لعل من غرابة الأمر وعواقب هذه الوضعية المحيرة على مستوى آخر، هو ازدياد التعلق والتبعية والتّماهي بشخصية المدرس الذي يعمل في نفس الوقت جاهدا على تشجيع الاستقلالية والاعتماد على الذات واتخاذ المبادرة الفردية. إن وضعيات التعليم/ التعلم تضع دائما كلا من المدرس والتلميذ أمام مواقف لا تخلو من إغراءات يكون ضحيتها في غالب الأحيان من هو أقل نضجا وأقل خبرة، حيث لا يملك الصغير من آليات الدفاع إلا النزر القليل بالمقارنة مع الراشد الذي توجد بحوزته آليات متنوعة، كما أنه يوجد في موقع قوة ما دام هو الوحيد الذي يعلم مسبقا ما ستؤول إليه أبحاث وتخمينات التلاميذ. ومن مخاطر هذا الإغراء أيضا، ذوبان شخصية التلميذ وتلاشيها إلى حد فنائها.
إن المدرس النبيه لن يكون ذلك الذي يقدم المعارف والخبرات والتجارب جاهزة لتلاميذه دون أن يبذلوا أي جهد أو عناء في البحث عنها وفهمها، ولن يكون أيضا ذلك المدرس الذي يستمتع بعجزهم دونما توجيه منه لإشباع رغبة دفينة في أعماقه. بل هو الذي يحاول استكناه ذلك الطفل الذي يرقد بداخله. وفي نفس السياق أيضا يمكن أن نتساءل مع بوستك Postic " ألا يغامر المدرس بعدم قبول رغبة الطفل إلا لحمله على الاعتراف برغبته هو؟".
إن العلاقة البيداغوجية التي تربط بين المدرس والتلميذ، يجب أن تحافظ على نوع من المرونة تسمح لكل واحد منهما أن يعي ذاته ويحس بتميزها عن ذات الآخر. ويلاحظ "بوستك" أن العلاقة البيداغوجية تغذيها رغبات دفينة، وتجعل الشخص يعيش على أمل إشباعها؛ لكن دور المربي يقوم أساسا، وباعتباره الأب الرمزي، "بدور الوسيط بين الذاتي والاجتماعي ويعمل على إيصال الطفل إلى قوانين المجموعة الاجتماعية. مع إمكانية الحصول على علاقات أخرى بالموضوع تتعلق بالمعرفة وتتصل أيضا بالحياة الاجتماعية". فالمدرس النبيه هو الذي يفطن إلى تلك المسافة المعقولة الواجب الاحتفاظ بها بينه وبين التلميذ هذه المسافة التي تفصل بينهما تجعل كل واحد منهما يعي ذلك الحيز الزماني والمكاني الذي يمتلكه لنفسه ويطمئن إليه لأنه يعتبره مجالا محرما على الآخر، انطلاقا منه يخطط لعملياته واستراتيجياته، وإليه يعود ليحتمي به عندما يحس بخطر يهدده.
إن هذا المدرس نفسه هو الذي يقي ذاته من مزالق النكوص إلى مراحل سابقة، قصد الاحتماء بعلاقتهما وآلياتها الدفاعية على الرغم من عدم جدواها، كما يقي تلاميذه من أشكال التماهي التي تزج بهم في وحدة انصهارية تحول دون وعيهم بذواتهم كماهيات مستقلة. ولعل ما يضمن هذا الأمن النفسي والجسمي لكل من المدرس والتلاميذ أثناء تواصلهم المباشر والغير المباشر نجد، كما يذكر ذلك "ميريو" تلك الطقوس المدرسية التي ترتبط بإعداد المكان وتقسيم الزمن وتقنين السلوكات، وفي المقام الثاني إعداد ذلك المشروع الذي يلتزم كل واحد في جماعة الفصل بالمشاركة فيه والعمل على إنجاحه من خلال المهمة التي يتولى إنجازها بتنسيق مع الأعضاء الآخرين؛ آنئد يصبح هذا المشروع بمثابة وساطة تفصل بين ذات التلميذ وذات المدرس، وتعطي لكل منهم نقطة ارتكاز تكون بمثابة درع واق له من أخطار الإغراء الذي تهدده من لدن الطرف الآخر.
واستنادا إلى ما سبق، يمكن القول إن الرغبة أو الاهتمام يبقى الخيط الرابط بين عمل كل من المدرس والمتعلم، فكل واحد يحس بشيء يدفعه اتجاه العمل من خلال التوفيق بين مجموعة من الحاجيات والنزوات الذاتية من جهة، ومقتضيات الواقع التعليمي-التعلمي من جهة ثانية.
المصدر : سلسلة التكوين التربوي؛ خالد المير وإدريس القاسمي (بتصرف)