مشاعرنا وعواطفنا وأشواقنا العميقة قد تؤدي بنا إلى تجاهل دافع البقاء الشخصي، كتضحية الأهل لإنقاذ طفلهم، فهذه التضحية بالنفس، هي عمل غير عقلاني بالمرة من منظور العقل البحت، أما بمنظور القلب فهي تكاد تكون خيارًا وحيدًا لا بديل عنه. ومن هذا المثال ينتقل الكاتب لحقيقة أن كل عاطفة من عواطفنا توفر استعدادًًا متميزًا للقيام بفعل ما، فالانفعالات، والتي تقود إلى أفعال، هي الخطط الفورية للتعامل مع الحياة.

ويوضّح الكاتب أن الإنسان يمتلك عقلين يحصل بهما على المعرفة، هما العقل المنطقي الذي يسمح لنا بالتفكير العميق والتأمل، والعقل العاطفي المندفع غير المنطقي أحيانًا. مشيرًا إلى أن بينهما تنسيقا دقيقا رائعا، فالمشاعر ضرورية للتفكير، والتفكير مهم للمشاعر، لكن إذا تجاوزت المشاعر ذروة التوازن، يكتسح العقل العاطفي العقل المنطقي ويدفعه دفعًا.

ويتطرّق إلى حقيقة أن الذكاء الأكاديمي ليس له سوى علاقة محدودة مع النجاح، فقد يفشل الشخص اللامع بيننا من حيث الذكاء، ويخفق في حياته، نتيجة عدم سيطرته على انفعالاته ودوافعه الجامحة. ويمكن أن يفتقر الأشخاص الذين يتمتعون بمستوى ذكاء مرتفع إلى القدرة على تسيير حياتهم الخاصة على نحو يبعث على الدهشة.
وينقل الكاتب عن كثير من الدراسات أن الغالبية العظمى من الحاصلين على مراكز متميزة في المجتمع، لم يحدد معامل الذكاء تميزهم هذا، بل عوامل أخرى كثيرة، منها قدرات الذكاء الانفعالي أو العاطفي، مثل القدرة على حث النفس على الاستمرار في مواجهة الإحباطات، والتحكم في النزوات، وتأجيل الإحساس بإشباع النفس وإرضائها، والقدرة على تنظيم الحالة النفسية، ومنع الأسى أو الألم من شل القدرة على التفكير، وأن تكون قادًرا على التعاطف والشعور بالأمل، مبينًا أن تنمية هذه القدرات في مرحلة الطفولة هي التي تشكل الاختلاف الكبير بين شخص وآخر.

كل هذه الحقائق أكدها الكاتب بنتيجة أن التقديرات تشير إلى أن معامل الذكاء العقلي أو المنطقي يسهم في 20% فقط من العوامل التي تحدد النجاح في الحياة، تاركا 80% من العوامل الأخرى.

1- الذكاء العاطفي... مفهوم أدق:

وسعيًا نحو تحديد أدق للذكاء العاطفي، وما إذا كان مجرد مجموعة من السمات قد يسميها البعض صفات شخصية، يذهب الكاتب لأبعد من ذلك ولكونها قدرات أرقى، تحدد كيفية استخدام المهارات التي نتمتع بها كالذكاء المنطقي أو الأكاديمي مثلا، مشيرًا إلى أن كثيرًا من الأحداث تشهد أن الأشخاص المتميزين في الذكاء العاطفي الذين يعرفون جيدًا مشاعرهم الخاصة ويقومون بإدراكها جيدًا، ويتفهمون ويتعاملون مع مشاعر الآخرين بصورة ممتازة، هم أنفسهم من نراهم متميزين في كل مجالات الحياة. أما من لا يستطيعون التحكم في حياتهم العاطفية، فنراهم يدخلون في معارك نفسية داخلية تدمر قدرتهم على التركيز في مجالات عملهم، وتمنعهم من التمتع بفكر واضح.

ويستدل الكاتب بتقسيم «جاردنر» الذكاء إلى سبعة أنواع، هي (البراعة اللغوية، البراعة الرياضية المنطقية، براعة إدراك الحيز والتي تتبدى في أعمال فنان أو معماري، براعة الإحساس الحركي، براعة الإحساس الوجداني، ذكاء العلاقات المتداخلة بين الناس، وبراعة تناغم حياة الفرد مع مشاعره الحقيقية)، مع تعقيب «جاردنر» بأن سبعة مداخل للذكاء هي مجرد رقم تقديري بالنسبة لأنواع الذكاء الكثيرة، فلا يوجد عدد سحري لتعدد مواهب الإنسان، فهناك من القوائم من وصلت إلى عشرين نوعًا، كتقسيم الذكاء في العلاقات الشخصية إلى أربع قدرات متميزة: القيادة، والمقدرة على تنمية هذه العلاقات، والمحافظة على الأصدقاء، والقدرة على حل الصراعات، والمهارة في التحليل الاجتماعي.

وحول الذكاء في طبيعة العلاقات المتبادلة بين الناس، يقول إنه يتمثل في القدرة على فهم الآخرين، وما الذي يحركهم، وكيف يمارسون عملهم، وكيف نتعاون معهم، وأن أساس هذا النوع من الذكاء هو القدرة على أن تميز وتستجيب استجابة ملائمة للحالات النفسية والأمزجة والميول والرغبات الخاصة بالآخرين، وأنه عادة ما نجد هذا النوع من الذكاء عند التجار الناجحين والسياسيين والمدرسين والأطباء والزعماء الدينيين.

2 - علم يُكتسب:

ويركز الكاتب على أن العواطف علم يمكن إكسابه للأفراد وبخاصة الأطفال، بحيث إنه يمكن أن يعبر الطفل عن وجوده داخل الفصل بدلاً من كلمة (حاضر) أو (موجود) برقم يدل على حالته النفسية، مثلا 10 يعني طاقة ونشاطًا مرتفعين و1 يعني معنويات منخفضة، وهذا تم تطبيقه فعلا فى مركز "نيڤـا" فى سان فرنسيسكو، مؤكدًا أن على المدرس التركيز على البناء العاطفي للطفل، حيث إنه يعد نقطة مركزية فى حياة الطفل، ويتم الآن تدريس استراتيجية علوم الذات واستخدام التوتر والصدمات في حياة الأطفال، حيث يتم التدريس عن طريق مسائل واقعية مثل الشعور بالإهانة والحسد، وعن الخلافات التي تدور بين الأطفال في فناء المدرسة
وتقول مديرة هذا المركز «لا يمكن فصل مشاعر الأطفال عن التعلم العاطفي الذي يرقى إلى أهمية تعلم القراءة والحساب ذاتيهما».

3 - تدريس الذكاء العاطفي في المدارس:

ويسرد الكاتب بعد ذلك الأسماء المتعددة التي يدرس من خلالها الذكاء العاطفي من بينها «الذكاء الاجتماعي» و«مهارات الحياة» و«التعلم العاطفي»، ويقول الكاتب أن الهدف من التعلم فى هذا المجال هو رفع مستوى الكفاءة الاجتماعية والعاطفية لدى الأطفال كجزء من التعليم النظامي، مشيرًا إلى أنه تمّ تدريس الذكاء العاطفي في العديد من المدارس كبرنامج وقائي للحد من مشاكل الأطفال والمراهقين مثل التدخين وإدمان المخدرات أو ترك المدرسة أو العنف، وأن هذه البرامج تعلم الأطفال والمراهقين التحكم في الاندفاع والسيطرة على الغضب وإيجاد حلول للمشاكل العاطفية والاجتماعية.

من بين مهارات الذكاء العاطفي التي يمكن تعلمها وأشار إليها الكتاب، القدرة على التفكير الإيجابي، فأصحاب الآمال العريضة يشتركون في بعض الصفات، مثل قدرتهم على تحفيز أنفسهم، وشعورهم أنهم واسعو الحيلة بما يكفي للتوصل إلى تحقيق أهدافهم، مؤكدين لأنفسهم أن الأمور إذا ما تعرضت لمأزق ما، لا بد أنها سوف تتحسن، فالأمل عندهم كما يقول «سنايدر»: هو اعتقادك بأنك تملك الإرادة والوسيلة لتحقيق أهدافك مهما كانت هذه الأهداف.

ويصف الممتلئين بالأمل بالمرونة من أجل إيجاد سبل الوصول الى أهدافهم، أو تغيير الأهداف التي يستحيل تحقيقها، وأنهم يتمتعون بالحاسة الذكية التي تمكنهم من تقسيم مهمة صعبة إلى أجزاء صغيرة يمكن التعامل معها. إنهم يرجعون فشلهم إلى شيء ما يمكنه تغييره، لينجحوا فيه في المرة القادمة، بينما يلوم المتشائمون أنفسهم ويرجعون فشلهم إلى بعض صفات دائمة هم عاجزون عن تغييرها.

4 - فـن إدارة العلاقات بين البشر:

إن التعامل مع عواطف الآخرين أو ما يعرف بفن إدارة العلاقات بين البشر، يتطلب نضج مهارتين عاطفيتين هما: التحكم في النفس و التعاطف.. إنها المهارات الاجتماعية التي تجعل التعامل مع الآخرين فعالا، ذلك أن العجز عن امتلاك هذه الكفاءات يؤدي إلى فشل أو عجز في الحياة الاجتماعية، أو تكرار النكبات التي تحدث بين الناس. هذه القدرات التي يتمتع بها الإنسان هي التي تجعله قادرًا على مواجهة الآخرين وتحريكهم، وعلى إقامة العلاقات الحميمية الناجحة، وعلى إقناع الآخرين والتأثير فيهم وجعلهم راضين عن تصرفاتهم، كما أن إحدى الكفاءات الاجتماعية تتمثل في الكيفية التي يعبر بها الناس عن مشاعرهم ومدى نجاحهم أو فشلهم في التعبير عن هذه المشاعر، وأن يعرف المرء متى وكيف يعبر عن مشاعره.

وفي الختام يؤكد الكاتب على أن الانفعالات تنتقل سريعًا بالعدوى، وبقدر ما نكون حاذقين اجتماعيا تكون قدرتنا أفضل فيما نرسله من إشارات عاطفية، ونضمن حفاظنا على مجتمع مهذب.

إنّ الذكاء العاطفي يشمل إدارة هذا التبادل للإشارات، وتعبير «هذا الإنسان محبوب وجذاب» نستخدمه حين نصف أشخاصًا نحب صحبتهم، لأن مهاراتهم العاطفية تجعلنا نشعر أننا بخير، فالأشخاص القادرون على مساعدة الآخرين وإشباع رغباتهم يملكون سلعة اجتماعية ذات قيمة خاصة.. إنهم الأرواح التي يلجأ إليها الآخرون عندما يحتاجون إلى العاطفة أشد الاحتياج، فنحن جميعا جزء من طاقم إنساني يجمعنا معًا، نتبادل فيه العواطف لنكون في حالة أفضل أو أسوأ.

         الكتاب:الذكاء العاطفي،المؤلف:  دانييل جولمان،المترجم :ليلى الجبايلي،مراجعة:محمد يونس

             الناشر:المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت،عرض:ي وسف غريب

أضف تعليق


كود امني
تحديث