من المتعارف عليه بمختلف الأنظمة التعليمية، أن أي عمل تربوي جاد، يستهدف الارتقاء بمستوى المتعلم، وإثراء رصيده العلمي والمعرفي، يعد عملا مثمرا يستحق المباركة والتنويه، ويستوجب الحرص على تكريسه بالتوجيه العميق، التشجيع المستمر والاستثمار الأمثل، لخلق مواطن صالح ومتمكن، يعتمد على نفسه، ويكون بمقدوره كسب رهان المستقبل وصناعة الأمل، لإسعاد الذات والأسرة والمجتمع.وفي هذا الإطار، يندرج ما يعرف بالفروض المنزلية.

  فالفروض خارج المدرسة، من أكثر المواضيع إثارة للجدل داخل بعض الأوساط الاجتماعية،  خاصة في المراحل الأولى من التعليم الأساسي، لما تشكله من عبء إضافي، يرهق المتعلم ويثقل كاهل الأبوين. من حيث عددها الأسبوعي، صعوبة مواضيعها وكلفتها المادية، خصوصا عند الاضطرار إلى الاستعانة بدروس مؤدى عنها. لكنها تمثل في ذات الوقت فرصة مواتية لربط المدرسة بالأسرة، والأهم من ذلك كله، أنها أنشطة تربوية ذات فاعلية في حياة الناشئة، يتم وضعها من قبل المدرس، لتنجز في البيت تحت مراقبة وإشراف الوالدين، وهي إطار مرجعي للرفع من جودة الإنتاج الكمي والنوعي، شريطة التحضير لها بجدية، بناء على مقاصد واضحة وعميقة، وطبقا لمواصفات علمية دقيقة، ترتبط بحاجات المتعلم وتتلاءم مع مؤهلاته وميولاته، وأن يتم تصحيحها جماعيا لتعميم الفائدة. ويمكن اعتبارها جسرا لتعلم ذاتي هادف، يضمن تكوين شخصيته، وتشكيل قناعة راسخة بقدراته العلمية والتعليمية، وتدريبه على الاستقلالية وتحمل المسؤولية، بتعلمه كيف ومتى يتعلم؟ وأين يحصل على التعلم؟ وإثارة حس البحث والتجديد لديه، لتأسيس مجتمع مثقف ودائم التعلم، مادام التعليم نظاما ممتدا في الزمان والمكان، ولا يتحدد بمراحل عمرية وداخل قاعات مبتئسة.


   وبما أن الفروض المنزلية جزء من العملية التعليمية-التعلمية، وتلعب دورا بارزا في مساعدة المدرسين على التخطيط، فإنه يتعين تهييؤها حسب التوجيهات الرسمية، وتبعا لمعطيات تربوية مضبوطة. إما بتحديد أرقام تمارين معينة في الكتب المدرسية، أو بأسئلة معدة بعناية في جذاذات خاصة، أو بطرح مواضيع وملخصات فردية، ترسخ الاعتماد على النفس في الاستيعاب والتفكير المنطقي، وتنمية المهارات، أو بإجراء عروض مشتركة لإشاعة روح التعاون، وإتاحة الفرص لتبادل الخبرات. والفروض إجمالا، تغذية راجعة تعكس حقيقة مستوى المتعلم، وهي كذلك محطات للتقييم والتقويم، بتسليطها الضوء على الجوانب المظلمة في مساره الدراسي، لتزويده بالدعم اللازم في أجواء من الترابط والتكامل، تعزيزا للمكتسبات السابقة وإعدادا  للحصص اللاحقة، في اتجاه تجويد تعلماته، تعميق الإحساس بقيمته الذاتية والثقة في مؤهلاته الشخصية، حتى يكون قادرا على التواصل والتعايش مع محيطه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.


   ومن المؤكد، أن حسن استثمار هذه الفروض، يؤدي حتما إلى استنهاض الهمم وشحذ العزائم، لفتح شهية المتعلمين وجعلهم يقبلون بشراهة على الدرس والتحليل، وتلبية طموحاتهم المعرفية، بممارسة أنشطة أخرى ذات طابع تثقيفي، ترفع من وتيرة التنافس الشريف بينهم، وتفسح أمامهم مجال المشاركة الفاعلة في جمع المعلومات من خارج المقررات الدراسية، بتكثيف جهود البحث وتثبيت العادات المحمودة كالقراءة والكتابة الحرتين، الانخراط في الأندية الثقافية والمكتبات العمومية. فتطوير الذات وتنوير العقل، لم يعودا اليوم بعيدي المنال، في ظل تدفق المعلومات وغزارة المعارف، من خلال انتشار المنتجات التكنولوجية والوسائل التقنية المتقدمة والمتعددة الوسائط، وتنامي مراجع الفكر الرقمية الحديثة، التي لا يمكن الاختلاف حول إيجابياتها، متى تم توظيفها بشكل صائب، وفي أحسن الظروف.


   بيد أن المؤلم، هو ما صرنا نلاحظه من انزياح هذه الأعمال المنزلية عن أهدافها، بإقدام شرذمة من العابثين بمصالح ناشئتنا على استغلالها لابتزاز الأسر، ما أدى بالوزارة الوصية إلى التدخل بقوة، وتشديد لهجتها ضد كل من تسول له نفسه استدراج تلامذته لدروس خصوصية، بدل مواكبة المتعثرين منهم عبر حصص الدعم الرسمية. فيما صيرها آخرون نقمة على المتعلم والأسرة معا، عندما يعمدون إلى إثقال كاهله بالتمارين المنزلية، في غياب الشروط التربوية وارتفاع عدد الحصص الدراسية اليومية، وما يترتب عن ذلك في آخر النهار من إرهاق نفسي وجسدي، وحرمانه من ممارسة أنشطة ترفيهية، تنعش قدراته الإبداعية وتقوي دافعية التعلم لديه، علما أن رجال التعليم ونساءه هم الأكثر معرفة بسيكولوجية المتعلم، ومدى حاجته إلى جرعات خالصة من الترويح عن النفس، بعد عناء يوم مليء بأشغال شاقة تستنزف ما تبقى من طاقاته، وتشعره إلى جانب أسرته بالتذمر والاستياء.

وإذا ما سئل هؤلاء المدرسون عن سر هذا "الشلال" المتدفق من الفروض، يعزون الأمر إلى كثافة المقررات واستحالة إبراز الفروق الفردية في قاعات مكتظة، ناسين أن الإكثار منها إلى جانب إغفال عملية التنسيق مع زملائهم بالأقسام المشتركة، وفي غياب تام للمراقبة التربوية والإدارية، غالبا ما يجر فئة من الآباء والأمهات إلى التدخل المباشر، ليس بقصد توجيه أبنائهم وبناتهم نحو صياغة أجوبة سليمة وواضحة، وإنما لمعالجتها بأنفسهم بدلا عنهم، مما يشجع على التواكل ويفقد الرغبة في الاعتماد على النفس، ينمي الكسل ويطفئ جذوة الطموح والأمل. أما في حالة تعذر إيجاد المعين لتجاوز هذه العقوبات، وفي ظل ضغط الأبوين والخوف من العقاب، فإن المتعلم يلجأ مضطرا إلى عادات سيئة قد تعصف بمستقبله.

  وتأسيسا على ما تم رصده من اختلالات متباينة، يضيق المجال لعرضها، يتضح أن الفروض المنزلية في أشكالها الحالية، لم تعد كفيلة بتحقيق المقاصد التربوية، وأن ما يمكن استخلاصه مما بات يترتب عن سوء التعامل معها وتجاهل أبعادها التكوينية من: ضغوط نفسية، قلق مستمر، غش في الإنجاز وهدر مدرسي. هو أن أي عمل يتم بعيدا عن عيون المدرس، يظل في عموميته ناقصا وغير ذي جدوى، أو يأتي بعكس المتوخى منه، لذلك تقتضي الضرورة إعادة النظر في طرق اعتمادها كدعامة أساسية، إن على مستوى طبيعتها الفردية أو الجماعية، أو فيما يتعلق بتوافقها مع إمكانات المتعلمين العمرية والذهنية، أو في تحديد أعدادها واختيار فترات إنجازها وتصحيحها.


   صحيح أن ملف الفروض المنزلية، ليس بالقوة التي تستأثر باهتمام كافة المواطنين، لكن هذا لا يمنع من نفض الغبار عنه، وتمكين أبنائنا من مواصلة دراستهم وفق شروط تعليمية أفضل، وتنظيم أحسن مما هو عليه الحال من تدبير سيء، ليصبحوا قادرين على توظيف ما استضمروه من موارد ومعارف ومهارات، في مواجهة الإشكاليات المطروحة . فلنحسن انتقاء مواضيع الفروض بما يتوافق وقدراتهم ويشبع فضولهم، ويجعل منها نقطة جذب للانطلاق نحو تعلم جيد، يفتح الآفاق شاسعة للتطور والابتكار، وعلى الجميع الوعي بأن المدرس ليس دائما المصدر الرئيسي للمعرفة، وما عاد المتمدرس متلقيا سلبيا، وخاضعا لحشو دماغه بالمعلومات دون إدراك معانيها ومغازيها، فالتعلم في عصر السماوات المفتوحة، تجاوز مضامين البرامج والمقررات، الرائجة بين جدران حجرات إسمنتية باردة.

  بقلم : إسماعـيل الحلوتــي 

أضف تعليق


كود امني
تحديث