلى الاستزادة والتعلم الذاتي لما يلزمه ليفهم طلابه جيدا، ويعطيهم حقهم في استثارة قدراتهم العقلية، وصقل مواهبهم.
• المحتوى التعليمي وطريقة التعامل معه، بوصفه مادة تعليمية لصنع الشخصية عبر آليات محددة من التلقي، وليس مادة ثقافية للحفظ والتعليب.
+ المعايير المهنية للمعلم خطوة في الاتجاه الصحيح:
اعتمدت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية مجموعة من المعايير المهنية لمن يتصف بصفة المعلم، وأخذت على عاتقها تطوير نظام التعليم في فلسطين عبر استراتيجية شاملة وواضحة وعميقة، واضعة النقاط على الحروف في قضية من أهم قضايا المجتمعات الإنسانية، ألا وهي التعليم.
وقد صدرت هذه المعايير عن "هيئة تطوير مهنة التعليم"، وهي هيئة مؤلفة لهذا الغرض غير حكومية تضم في عضويتها تربويين وأساتذة جامعات ومختصين ومستشارين من فلسطين وغيرها، وقد مر عملها عبر مراحل متعددة، حتى تم اعتماد صيغ مناسبة للمعايير موزعة على مجالات ثلاثة، وهي: مجال المعرفة والفهم، ويتعلق بكفاءة المعلم المعرفية وامتلاكه للمعرفة وتطورها ضمن السياقات الاجتماعية والتاريخية والثقافية، ومجال المهارات المهنية، والتي توضح قدرة المعلم على ترجمة المعيار الأول إلى ممارسات مهنية صحيحة ومدروسة، لتحقق الغرض من عملية التعليم، وأما المجال الثالث، فيبن الاتجاهات المهنية والقيم، وينبع من منظومة القيم التربوية والأخلاقية التي يجب أن يتحلى بها المعلم خلال تأدية واجبه المهني على أكمل وجه.
وقد تعددت هذه المعايير لتصل إلى ثلاثة وعشرين معيارا، بعد جلسات وورش عمل عقدت مع المختصين وأصحاب الشأن التربوي في فلسطين، شارك فيها معلمون ومديرو مدارس ومشرفون تربويون ورؤساء أقسام وأكاديميون، حتى استقرت في صيغتها النهائية، واعتمدت كمعايير واضحة لتقويم أداء المعلمين.
وقد تم توزيع هذه المعايير على العاملين في قطاع التعليم من معلمين ومديرين ومشرفين تربويين، لتكون معيارا للحكم والعمل والتقييم والتقويم، ولتكون مساعدا للمعلم على التقويم الذاتي ومساءلة عمله ومدى فاعلية ما قام به، لأنه أصبح مدركا تمام الإدراك أنه سيقيّم بناء على أمور واضحة ومفهومة وبإمكانه تحقيقها، وصار باستطاعته مع قليل من الإنصاف أن يضع لنفسه التقييم الذي يستحقه، بعيدا عن تقييم الآخرين.
بقلم : فراس حج محمد (بتصرف)