كانَ جميعُ الطّلبةِ صامتينَ حين ولجَ "حمّادي" القاعةَ مُتأخراً. طبيعتهُ الأصليّة مجبولةٌ على التأخر. وقد زادتهُ منقلباتُ التثقُّف إيماناً أكثر بالتأخر؛ لما فيه من تطويعِ الطالبِ على الخضوعِ و"التّنَعُّجِّ". ولجَ مُعتدًّا بنفسه رافعاً رأسهُ إلى الأعلى. كنا نسترق النّظر، بحذرٍ مفرطٍ، إلى البُقع الفارغة من الشعر في مقدّمة رأسه. كان شكل رأسه مُبقعاً: شبيها برأس أختي حين رصّعه أخي الصغير بالعلكِ، فاضطرت أمّي، والكارثة هذه، إلى جزّ بقع العلك؛ ما أسفرَعن ظهور سلسلةٍ هضابٍ جوفاءَ تخيفُ الناظرين. كُنت أُمَنّي النّفس أن يعودَ "حمّادي" إلى عادته، فيُملي، ويُملي، ويُملي، وألا يقلب القاعةَ على رؤوسنا. بدأ يبحلقُ، بشكلٍ مبعثرٍ، ناطاً من مكانٍ إلى آخر. ثم وجه مُسدّسَه صوبَ الطالب "حزين البري":
- إيه، إيه، أنت، أنت، أنت، هذاك كحل الكمّارة، جمع الوقفة وخرج عليّ من القاعة. أنت ناقص تربية، علاش كنتِ كضحك في الندوة العلميّة، ه...ه...ه... واش كان يهرّك السْلِيبْ. قليل الأدب، حنا علا من كنديروا هاذ الندوات الوازنة؟.
طأطأ "حزين" رأسه آنَ هَذْرِ "حمّادي". كانَ "حزين" بدويَ الروحِ أصيلَ التربية عفويَ الفعل. لم تعركهُ شرور المدينة ولم يلوثه خبث أهلها. انتهزتُ زمن الهذر وكتبتُ على ورقةٍ صغيرةً جملةً مؤدّاها: "قل له: كنت أضحك على "حُرام" القذر، الذي لم يستطع بزّك... وأكملْ من ذهنك..."، ثم مرّرت الورقة أمامه. حين قرأها خطفتها بسرعة من أمامه وبلعتها في ومضةِ برقٍ. وأنا أجاهدُ بلعها سمعتُ "حزين" يردُّ بخوف:
- لم أكن أضحك عليك أستاذي، والله العظيم كنت أضحك على تفاهة "حُرامَ" الذي لم يستسغ تصحيحكَ أخطاءهُ الفادحةَ. أستاذي العظيم، أنت تعرف محبّتنا لكَ، أنا لم أضحك عليك، وسَلْ المنسقة إنْ لم تصدقني...
ظهرَ ارتياحٌ جُزئي على وجه "حمّادي"، وشرعَ يحرك رأسهُ على نحو عمودي، صعودا وهبوطا؛ كحركة خطِّ جهاز تخطيط القلب. مسحَ القاعةَ مسحاً، ويممَ شطرَ المنسقة بعيون تتوسّل الصرامة:
- أَهَادِيكْ الوزغة المسمومة، شكون لي كان كيضحك عليّ نهار الندوةِ...شكون هاذ الحمير لي كيضحكوا على سيادهم، يالــه خذي ورقة واكتبي أسماؤهم، والله حتى نربيهم كاملين.
أجابت المنسقة وَإْوَزُّ قلبها يخبط بألف جناح من فولاذ:
- ووووووووالله أستاذنا المفضال لم يضحك عليكَ أحدٌ من طلبتك. الذين فغورا أفواههم ضاحكين كانوا أساتذةً وطلبة أقسام وشُعبٍ أخرى...
أدارَ حمادي رأسهُ دورتين. شرعَ يذرعُ القاعةَ جيئةً وذهابا. وكلمّا ضاقَ به الأمرُ أخذَ سبّابته وحكّ البقع الخضراءَ المرصّعة لمريخِ رأسه، متحسّسا طراوة الجلد، ومتفقدا منابت الشعر. ثم ندهَ مُستطرداً:
- أكتبي أسماء هؤلاء. سأرفعُ تقرير بهم إلى جهاتٍ عُليا لكي يعرفوا حال العلم في بلدنا العزيز. لا بدّ من معاقبة هؤلاء. ما فعلوه حرام في الشرع والقانون. الواجب يقتضي أن نقف في وجه التفاهة والرداءة...
انغمست المنسقة في كتابة الأسماء. أطرقت رأسي متلافيا لفت نظر حمّادي إليّ. كنتُ أعرفُ أننا لن ندرسُ أربع حصص متتالية بعدَ حادثة النتف والعض. فليس "حـمّادي" ممن تخمد حفيظتهم بسهولة. وليس، أيضا، ممن يتقنون الفعل السديد. استرقت نظرة إلى ورقة الأسماء التي أغرقت المنسقة في الاستذكار والفليّ. كانت الورقة مملوءة عن آخرها والحبر يسيل ما يزال. كتبتِ المنسقة أسماء جميع الحاضرين، بدءاً من عميد الكُليّة الدكتور "خنفور الوكّال"، مرورا بالكاتب العام "عليم لمعلّم"، وانتهاء بالأساتذة والطلبة. ناف عدد الأسماء عن ثلاثة مائة اسم. لقد أَتْرَعَتِ المنسقة الورقَ بأسماء جميع الحاضرين ما عدا طلبة فصلها. والحق يُقال: كانت هناك علاقة تضامنٍ ضمنيّ بيننا، وليس هذا التضامن وليد إدراك واعٍ بالوضعِ الراسف لنا، بل كان نتاج غريزة حيوانية عميقة تجمع الخراف الصغيرة أثناء مواجهة ذئبٍ مكّار.
سلّمت الــمُنسقة الورقة لــحمّادي متردّدة ومتوجسّة. أمسكها بطريقة محقق يبحثُ عن قاتل مُتسلسلٍ. دفن عينيه في الورقة متتبعاً الأسماء. حكّ عينيه بقبضة يديه اليمنى. ارتبك. نسى أنه في القسم فضرطَ متوالية ضرطيةٍ نابعة من أحشاء أجداده. أخرج نظارته الطبية التي تشبه زجاجتاها قعر كأس يؤوب لأزمنة "ألفريدو وغوادالوبي". عادَ إلى الورقة معيداً قراءتها. حينَ رفعَ عينيه رأيت البؤبؤيين ينوسان كبندولِ ساعةٍ قديمة. وما هي إلا دقيقة حتى تفجّر في وجهنا جميعاً:
- ما هذا الهراء، لو تعرفون مقدّار حبّ الدكتور الجليل "خنفور الوكّال" لي، ما فكرتم هكذا. الدكتور نادرُ زمانه وهو لم يضحك عليَّ قطُّ. رأيته بأمّ عيني. كان متأسفاً على وقاحة "حُرام"، وقد أخبرني عن ذلك بفخامته، وطلب الصفح عن "حُرام"، مؤكدا أن هذا السلوك المشين، الصادر في حقي، نابع عن عدم تمرس بالعمل الأكاديمي الرفيع. هيا اشطبي اسمه واسم الكاتب العام بالقلم. لالالا، اشطبيهما بالمبيض، فأسماء الشرفاء لا تلطّخ بالحبر...
بحثتُ عن فكي السفلي فوجدته عند قدمي. كان وجهي ووجه جميع الطلبة عبارةً عن علامة تعجبٍ كبيرة. حاولتُ إعادة رسمِ الوجه، لكن اللّعينَ اقتنصني في لحظة غفلة خاطفة. أدركت أنني أجلس على فوهة البركان الآن. كيف السبيل للخلاص من هذا المأزق. تململ قاصدا إياي، وقال بصوت أجش، ساخرٍ، ممتعضٍ:
- وانتا، أدِيك القصير الفعايلي، علاش ما جيتش للندوة. لالالالا، أنت غادي نطردك، نطردك، نطردك، غادي نجري على مّووووووك، أنت وجهك ماشي ديال القراية، وجهك ديال السعاية. والله ما اجبتيلي المبرر المقبول هنا لا قريتها...
في اللحظة التي كنت أهمّ فيها بالردّ عليه ابتدرت المنسقة مؤكدةً حضوري، مُبرزةً، عبر هاتفها، صوراً تثبت حضوري في الندوة. حرك "حمّادي" رأسه دلالة اللامبالاة. كان مشروعُ القصفِ ينضجُ في ذهني، كنتُ متأهباً لسحقهِ ورفسهِ، لكن لم أدر كيف انقلب القول قولاً آخر، خرجَ دون وعي مني، ولعلماء النفس أن يحللوا هذه الحالة فهي خليقة بالتحليل. قلت له محتدا:
- كنتُ حاضراً أستاذي المفضال... وأَفَدْتُ من علمكم العميم... واسمح لي أستاذي، يا وحيد زمنك، أن أقول: لو لم أرَ ما فعلته بـــ "حرام" لكنتُ قد هشمتُ جمجمته، لكن، والحق يُقال، لقد قهرته علماً وعراكاً، كان بين يديكَ دجاجةً مغلوبة. فكيفَ أهشمُه بعدكَ وأنت لم تبق منه بقية...بارك الله في علمك ووقاك شر الأعداء والحساد...
تغيّرت ملامحُ حـمّادي كليًّا. بشّ وجهه بابتسامةٍ عريضةٍ. وفشا في عينيه ارتياح عميق. اتجه صوبي بكل اعتزاز وربّت على كتفي. كنتُ أتساءل، في هذه اللحظة الملتبسة، كيف انقلبت حالهُ. أيقظني من تساؤلي صوت بدا لي ناعماً وحانيا:
- هل سمعتم ما قاله صديقكم النبيه. هكذا يكونُ الطلبة النبهاء. أنت نموذجٌ يحتذى بأخلاقك وسلوكك. ودائماً ما كنتَ عند حُسني ظني بكَ. فاستمر على هذا المنوال، وإياك والتراخي فإنه عدو الاجتهاد...
حملَ حــمادي محفظته الجلدَ. ومضى خارجاً دون أن يكترث لنا. حينَ همّ بالخروج قال: سأتغيب شهراً نظراً لأن لديَّالتزامات دولية كثيرة. آمركم، في وقت غيابي، بقراءة كُتبي وإعداد قراءات عنها. ومن تخلّف عن الموعد فجزاؤه الطّرد.
خرجنا، بعده، مثنى مثنى، منتعلين قلوبنا.
بقلم: رحيم دَودي