دخل غرفة نومه في تطاووس... أوصد الباب من ورائه... أحضر حبرا وورقا... جهّـز آلة طبعه ... ضغط على الزر، ثم وقف يرقب المشهد... لم يكن يخفي حلمه بأن يصدر مدونات حياته... ليصبح كاتبا معروفا وأديبا مرموقا... فيعلم الناس سمو شأنه وعظمة قدره... بدأت الأوراق تنزلق سريعا... وأخذ يمسك بها، يتفحصها ويبتسم. فجأة، ومض بين الكلمات ضوء كوميض البرق... صار طبعه غريبا... يتقلب بين الرماد والسواد... تذكر أنه نسي إحدى ذكرياته الحزينة... ذكرى وفاة أمّه بدار المسنين حيث لم تجد قطرة ماء تروي بها ظمأ السنين... شعر بالأسى والندم... وأدرك أن عليه أن يرمم عيوب القصة بأكملها أو يسقط الذنوب من أصلها... ترك مكانه وقصد ركنا بزاوية الغرفة... طوى أحلامه المنتهية... وبسط سجّادة أمّه المنسية... ثم وقف في ذلك المقام يتدبّر ويفكّر... شعر أن قبلته هي في الاتجاه الخطأ... وبينما كان يتثبّت من موضع السجود، لمحت عيناه دعوة ملفوفة تحملها الملائكة وهي في طريقها إلى السماء... شعر بالدوار، ولم يتبيّن إن كانت الدعوة معه أم عليه... تغيّر طبعه، ارتجفت أطرافه، جثا على ركبتيه وأجهش بالبكاء... سمع أولاده الثلاثة في الخارج أنين السّاجد دون أن يروا دموع العابد... فأخذوا يرهفون أسماعهم ويقتربون من الباب... كان يناجي على غير عادته ويقول: أمّاه، أنا من جالت بخاطري يوما أطماع ورغبات... وخفت على الأولاد ممّا هو آت... فقلت أبعدك عنهم للحظة أو فترة... لكن الطبع حمل العمر لسنوات... أمّاه، كلّ كلمات الكون لا تكفي لتضمِّد جراحك الدّاميات... فمعذرة غاليتي، فكلـنا أمـوات... تعجّب الأبناء ووقفوا ينظرون إلى الباب الموصد في وجههم... التفت صغيرهم وسأل: أهكذا يكون الأديب والأدب...!؟ ردّ أوسطهم: ربّما، حين يقترب المشيب وتعلو الرّتب... !أطلق كبيرهم صرخة بنبرة آمرة وقال: لا،لا، بل علينا بالمشفى، فهو من الجنون قريب أو أقـرب..!. في تلك اللحظة كانت آلة طبعه تلفظ ورقة ذكرياته الأخيرة... مدوّن عليها: أديب حاول أن يبلغ عنان السّماء... ونسي أنّ الورق لا يحتمل البقاء... وأن الحِبر لا يجفّ أبداً مع الشّقاء.
بقلم: سعيد أولاد الصغير