دراسة موجزة حول رسالة (أيها الولد):
* العلم بلا عمل جنون، والعمل بغير علم لا يكون. (الإمام الغزالي)
* التربية يشبه فعل الفلاح الذى يقلع الشوك ويخرج النباتات الاجنبية من بين الزرع، ليحسن نباته ويكمل ريعه. (الإمام الغزالي)
قبل كل شيئ...
لا شك ان الاسلام منهج متكامل شمولى، له نظرة ثاقبة فى كل الامور، فمن حيث انه امتداد للتعليمات الالهية التى زود البشر بها، لكى انار له الطريق، واضاء له السبل، لذلك شملت الجوانب الانسانية كلها، سواء من النواحى الجسمانية والفيزيقية، او النواحى الوجدانية والنفسية والروحية.
فمادام مصدرها الهى بحت، وجب انعدام اى خلل فيها، لأن الذى وضعها للبشر، هو الذى اعطى الانسانية كلها، خلْقها وحياتها وهُداها، فخالق الشيئ اعرف بما خلق، والصانع كذلك.
من اجل هذا كلها، اهتم علماء الاسلام باستخراج ما فيها من الكنوزالتربوية و القواعد التعليمية، مثلا فى تفسير سورة الكهف، وفى قصة الخضر مع موسى –عليه السلام- تحدث المفسرون حول ما فيها من الاداب والتعاليم، للذين يريدون ان يسلكوا سبيل الطالبين للحق، وطريق الطالعين للتعلم المزيد، انظر ماذا يقول الله سبحانه، حكاية على لسان موسى و قوله للخضر: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) (الكهف: 16).
ومن بين هؤلاء الجهابذة من العلماء، الامام الغزالي، الرجل الذى له باع طويل فى ميدانى التعليم والتربية الاسلامية، وميدان علم النفس الاسلامى. للغزالى اسهامات كثيرة وخدمات جليلة فى المجال التربوى والتعليمى، بشكل نستطيع ان نقول: غالب كتبه فى هذا المجال الحساس، ومن بين كتبه، اخترنا كتاب (أيّها الولد) لندرس دراسة موجزة حوله، لكى نبين ما فيها من المعالم، وما فيها من النصائح والارشادات لكل من المعلم والمتعلم.
على الرغم من الاعتماد على بعض المصادر المعنية، لكن جُل ما فى هذا الجهد المتواضع، من استقرائات واستنباطات نفسى، هذا والله اسأل أن يوضعها فى ميزان حسناتى، كما اسأله سبحانه، أن يوفق أساتذتى الكرام، الذين رووا ظمئى العلمى، مذ اذ كنت صغيرا، بينابيع الاسلام العذبة.
♦ حياة الامام الغزالي:
ولادته: ولد أبو حامد الغزالي في قرية "غزالة" القريبة من طوس، من إقليم خراسان عام 450 هـ الموافق 1058م، وإليها ينسب. ونشأ في بيت فقير من عائلة خراسانية، فقد كان والده رجلاً زاهداً ومتصوفاً، لا يملك غير حرفته، ولكن كانت لديه رغبة شديدة في تعليم ولديه محمد وأحمد، وحينما حضرته الوفاة، عهد إلى صديق له متصوف برعاية ولديه، وأعطاه ما لديه من مال يسير، وأوصاه بتعليمهما وتأديبهما. فاجتهد الرجل في تنفيذ وصية الأب على خير وجه، حتى نفد ما تركه لهما أبوهما من المال، وتعذر عليه القيام برعايتهما والإنفاق عليهما، فألحقهما بإحدى المدارس التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، والتي كانت تكفل طلاب العلم فيها.
تعليمه: ابتدأ طلبه للعلم في صباه، فأخذ الفقه في طوس، ثم قدم نيسابور، ولازم إمام الحرمين الجويني في نيسابور، فأخذ عنه جملة من العلوم في الفقه وأصوله وعلم الكلام والمنطق، وفي هذه الفترة، ألف الغزالي كتابه "المنخول" وعرضه على شيخه الجويني، فأعجب به قائلاً: «دفنتني وأنا حي! هلا صبرت حتى أموت؟!». واجتهد الغزالي في طلب العلم، حتى تخرج في مدة قريبة، وصار أفضل أهل زمانه وأوحد أقرانه.[1]
شيوخه: درس الغزالي على عدد من العلماء والأعلام، منهم: أحمد الرازكاني، أخذ عنه الفقه في طوس، أبو نصر الإسماعيلي، أبو المعالي الجويني، أخذ عنه الفقه وأصوله وعلم الكلام والمنطق والفلسفة، الفضل بن محمد الفارمذي، تلميذ أبو القاسم القشيري، والذي اشتهر في زمانه حتى صار مقصد طالبي التصوف، وقد أخذ عنه الغزالي التصوف، الشيخ يوسف النساج، وقد أخذ عنه التصوف.
تلاميذه: أبو منصور ابن الرزاز، أبو عبد الله الجيلي، البارباباذي، أبو الفتح الباقرجي، أبو العباس الأقليشي، أبو بكر بن العربي، عبد القادر الجيلاني.
بداية تدريسه: جلس الغزالي للإقراء وإرشاد الطلبة وتأليف الكتب في أيام إمامه الجويني، وكان الإمام يتبجح به ويعتد بمكانه منه. ثم خرج من نيسابور وحضر مجلس الوزير نظام الملك، فأقبل عليه وحل منه محلاً عظيماً لعلو درجته وحسن مناظرته، وكان مجلس نظام الملك مَحطاً لرحال العلماء، ومقصد الأئمة والفضلاء، ووقع للإمام الغزالي فيها اتفاقات حسنة من مناظرة الفحول، فظهر اسمه وطار صيته، فأشار عليه نظام الملك بالمسير إلى بغداد، للقيام بالتدريس في المدرسة النظامية، فسار إليها سنة 484 هـ، وأعجب الكل بتدريسه ومناظرته وحضره الأئمة الكبار، كابن عقيل وابي الخطاب وتعجبوا من كلامه ونقلوه في مصنفاتهم، فصار إمام العراق، بعد أن حاز إمامة خراسان، وارتفعت درجته في بغداد على الأمراء والوزراء والأكابر وأهل دار الخلافة.
من أشهر كتب الغزالي: ألّف الإمام الغزالي خلال مدة حياته (55 سنة) الكثير من الكتب في مختلف صنوف العلم، حتى أنه قيل: إن تصانيفه لو وزعت على أيام عمره أصاب كل يوم كتاب. حيث بلغت 457 مصنفا ما بين كتاب ورسالة، كثير منها لا يزال مخطوطا، ومعظمها مفقود، ومن هذه الكتب:
في العقيدة وعلم الكلام والفلسفة: مقاصد الفلاسفة، تهافت الفلاسفة، الاقتصاد في الأعتقاد، بغية المريد في مسائل التوحيد، إلجام العوام عن علم الكلام، المقصد الأسنى شرح أسماء الله الحسنى، فضائح الباطنية، القسطاس المستقيم (الرد على الاسماعلية). فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة.
في الفقه وأصوله والمنطق: المستصفى في علم أصول الفقه، المنخول في تعليقات الأصول، الوسيط في فقه الإمام الشافعي، الوجيز في فقه الإمام الشافعي، معيار العلم في المنطق، محك النظر (منطق).
في التصوف والتربية: إحياء علوم الدين، بداية الهداية، المنقذ من الضلال، روضة الطالبين وعمدة السالكين، الأربعين في أصول الدين، منهاج العابدين إلى جنة رب العالمين، معارج القدس في مدارج معرفة النفس، الدعوات المستجابه ومفاتيح الفرج، مدخل السلوك الي منازل الملوك، أصناف المغرورين، مشكاة الأنوار، ميزان العمل، أيها الولد المحب، كيمياء السعادة، سر العالمين وكشف ما في الدارين، مكاشفه القلوب المقرب الي حضره علام الغيوب.
كتب أخرى: جواهر القرآن ودرره، الحكمة في مخلوقات الله، التبر المسبوك في نصيحة الملوك، آداب النكاح وكسر الشهوتين، القصيدة المنفرجة، شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل.
ثناء العلماء عليه:
1- شيخه أبو المعالي الجويني: الغزالي بحر مغدق.وعندما ألف الغزالي (المنخول في أصول الفقه) في مطلع شبابه، قال له الجويني: دفنتني وأنا حي، هلا صبرت حتى أموت، كتابك غطى على كتابي!
2- الذهبي: الشيخ الإمام البحر، حجة الإسلام، أعجوبة الزمان، زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي، الغزالي، صاحب التصانيف والذكاء المفرط.
3- ابن الجوزي: صنف الكتب الحسان في الأصول والفروع، التي انفرد بحسن وضعها وترتيبها، وتحقيق الكلام فيها.
4- تاج الدين السبكي: حجة الإسلام ومحجة الدين، التي يتوصل بها إلى دار السلام، جامع أشتات العلوم، والمبرز في المنقول منها والمفهوم، جرت الأئمة قبله بشأو ولم تقع منه بالغاية، ولا وقف عند مطلب وراء مطلب لأصحاب النهاية والبداية.
5- ابن العماد الحنبلي: الإمام زين الدين حجة الإسلام، أبو حامد أحد الأعلام، صنف التصانيف، مع التصون والذكاء المفرط والاستبحار في العلم، وبالجملة؛ ما رأى الرجل مثل نفسه.
6- ابن كثير: كان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه.
7- أبو بكر ابن العربي: رأيت الغزالي ببغداد يحضر درسه أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم يأخذون عنه العلم.
8- الأسنوي: الغزالي إمام باسمه تنشرح الصدور وتحيا النفوس، وبرسمه تفتخر المحابر وتهتز الطروس، وبسماعه تخشع الأصوات وتخضع الرؤوس.
ما انتقد عليه: الاستناد الى الاحاديث الضعيفة والواهية، وقد اعترف هو بذلك فى قوله: (إن بضاعتى فى الحديث مزجاة) وقال احد منتقديه: (واخر ما اشتغل به النظر فى صحيحى البخارى ومسلم، ومات وهو مشتغل بذلك).[2]
وفاته: توفي أبو حامد الغزالي يوم الاثنين 14 جمادى الآخرة 505 هـ، 19 ديسمبر 1111م، في مدينة طوس، وسأله قبيل الموت بعض أصحابه: أوص،فقال: عليك بالاخلاص فلم يزل يكررها حتى مات.[3]
توطئة:
يعد أبو حامد الغزالي من كبار المفكرين المسلمين بعامة، ومن كبار المفكرين بمجال علم الأخلاق والتربية بخاصة، وقد استفاد الغزالي من تجربته العميقة معتمدا على الشريعة الإسلامية في بناء منهجية متكاملة في تربية النفس الإنسانية. كما بين الطرق العملية لتربية الأبناء وإصلاح الاخلاق الذميمة وتخليص الإنسان منها، فكان بذلك مفكراً ومربياً ومصلحاً اجتماعياً في أن معاً. يرى الغزالي ان الاخلاق ترجع إلى النفس لا إلى الجسد، فالخلق عنده هيئة ثابتة في النفس، تدفع الإنسان للقيام بالافعال الاخلاقية بسهولة ويسر، دون الحاجة إلى التفكير الطويل.
ويرى الغزالي ان الاخلاق الفاضلة لا تولد مع الإنسان، وإنما يكتسبها عن طريق التربية والتعليم من البيئة التي يعيش فيها. والتربية الأخلاقية السليمة في نظر الغزالي، تبدأ بتعويد الطفل على فضائل الاخلاق وممارستها مع الحرص على تجنيبه مخالطة قرناء السوء، حتى لا يكتسب منهم الرذائل، وفي سن النضج العقلي، تشرح له الفضائل شرحاً علمياً، يبين سبب عدها فضائل، وكذلك الرذائل وسبب عدها رذائل، حتى يصبح سلوكه مبنياً على علم ومعرفة واعية.[4]
مفهوم التربية وتعريفها:
التربية لغة: من ربّى يُربّى تربية، يقال: رَبَّ ولَدَه، والصَّبِيَّ يَرُبُّهُ رَبّاً، ورَبَّبَه تَرْبِيباً وتَرِبَّةً، ورَبَّاه تَرْبِيَةً، وتَرَبَّاه، وأَنشد اللحياني: تُرَبِّبُهُ من آلِ دُودانَ شَلّةٌ ... تَرِبَّةَ أُمٍّ لا تُضيعُ سِخَالَها.[5]
والتربية اصطلاحا: يقول (سويفتSwift): (ان التربية هى الطريقة التى يتمكن الفرد بواسطتها من ان يكتسب الكثير من القدرات البدنية والاخلاقية والاجتماعية، التى تتطلبها الجماعة التى ولد بها، والتى يجب ان يعمل فيها).[6]
أوالتربية: عبارة عن عملية تشكيل لشخصية الفرد، ولبناء حياته داخل الاطار الذى ارتضته الجماعة لنفسها، والذى وضعت معاييره وحددت ضوابطه، وهذه العملية تبدأ مع الانسان طفلا يتشرب القيم، والاتجاهات والتصورات من والديه، ثم ينمو الطفل، ويحتك بالاقارب والجيران، فتزيد دائرة احتكاكه، ثم يذهب الى المدرسة).[7]
ونحن إذ ندرس التربية عند الغزالي، وهو بصفته مسلما، اذن المقصود بالتربية عنده، هى التربية الاسلامية، ولابد ان نأتى بتعريفات خاصة لهذا المفهوم.
فالتربية الاسلامية: عملية مقصودة تستضيئ بنور الشريعة، تهدف الى تنشئة جوانب الشخصية الانسانية جميعها، لتحقق العبودية لله سبحانه وتعالى، ويقوم فيها افراد ذوو كفاءة عالية، بتوجيه تعلم افراد آخرين، وفق طرق ملائمة، مستخدمين محتوى تعليمى محدد، وطرق تقويم ملائمة.[8]
والموسوعة العربية العالمية، عرف التربية الإسلامية بانها: تعبير يقصد به تنشئة الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي، تنشئة متكاملة يُراعى فيها الجانب الروحي والمادي، في ضوء النظرة الإسلامية الشاملة، وهي تُعنى بالفرد وإعداده لحل مشاكله، ومدى نجاحه في تحقيق رغباته المشروعة والممكنة التي تضمن له حياة هانئة في الدنيا والآخرة.[9]
أيُها الولد:
أصل هذة الرسالة، نصيحة كتبها الامام لشيخ عالِم، قضى حياته فى درس فروع المعرفة، ولكنه لما اوشك عمره على النفاذ، تحقق انه لم يعرف بعدُ ماذا يخص هذا العالم من الاعمال، وماذا ينفع الانسان فى حياته الأخروية، اقرأ ماذا تقول جامع وحافظ هذه الرسالة من الضياع: (اعلم أنّ واحدا من الطلبة المتقدمين، لازم خدمة الامام، واشتغل بالتحصيل وقراءة العلم عليه، حتى جمع دقائق العلوم، واستكمل فضائل النفس، ثم انه تفكر يوما فى حال نفسه، وخطر على باله، وقال:انى قرأت انواعا من العلوم، وصرفت ريعان عمرى على تعلمها وجمعها، والان ينبغى لى ان اعلم اى نوعها ينفعنى غدا ويؤنسنى فى قبرى؟وايها لا ينفعنى حتى اتركه... ثم يقول: فاستمرت هذه الفكرة، حتى كتب الى حظرة الشيخ استفتاءا، وسأله مسائل، والتمس نصيحة ودعاءا). [10]
لقد كان الغزالي يخاطب فى هذه الرسالة، رجلا متعلما ذا معرفة فنية عظيمة، فكان من أجل ذلك، يؤكد جانب العمل الذى يتفق مع علم ذلك الرجل، لأن ثمر المعرفة تظهر فى سلوك الانسان فى حياته.[11]
إطلالة الرسالة: مما يلاحظ ان كثيرا من العلماء المسلمين التربويين، عندما يبدأون رسائلهم ونصائحهم، يستهلون بهذه العبارات الشيقة والمأنوسة، مثل:ايها الولد، يابنى، اعلم رحمك الله، انتبه اطال الله بقاءك، وهذا المسلك، مسلك قرآنى مميز، فنحن نرى فى اماكن من القرآن، بدأ الله سبحانه وتعالى خطابه للمسلمين بهذه العبارات، مثل قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)(محمد: 19) وقوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)(الحديد: 20)وقوله تعالى على لسان لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(لقمان: 17). وصاحب الرسالة التى نحن بصدد البحث عنها، بدأ رسالته بهذا الشكل: (اعلم ايها الولد والمحب العزيز- اطال الله بقاءك بطاعته، وسلك بك سبيل أحبابه ).[12]
الآثار العملية للتربية والتعليم:
أشار الغزالي فى هذا المضمار الى حقيقة علمية ومنهجية، وهو الجانب العملى والتطبيقى فى العملية التربوية، وهذا المستوى يحتاج الى التعمق والتدبر من قبل المتعلم، ويحتاج ايضا الى انبثاق المعلومات فى أعماق القلب والايمان الكامل به، لكى تبدو بذورها وتتسع باسقاتها، وهذا لا يتاتى الا اذا تحولت المعلومات الى حيز التطبيق، فبدون التطبيق، تبقى المعلومات والمهارات، كالكائن الميت، الذى لايسمن ولا يغنى من جوع. وهنا تجدر الاشارة الى الاهداف المرجوة من التربية والتعليم، فقد حددها (بلوم) بست مراحل، منها التذكر والاستيعاب، وتأتى التطبيق ثالثا فى تصنيفه، وهى القدرة على استعمال المادة المتعَلَّمة فى حالات جديدة محددة.[13]
وفى التربية الاسلامية، تجد اهتماما كبيرا بالجانب التطبيقى والعملى، ولهذا الَّف الخطيب البغدادى كتابا بعنوان(اقتضاء العلم العمل)، مُنوهاً باتصال وثيق بين هذين الامْرين فى العقيدة الاسلامية، وههنا يشير صاحبنا الى هذا الجانب المهم، وينعت الذين خدعتهم افكارهم غير السوية واشتغلوا بتحصيل العلم فقط، واهملوا الجانب التطبيقى، بقوله:(فانه يحسب ان العلم المجرد له، سيكون نجاته وخلاصه فيه، وانه مستغن عن العمل، وهذا اعتقاد الفلاسفة، سبحان الله العظيم! لا يعلم هذا المغرور انه حين حصّل العلم، اذا لم يعمل به، تكون الحجة عليه آكد). [14]
ويقول ايضا: (فلو قرأ رجل مائة الف مسألة علمية وتعلّمها، ولم يعمل بها، لا تفيده الا بالعمل). [15]
كذلك يقول: (ولو قرأت العلم مائة سنة، وجمعت الف كتاب، لا تكون مستعدا لرحمة الله تعالى الا بالعمل). [16]
وفى مكان اخر يؤكد على هذا، بقوله: (أيها الولد ما لم تعمل، لم تجد الاجر).[17]
والله سبحانه وتعالى يقول: ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) (النجم: 39، 40).
القصد من التربية والتعليم:
إن نظرة الاسلام الى الانسان، نظرة غير احادية، فهى لا تهتم بجانب دون جانب، ولا تؤكد على جانب على حساب الجوانب الاخرى، بل الشمولية هى الصفة البارزة التى تتميز بها نظرته، فهو يهتم بالجانب البدنى او الجسمانى، ووضع قواعد ونواميس لحمايتها وللحفاظ عليها من أى خطر تحدق به، وجعل الحفاظ على النفس واستمرارية الحياة، احدا من الضروريات الخمس، والله سبحانه وتعالى يقول: (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة: 32).
وفى نفس الوقت، اهتم بالجانب الوجدانى او الروحى، واكد على ان لها دورا كبيرا فى استقامة توجهاته و وسلوكياته، يقول سبحانه وتعالى:(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس: 7-10).
هذه الحقيقة، نجدها فى كتابات الغزالي بشكل عام، وفى الكتاب الذى نحن مشغولون بالتأمل من جوانبه التربوية والتعليمية، واضحة مثل وضوح الشمس للعيان، فهو يؤكد على القصد او النية من التربية والتعليم، و تطهيرها من اى شوائب تشوبها، وتنقيتها من عوارض امراض النفس، مثل الرياء وكسب المدح والمباهاة بها بين الخلان والاقران، وفى الاصول التربوية الحديثة، نجد ما يعاضد هذا، من التركيز على تحديد الاهداف التربوية وصياغتها صياغة محكمة ومنطقية، بحيث يتفق وقدرات المتعلم ، لكى تقوم باعدادها اعدادا جيدا، بشكل يؤدى بالمتعلم ان تخطو نحو آماله على بصيرة ودراية، وتبعدها من التخبط والعشوائية. لقد قسم الغزالي الاهداف، حسب نظرته الاسلامية، الى قسمين، محمود ومذموم، ويقول عن الاول: (إن كان قصدك فيه احياء شريعة النبى، وتهذيب اخلاقك، وكسر النفس الامارة بالسوء، فطوبى لك ثم طوبى لك).[18] وقال عن الثانى: (إن كان الباعث فيه نَيل عرض الدنيا وجذب حطامها وتحصيل مناصبها والمباهاة على الأقران والامثال، فويل لك ثم ويل لك). [19] وبهذأ يتبينمدى اهتمام الغزالي بالنية الحسنة، كدافع انفعالى وجدانى نحو تحقيق الاهداف من التربية والتعليم.
قطبى عملية التربية والتعليم:
مما لا شك فيه، إن المعلم والمتعلم هما جناحا عملية التعليم-التعلم، فبدون اى واحد منهما، يتوقف العملية التربوية من التحليق فى الاجواء الصافية التى لابد ان تكون مهيأة للطيران نحو عالم الابداع والتكوين والفكرى. لذلك نرى الغزالي مثل الكثيرين من نظرائه المهتمين بارشاد المعلن والمتعلم، وضع المعالم الضرورية لكل منهما. فبالنسبة للمعلم الذى يسميها الغزالي بعباراته اللطيفة (شيخاً مرشداً مربياً)، حدد شروطا لابد من توافرها فيه، وهى:
1- إن يكون عالما يعرض عن حب الدنيا وحب الجاه.
2- محسنا رياضة نفسه بقلة الأكل والقول والنوم، وكثرة الصلوات والصدقة.
3- جاعلا محاسن الاخلاق له سيرة، كالصبر والقناعة والحلم والتواضع والصدق والوفاء والوقار وطمأنينة النفس والسكون والتأنى.[20]
أما بالنسبة للمتعلم، فقد حدد له ايضا شروطا، منها:
1- أن يحترم معلمه ظاهرا وباطنا.
2- ألا يجادله ولا يشتغل بالاحتجاج معه فى كل مسألة، واِنْ علم خطأه.
3- أن يعمل بما يأمره الشيخ من العمل بقدر وسعه وطاقته.
4- إنّ كل ما يسمع ويقبل منه فى الظاهر، لا ينكره فى الباطن، لا فعلا ولا قولا، لئلا يتسم بالنفاق.
5- أن يحترز عن مجالسة صاحب السوء.[21]
المصادر:
- التربية الاسلامية، منهاجها والتخطيط لدروسها واساليب التدريس والتقويم فيها: د.محمد هاشم خليل ريان، دار الرازى، عمان-الاردن، الطبعة الاولى ، 1423هـ، 2002م.
- التربية الاسلامية، منهاجها والتخطيط لدروسها واساليب التدريس والتقويم فيها: د.محمد هاشم خليل ريان، دار الرازى، عمان-الاردن، الطبعة الاولى ، 1423هـ، 2002م.
- الموسوعة العربية العالمية، ج1، ص23. نقلا من المكتبة الشاملة.
- أيها الولد: للامام ابى حامد الغزالي، ترجمه الى الفرنسية: توفيق الصباغ، تقديم:جورج شيرر، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت، الطبعة الثالثة ، 1969م.
- بداية الهداية: للامام الغزالي، تهذيب وتقريب:مبروك ابراهيم الهانى، مراجعة وتقديم:احمد فائز، دارالبشائر، دمشق- سورية، الطبعة الاولى، 1422هـ ، 2001 م.
- فى الاصول الاسلامية للتربية: د.محمد عبد العليم مرسى، المكتبة الجامعية ، الازاريطة، الاسكندرية، 1421 هـ، 2000م.
- لسان العرب: ابن منظور، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 2001.
- مدخل الى التربية الاسلامية وطرق تدريسها: د.عبدالرحمن صالح عبدالله وآخرون، دار الفرقان، عمان- الاردن، الطبعة الاولى، 1411 هـ- 1991م.
...................................................................................................
[1] : ويكيبيديا،الموسوعة الحرة، على الشبكة العنكبوتية.
:[2] بداية الهداية: للامام الغزالى،تهذيب وتقريب: مبروك ابراهيم الهانى،مراجعة وتقديم:احمد فائز،دار البشائر،دمشق سورية،الطبعة الأولى، 1442هـ،2001 م،ص25.
[3] : ويكيبيديا،الموسوعة الحرة، على الشبكة العنكبوتية.
[4] : ويكيبيديا،الموسوعة الحرة،على الشبكة العنكبوتية.
[5]: لسان العرب: ابن منظور،محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، دار صادر – بيروت،الطبعة الأولى،ج1،ص: 399.
[6] : فى الاصول الاسلامية للتربية:د.محمد عبد العليم مرسى،المكتبة الجامعية، الازاريطة،الاسكندرية،1421هـ،2000م،ص71 ،وهو نقله من،د.ف.سويفت: اجتماعيات التربية، دراسة تمهيدية تحليلية، ترجمة محمد سمير حسانين، مؤسسة سعد للطباعة،طنطا،الطبعة الثانية،1977،ص16.
[7]: نفس المصدر والصفحة،وهو نقله من عبد الغنى عبود: الايديولوجيا والتربية،مدخل لدراسة التربية المقارنة،دار الفكر العربى، القاهرة،الطبعة الثانية،1978،ص26،27.
[8] : مدخل الى التربية الاسلامية وطرق تدريسها:د.عبدالرحمن صالح عبدالله وآخرون،دار الفرقان،عمان-الاردن،الطبعة الاولى،1411 هـ-1991م،ص19.
[9]: الموسوعة العربية العالمية،ج1، ص23.نقلا من المكتبة الشاملة.
[10]: أيها الولد: للامام ابى حامد الغزالى،ترجمه إلى الفرنسية: توفيق الصباغ،تقديم:جورج شيرر،اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع،بيروت،الطبعة الثالثة،1969م،ص: 3.
[11] : نفس المصدر،المقدمة العربية لجورج شيرر،والتى ترجمها:عمر فروخ،ص11.
[12] : نفس المصدر،ص:7.
[13]:التربية الاسلامية،منهاجها والتخطيط لدروسها واساليب التدريس والتقويم فيها: د.محمد هاشم خليل ريان،دار الرازى،عمان-الاردن،الطبعة الاولى،1423هـ،2002م،ص94.
[14] : أيها الولد،ص:7.
[15] : نفس المصدر،ص:9.
[16] : نفس المصدر،ص:11.
[17] : نفس المصدر،ص:13.
[18] : ايها الولد،ص:15.
[19] : المصدر نفسه،ص:15.
[20] : أيها الولد،ص:33.
[21] :المصدر نفسه،ص:35.
إعداد: سامان مامليسى