يروم خطاب المهنية تغيير المهام والأدوار الجديدة التي ينبغي أن يقوم بها المدرس(ة) بالنظر للتحولات الكثيرة؛ غير أن ذلك لا يعني أن مهنة التدريس تقوم على وصفات جاهزة ينبغي تنفيذها، وهي ليست حرفة تتوارث أبا عن جد أو من صانع إلى صانع أساسها توارت سر مهني وتقنيات وأدبيات في وسط اجتماعي منغلق. يرى السوسيولوجي الفرنسي فليب زرفيان بأن هذا النموذج الحرفي تمتد جذوره في التاريخ؛ إذ بدأ مع تعاونيات الصناعة التقليدية في المدن. وكان يمارس في وسط اجتماعي حرفي؛ إما أننا من أهل الحرفة أو لسنا منهم. وكان يمارس بتعلم يتوارث التجارب والخبرات وفي تراتبية للعلاقات، حيث نجد المبتدئ والصانع الماهر الذي يمتلك معرفة مهنية لا تحيل فقط على قواعد المهنة، بل على الجودة و الأصالة. ثم إن العلاقة بالسوق كانت علاقة مباشرة.
لقد تعرض هذا النموذج للهجومات منذ نهاية القرن XVIII من طرف الثوريين الذين رأوا فيه شكلا لا ديمقراطيا يعود إلى العهود القديمة، معيقا للمواطنة ووحدة الأمة. ثم رأى فيه المقاولون المصنعون الجدد، الطبقة الرأسمالية الجديدة، حاجزا يعيق التحول وعقلنة طرق العمل كمراقبة الساكنة العمالية منذ أن بدأت تتجمع في المصنع.
لقد تنبأ كارل ماركس بنباهة كبيرة إلى النزعة الآلية من حيث أنها آلة حرب ضد النموذج الحرفي. وقد دامت هذه الحرب قرنين من الزمن لينتصر نموذج منصب الشغل مع التايلورية في الأخير، ومع ذلك ظلت الحرفة تقاوم الشغل حينما يقال avoir un métier أو avoir un emploi أو tenir un poste ، فصرنا نتحدث عن مهنة الإعلامي و المهندس.
ففي مثل هذه الحالات ستبقى الحرفة هي التي تحدد قاعدة الانتماءات الاجتماعية والمهنية والاعترافات المهنية، بينما يعمل نموذج الشغل أو منصب الشغل على تحديد أشكال أخرى من الاعترافات والانتماءات المهنية، علما أنه كان في السابق مع كارل ماركس يعتمد الانتماء الطبقي كانتماء يحدد الهوية، أي الهوية الاجتماعية. وأما مع النموذج الكفاياتي فإن التصنيف يرتبط بالمكتسبات والقدرات والمهارات والكفايات، وبالإجمال يرتبط بمرجع الكفايات.
لقد كان العمل في القرن الثامن عشر يعني الذكاء العملي (بما فيه الذكاء الحركي) للصانع أو الفلاح. ولم يكن من المقبول ولا من اللائق والمستساغ التمييز بين الفرد العامل والعمل. ولكن حصل شيء ما حين دخل عنصر العمل ليصبح التمييز بين الفرد والعمل، هذا العمل الذي يمكن موضعته وتحليله وعقلنته و وصفه وتغييره في استقلال عن العامل، عن الفرد، عن الفلاح والصانع الذي ينجزه، ولم يعد العامل شيئا آخر سوى موضوعا مشيئا يحمل قدرات (وظيفية) ضرورية لانجاز ذلك العمل.
سيكون التأهيل طريقة لتأهيل العلاقة بين العمل وقدرات العامل وطريقة وتصنيف ذلك وفق درجات التعقيد لتتأتى الوظيفة وإمكانية المراقبة والتقويم بدقة؛ وبتعبير كلاسيكي فإن الفرد في الفترة الصناعية لم يكن يمتلك نشاطه الاقتصادي الذي يظهر كشكل خارجي وبراني. لقد كان الصراع منذ القرنXIX صراعا مريرا بين أهل الحرف وحركيات العقلنة ونزع تملك العمل التي يمثلها المهندسون قبل ظهور التايلورية لنصل إلى مرحلتنا هذه التي أصبح العمل فيها يعني الكفاية المتوفر عليها التي يستطيع العامل تنفيذها وتعبئتها.
وعلى وجه الإجمال فإن إعادة تملك العمل من طرف من يمارسه، في أزمنة الكفاية، ليس سوى التكرار البسيط للماضي، علما أن الشروط الاجتماعية وشروط الإنتاج قد تغيرت بشكل راديكالي. وهناك حسب زارفيان ثلاث سمات تميز الحداثة الحالية هي:
أولا: ظهور الفردانية التي يتكثف معناها في الذات كصاحبة أفعالها والمتحكمة في حياتها. ثم إن أشكال التنشئة الاجتماعية تعمل على ظهورها وفردنتها، وتنمي الوعي الذاتي لكل فرد داخل الحياة الاجتماعية. وإن هذا الفرد المتفرد بنشاطه هو العامل.
ثانيا: مستوى الارتباط وفضاؤه ويعني أن العمل الجماعي المتسلسل الميكانيكي بدأ في التراجع شيئا فشيئا ليظهر في تبادل الحوار ووجهات النظر والتواصل وتبادل المعلومات.لا وجود فيه للاتفاقات الظاهرة أو الخفية، هناك شبكة من التفاعلات متعددة ومعقدة وتعددية في التعاقدات.
ثالثا: سيادة اللايقين في السوق ووجود المصادفات الاقتصادية.
إن تحول العمل جعله تعبيرا مباشرا عن قوة فكر وفعل الفرد ومعرفته وذكائه العملي والتزامه، وحيث لا يعين كأجير إلا في إطار مراقب لإظهار كفاياته مع تحريك وتشغيل موارد خاصة وتنظيمية. إنه تجريد للذوات (التلاميذ و الطلاب و الأجراء) وفق تجاربهم مع فردنة واضحة صاحبتها تكنولوجيا الإعلام والاتصال لتزيد منها ، بل إن العمل المهني الاحترافي ينظر إليه من المنظور الشخصي والخاص مباشرة ليصبح الفرد في النهاية ذاتا وفاعلا في الآن نفسه.
إن المسألة المطروحة في نموذج الكفايات هي ما العمل حينما لا يقال لي ما يجب القيام به؟ ذلك هو نموذج الاستقلالية المرغوب فيه المتسم بالمبادرة التي تعني البدء في شيء جديد في هذا العالم. والمبادرة لها علاقة بفعل agir المشتق من اللاتينية agere الذي يعني إدخال الحركة في الشيء أو إلى الشيء أو إطلاق سيرورة معينة. ثم إن مفهوم الاستقلالية أحدث داخل المقاولة تحديدا جديدا لعلاقات السلطة وقواعد العمل، غير أن مفهوم المبادرة ظل يعني الكفاية وهي في الفعل ذاته والتزام الذات ليس في علاقتها بالقواعد بل بآثار الأفق. وبذلك فإن الكفاية هي المبادرة موجهة بالاستقلالية.
تصاحب المبادرة أحكام أو لنقل لا وجود لمبادرة بدون أحكام. فالشخص الكافي لا يأخذ أية مبادرة كيفما كانت. وأول مبادرة ينبغي أن يقوم بها المبادر هي المبادرة نفسها، ولكن أي مبادرة؟
هناك نوعان من الانتماءات تعرف أزمة هما الانتماء الطبقي (الانتماء للطبقة العاملة) والانتماء الحرفي (بالمعنى القديم للفظ). وإن ما هو في حيز الظهور الآن هو الانتماء للمقاولة. وبذلك فإن تعريف الكفاية سيكون هو" أخذ المبادرة والمسؤولية من طرف الفرد في الوضعيات المهنية التي سيواجهها". فالكفاية بهذا المعنى ذكاء عملي فردي وقدرة على تشغيل شبكات الفاعلين حول نفس الوضعيات وتقاسم الرهان والاضطلاع بمسؤوليات.
لا يمكن أن تعرف الكفاية من خلال وضعية واحدة، وخاصة الكفاية المهنية. فالوضعية هي إطار وسياق، وهي مكونات لوضعية تظهر كمرتكزات وموارد [في ورش مثلا نجد آلات ومواد وإجراءات...]، وهي مشكل ومجموعة مشاكل على الفرد أن يواجهها، وهي النتيجة المنتظرة، وهي كذلك المبادرة والتفاعل مع فاعلين آخرين يشترط النجاح أو الفشل بوجودهم. وأخيرا هي نمط أو إجراء تقويمي.
فالمدرسة بالقدر الذي تعترف بالحرفية تنفتح على المجتمع والعالم؛ ولذلك فإن مجتمع المدرسين والمدرسات رغم نشاطه في مجتمع مدرسي قائم الحدود فإنه المجتمع الأكثر انفتاحا على المحيط لأن مهام المدرسة الأساسية تنبع من حاجات المجتمع للتربية والتعليم والتكوين. ولعل هذا السبب وحده يضعنا أمام مفهوم جديد للمدرسة هو المدرسة الشاملة أو بتعبير دقيق فإن حرفية المدرس(ة) هي جعل المدرسة مدرسة شاملة.
على المدرس أن يدرك بأن المدرسة توجد اليوم تحت رحمة رهانات كثيرة كأي تنظيم آخر؛ منها الرهانات الاقتصادية التي لا تتوانى في مطالبة المدرسة بتقديم تعليم نافع وبراجماتي، وهي رهانات لا تخفي خلفياتها النظرية والعملية التي تريد أن تجعل من المدرسة صدى للمقاولة على مستوى التسيير والتدبير وبناء الكفايات ولتكون تنظيما معلما organisation apprenante على غرار المقاولة.
هناك من، جانب ثان، رهانات سياسية تتمثل في الدعوة إلى تعميم التعليم الأولي والابتدائي والإعدادي والانخراط في تحرير التعليم بدء من التعليم الثانوي، علما بأن هذا التوجه العولمي يهم هيكلة الأسلاك الدراسية والتدريس بالمجزوءات وتمهين التعليم وتعددية المسالك المهنية، وإعادة النظر في الشواهد المدرسية والإشهاد...إلخ.
كما تتزايد الرهانات، من جانب ثالث، باستحضارنا لرهانات المجتمعات المدنية التي تطالب بتعميم ثقافة حقوق الإنسان والإنصاف والعدالة في الفضاء المدرسي وفي المحتويات المدرسية والتقويم...إلخ.
وأخيرا نجد الرهانات البيداغوجية التي أضحت اليوم أمرا واقعا منذ أن تبنت المدرسة الخطاب الكفاياتي: المقاربة بالكفايات، وما تطرحه من مشاكل نظرية وعملية للمدرس، ومن خلفيات متنوعة تعود بالأساس للمقاربات الكفاياتية ذاتها.
وما سيلاحظه المهتم بخصوص هذا الجانب أن الخطاب المدرسي أضحى ممزقا، اليوم، بين رؤى كفاياتية غير تربوية وبيداغوجية ورؤى تريد أن تستعيد الوظيفة البيداغوجية للخطاب المدرسي دون رفض للخطاب الكفاياتي إما بتكييفه أو إعادة تأصيله أو تطويره. وإذا ما أضفنا إلى هذه الرهانات كلها رهانات أخرى لصيقة بالتكنولوجيات الجديدة التي بدأت في غزو الفضاء المدرسي سنستخلص عددا كبيرا من التداعيات التي ستؤثر إن لم نقل ستغير الأدوار التقليدية للمدرسة والمدرس والمتعلم إن على مستوى العلاقات أو على مستوى طرق التعليم أو العلاقات كعلاقة المدرس بالمتمدرس أو علاقة المؤسسات المدرسية فيما بينها، أو على مستوى محتويات التدريس والتقويم والدعامات الديداكتيكية التي سيعتمدها المدرس في عمله اليومي...إلخ.
والحاصل أن الرهانات متعددة كالرهان القائل بجعل المدرسة في قلب الحياة الجماعية، أو جعل المدرسة متكيفة مع محيطها ووسطها، أو العمل على انفتاح المدرسة على شركائها. فكل هذه الخطابات الجديدة تجعل من المدرسة مدار رهانات لا يمكن تفكيك خلفياتها إلا بالتساؤل عن أي مدرسة نتحدث أو أي مدرسة نريد؟ فسؤالنا هذا يريد أن يجعل من المدرسة قضية مطروحة للجميع.
بقلم: الحسن اللحية