قلتُ لها:
جفَّ فمي، وجفَّ الحِبرُ في جوفِ القلم، وتعثَّرتْ الحروفُ بلساني الممنوعِ من الكلامِ منذ زمن.
أُحاولُ أن أتهجَّى الضَّباب بعينٍ مريضةٍ لأتبيَّنَ طريقي، غيرَ أنَّ الطَّريقَ عزلتني أو رفضتني، ورمتني خارجَها، فصرتُ كسفينةٍ بلا موج، أو كطيرٍ لا يقوى على التغريد، أستجدي صوتي كي يُساعدني على استعادةِ طريقي، لأُمارسَ طقوسَ العبورِ نحو عالمٍ خالٍ من الأوبئةِ والأمراضِ، أستجدي صوتي لأبنيَ وطناً من الشِّعرِ أو وطناً من الكلماتِ.
 
لا أُريدُ للغتي أن تظلَّ مهجورةً كمنازلِ أجدادي العتيقاتِ، أُريدُها ملأى بالأزهارِ البريَّةِ والحمامِ البريِّ، والينابيعِ العاريةِ من يدِ الإنسانِ، لا أُريدُ لغرفها أن تكونَ باردةً في الشِّتاءِ، ولا أُريدُ لجدرانِها أن تتقشَّرَ أو تصفرَّ أو يتخلَّلُها العفنُ، أريدُ نوافذَها بلونِ عينيِّ حبيبتي، شفَّافةً كروحِها، تُناجيها الشَّمسُ في الصَّباحِ الباكرِ، ويُغازلها القمرُ أوَّلَ اللَّيلِ وآخره.
 
ليتني أعودُ إلى الطَّريقِ، بيدي اليمنى مصباحٌ، وبيديَ اليسرى قلمٌ شجاعٌ، يُمارسُ فروسيَّته مثلَ فرسانِ الأساطيرِ، يُعيدني من مهجري ومنفاي، ويُعيدُ إليَّ تلك الأوقاتَ الرَّائعةَ حين كنَّا نرقصُ كما ترقصُ السَّنابلُ، ونغفو كما تغفو البلابلُ، ونحلُمُ كما تحلُمُ في ليالي الشِّتاءِ القناديلُ.
 
أُحاولُ أن أستعيدَ صوتي لأطرحَ الأسئلةَ، وأُطلِقُ بين خلايا الظَّلامِ المُعشِّشِ في أرواحِنا الأخيلةَ، لعلَّ حناجرَ الأطفالِ تصرخُ، لعلَّ حناجرَ النِّساءِ تصرخُ، ولعلَّ حناجرَ الفقراءِ تصرخُ. 
جفَّ فمي، وجفَّ القلمُ، كيف أُعيدُ لهما الحياةَ؛ ليعودَ النَّغمُ إلى الوترِ، وتعودُ البسمةُ إلى الشِّفاهِ المُتشقِّقةِ، ويعودُ العِطرُ إلى روحِ حبيبتي، فيضوعُ على الطُّرقاتِ كما الماءِ ؟ 
 
جفَّ فمي، وجفَّ القلمُ وأنا أحسبُ على أصابعي مثلَ الأطفالِ سنواتِ العمرِ المهدورةِ كدماءِ الخارجينَ عن القبيلةِ.
 
جفَّ فمي، وجفَّ القلمُ وأنا أحسِبُ الأخطاءَ في الإملاءِ وفي الحسابِ، ونسيتُ أنَّ الأخطاءَ مهما كانت قليلةً فثمَّةَ خطأٌ قاتلٌ.
 
هامش: لا توجدُ حياةٌ بلا أخطاءٍ، كما لا يُوجَدُ معجمٌ للأخطاءِ من دونِ أخطاءٍ.
 
بقلم: عاطف الدرابسة