من علامات نجاح الروائي أنه يقتادك للتفكير في شخصياته باستمرار، أثناء القراءة وحتى ما بعدها؛ تحتلك مآزقها وآلامها ولحظات انتصارها، لدرجة أنك بالكاد تذكر أنها لم تكن حقيقية، ولربما عجزت حتى عن الفصل بين ما يحدث لها وما يحدث لك. يذكرني هذا الارتباط العاطفي بالشخصيات بتعريف أرسطو للصديقين بأنهما روح واحدة في جسدين، ليغدو بطلٌ ما تحبه كما صديقك المتخيل الذي يضعك الروائي في صلب التحولات السيكولوجية العميقة التي يمر بها، بما يضمن تورطك العاطفي معه.

جدير بالذكر أن هذا التورط العاطفي لا يمكن أن يحصل بشكل اعتباطي، فلو قيض لك أن تحاور روائيا ما فسيكشف لك الجهد الكبير الذي يبذله كي يدخلك في العمق من دواخل شخصياته، وهو ما يشكل (الصنارة) التي يلتقط بها القارئ ويضمن استمراره معه. من هذا الباب، فإن تغييبا أو تقصيرا في إيضاح ملامح الشخصية الداخلية قد يخلق بلبلة عند القارئ تجعله غير قادر على فهم تصرفات بطله، ومن ثم تجعله عاجزا عن ملء فجوات نص لا يملك ما يعينه عليه. هنا فإن الروائي كثيرا ما يستعين على هذا الأمر بالرجوع إلى ماضي شخصياته الذي يلعب دورا كبيرا في تحديد هذه الملامح. علما أني أرتاح كثيرا مع روائي يقدم لمحات إشارية استباقية تمهيدية حول بطله يدرك القارئ كنهها في محطات قادمة من الرواية، يرقب فيها مواقف بطله وردات فعله المتنوعة التي تنسجم مع ما عرفه عن كوامن هذه الشخصية.

من بين الأساليب التي يستخدمها الروائي كي يضمن تعلقك ببطله، إغراقك في صلب الصراعات العاطفية التي تستبطن إنسانيته، والتي من شأنها خلق حالة من الفضول لمعرفة ما الذي سيحصل. ويغدو طبيعيا أن عموم الشخصيات الرئيسية في الروايات تريد شيئا بقوة، أو تسعى باتجاه الحصول على شيء ما، وهو ما يشكل عاملا قويا من عوامل دخول البطل في مغامرة تستثير القارئ، وتدفعه باتجاه مراقبة هذا البطل في غمرة زحفه من السيء إلى الأسوأ، أو إلى الأفضل في بعض الأحيان. ولا ننسى هنا أن القراء لديهم درجة عالية من التسامح مع عيوب البطل/ة كما شخصية سكارليت اوهارا في "ذهب مع الريح" التي تعلقنا بها وتعاطفنا معها رغم كل عيوبها.

هذا عن البطل، أما الخصوم الذين يحضرون في إطار من تتعارض مصالحهم مع مصالح البطل، وربما يعكس الواحد منهم جوانب مظلمة من الشخصية الإنسانية، أما عن هؤلاء، فإن الروائي يستغل وجودهم لغاية تصعيد أزمة البطل مع من حوله، لذلك تراه وقد اجتهد في طبيعة (الكرت) الذي يستخدمه بطله في التعامل مع خصمه مقدما الواحد على الآخر، وفقا لما يراه أقرب إلى طبيعة البطل ومكامنه الداخلية. علما أن الروائي الحذق حتى في تعامله مع القساة من شخصياته مطالب أن يشرح للقارئ طبيعة الركلة التي كانوا قد تعرضوا لها قبل أن يكونوا هم كما رأيناهم في الرواية بصورتهم السلبية وبأفعالهم القبيحة.

إن كنا كما ذكرنا نتعلق ببطل أو بشخصية بعينها، فهل ينطبق الأمر على الروائي...؟

استمعت لأحد الروائيين يخبرني بأن الرواية تبدأ من خلال شخصية تطرق باب الخيال، فتصبح هاجسه الذي يلاحقه ليل نهار كما حالة الوقوع في الحب، ويبقى مأخوذا بها، يفكر فيها باستمرار. وأظن من خلال ما استمعت إليه أن الروائي لا بد سيظهر حبه وانحيازه لشخصية دون أخرى حتى وإن أخفاه، فكل ما علينا أن نفعله نحن القراء هو البحث بين السطور لنكتشف أنه لن يكون بحال من الأحوال مراقبا حياديا، إذ لن يكون بوسعه أن يطلب من قرائه أن يصدقوه ويحبوا شخصيته لو لم يحبها هو. أنهي باقتباس لتشيخوف يقول فيه: "أحب شخصياتك بما يكفي لفهمها، بما يكفي لمسامحتها، بما يكي لقبولها. إذا لم تفعل، فلماذا يؤمن القراء بها"؟
                                                           بقلم: د. رزان إبراهيم