في اعتقادي أن نهج المؤسسة التربوية الجديد، لتطوير التعليم والنهوض بمستوياته، وفق مستحدثاته التكنولوجية وروح العصر، بعيداً عن البيروقراطية والمركزية، من شأنه تصويب مسارات العملية التعليمية في الاتجاهات كافة، فالمؤسسة تعمل جاهدة وتسابق الزمن، لتحقيق الإتساق بين العملية التربوية، ومستقبل الأجيال من أبنائنا، وبالتالي مستقبل النهضة التعليمية نحو الأفضل.
أما في الجوانب النفسية للطلبة فإن نهج المؤسسة التربوية لا يسير بهذا الإتجاه، حيث الآلية النفسية العملية، غير متوفرة لديها، وأعني فهم سلوك الطالب بمظاهره المختلفة، وهذا الفهم الحقيقي للنفس البشرية وتصرفاتها، لا يتم إلا بدراسة الحياة النفسية للطلبة، مما يتطلب وجود العيادات النفسية التربوية.التي تعتبر من الوسائل المساعدة للعملية التعليمية، بقصد تحسين الصحة النفسية للطلبة. ودراسة المشكلات التي أدت إلى الإضطرابات النفسية لديهم، والتي يمكن أن يؤدي تجاهلها إلى المرض النفسي أو العقلي أو العصبي.
عادة ما تنشأ الاضطرابات النفسية التي يعاني منها الطلبة، نتيجة وجود تناقض أو تعارض بين الدوافع والرغبات لديهم، التي تتكون غالباً أثناء الطفولة، وفي وقت لم تكن به شخصية الطفل، قد تطورت ونضجت، إلى درجة تسمح له، بحل ما ينتابه من أعراض نفسية، حلاً مرضياً.
في مرحلة المراهقة والبلوغ، قلما ينجو - طالب أو طالبة - من الابتلاء بمشكلات نفسية، إزاء ارهاصات حياته التعليمية والاجتماعية والعاطفية والمزاجية، تتجاذبه خلالها دوافع ورغبات متعارضة، فيلجأ إلى ترجيح دافعاً على سواه من الدوافع، ليتخلص مما يعانيه، وإذا تعذر ذلك، فقد يلجأ إلى كبتها.غير أن كبت الدوافع والرغبات، لا يؤدي إلى التخلص من المشكلة، بل أنها تظل دفينة في اللاشعور، تترقب الفرص للظهور مرة أخرى في دائرة شعوره. ولما كانت هذه الدوافع والرغبات، مؤلمة للنفس، أو مشينة أو مخيفة، فكثيراً ما تسبب لصاحبها التوتر والاكتئاب والانطواء، فيلجأ الطالب إلى مقاومتها بمختلف الوسائل أو الحيل العقلية الدفاعية، كالنسيان أو التعويض، أو التبرير أو الاسقاط، أو التقمص أو الانسحاب من الحياة، أو النكوص وصولاً إلى أحلام اليقظة.
إن الإسراف في الحيل العقلية، يدل بوضوح على وجود حالة مستمرة من عدم التوافق والتكيف في حياة الطالب، ويدل على حالة من الإضطرابات النفسية، التي تضر به وبعلاقاته الاجتماعية. هذه الإضطرابات التي يعانيها الطالب، ليس من الضروري أن تكون أمراضاً عقلية أو عصبية، بل هي إضطرابات من البيئة التي يعيش بها والتي من الصعب عليه أن يكيف نفسه فيها.
اليوم. طلاب مدارسنا الحكومية والخاصة، يفتقدون في نظامهم التعليمي، لوجود العيادات النفسية التربوية، التي هي أداة فاعلة في التشخيص والعلاج، فالعيادة موجودة في كل مدارس العالم المتقدمة تعليمياً وتربوياً. والتي تهتم عادة بسير الطالب التحصيلي ومستوى إنتاجيته وسلوكه العام، ومعرفة ميوله الدراسية وقدراته العقلية، الذكائية، وتشخيص حالاتها، لعلاجها وتوجيهها لحياة متوازنة أفضل تعليمياً وتربوياً ونفسياً. فالعيادة النفسية التربوية، لا يعني أن عملها يقتصر على الشواذ أو ضعاف العقول أو المجانين- كما يظن البعض - إنما تتناول سلوك الطلبة العاديين والأذكياء والمتفوقين، الذين يعانون من إضطرابات نفسية، أمر مركب نقص بدني أو إختلال في الشخصية.
في رياض الأطفال ومدارس المرحلة الأساسية يمكن للعيادة النفسية التربوية، أن تكون محطة أولية ناجحة في حياة الطالب، لأنها تتناول بحث مشكلاتهم اليومية وحالاتهم التي تتفاوت في البساطة والتعقيد، فالطالب منهم، كثيراً ما يلجأ إلى العناد وعدم الطاعة، وفي مقاومته وصلابته لرأيه، أو كونه خجولاً، أو ميالاً للعزلة والانطواء، أو كونه نشطاً أكثر من المعتاد، بحيث يمتد نشاطه إلى التخريب، داخل المنزل وخارجه، أو كونه قلقاً، أو حاد الطبع، أو عصبياً، أو أنه يخاف من الظلام والمناطق المرتفعة.
قد تتناول العيادة النفسية التربوية أيضاً، مشكلة الطفل في التبول اللاإرادي، رغم وصوله للسن المعتاد في التعود على التحكم في ذلك، أو ما يصاحبه من عيوب في النطق أو تلعثمة اللسان في الكلام، أو كثرة ما يلجأ إليه من الكذب والغش أوالإكثار من أحلام اليقظة.. فأهالي الطلبة في رياض الأطفال والمدارس الأساسية، كثيراً ما يشكون من تأخر أبنائهم في تحصيلهم الدراسي، أو في بعض نواحي انحرافاتهم السلوكية، كالمشكلات الجنسية، أو السرقة أو إيذاء الآخرين.
أما في المرحلة الثانوية فتتناول العيادة النفسية التربوية، الحالات التي تتفاوت من حيث شدتها ودرجتها، من حيث السلوك، الرفض، التحدي، التمرد أو العنف. مثلما تبحث شعور الطبة بالتعب البدني والنفسي، نتيجة المتغيرات الفسيولوجية والبيولوجية، التي تصاحبهم في فترات المراهقة والبلوغ. أما أبرز ما يعانيه طلبة المدارس الثانوية من مشكلات نفسية في حياتهم الدراسية هي:
التأخر الدراسي، عدم المواظفة على الدوام، الغياب عن المدرسة لفترات طويلة أو مستديمة، سوء أساليب التدريس من بعض المعلمين، أو لسوء التنظيم في الإدارة المدرسية، مما يدفع بعض الطلبة، إلى كره المدرسة والهروب منها، أو اللجوء إلى الغش في الامتحانات، لعدم قدرتهم العقلية على مسايرة غيرهم من الطلبة، أضف إلى ذلك، ما يلجأ إليه بعض المعلمين من أساليب التعنيف اللفظي أو العقاب البدني.
أحياناً قد يثِّور الغضب لدى أحد الطلاب ويثور معه الآخرون، فيلجأون للانتقام من المعلمين أو الاعتداء على مدير المدرسة، وقد تتسع دائرة العنف الإتلافي لديهم. لتطال أعمال التخريب والحرق لمخازن المدارس ومستودعاتها ومختبراتها وتلويث مياه الشرب فيها..وقد يتطاولون على رموز القيادات التربوية!؟ أما أكثر أعمال العنف رواجاً لدى طالب اليوم هو في استعراض قوة عضلاته في ساحة المدرسة أو خارج أسوارها، أوأمام مدارس البنات لإثبات الوجود، وللفت الأنظار إليه وتأكيد زعامته، خاصة أمام الجنس الآخر.
إن المؤسسة التربوية تدرك وتعي أن أخلاق وسلوك طالب اليوم، ليس هو الذي كان بالأمس، ولن يكون هو في المستقبل، فالحياة التي يعيشها، متغيرة وأحداثها متشابكة ومتلاحقة ومتداخلة باستمرار، وإن إضطراباته ومشكلاته النفسية الآنفة الذكر وغيرها، إنما هي من صميم عمل العيادة النفسية التربوية، التي يتكون كادرها من الطبيب النفسي المتمرس والمقيم، ويعاونه فيها أكثر من مختص نفسي، في سيكولوجية توجيه الأطفال Child Guidance، أو المختص في التحليل النفسي Psychoanalysis، أو المختص في علم النفس الاكلينيكي Clinical Psychology أو المختص في التوجيه المهني Vocational Guidance أو المختص في التوجيه التعليمي Educational Guidance. ويشترط في هؤلاء الاختصاصيين حصولهم على الدبلوم العالي أو الماجستير مع خبرة عملية لا تقل عن ثلاثة سنوات على الأقل.
مع وجود هؤلاء الاختصاصيين فالعيادة النفسية التربوية، قد تستعين بمختصين آخرين في نواح مختلفة في التشخيص والعلاج، فمثلاً قد تستعين بمُختبِر الذكاء Mental Tester أو المختصين في مخارج الأصوات Phonetics، أو في علم الأعصاب Neurology أو في باثولوجيا الكلام Pathology أو بالتدريس العلاجي Remedial Teaching، أو المختص في التربية الرياضة، ممن له دراية بسيكولوجية اللعب وأهميته في العلاج النفسي، الذي يقوم بمباشرة الحالات أثناء اللعب، ويعمل لها من التمرينات، ما يكون مفيداً في تقديم العلاج، كتمرينات التراخي.Relaxation Exercises، أو تمارين رياضة اليوجا اليابانية. هؤلاء الاختصاصيين وغيرهم، يتعاونون ويتبادلون الحالات الطلابية التي تحتاج للتشخيص والعلاج على أساس علمي سليم.
لا شك، أن إنشاء العيادات النفسية التربوية، لا بد وأن يكلف المؤسسة التربوية، مالاً كثيراً، ولكن؛ هذا المال هو خير استثمار ناجح وفاعل ومجدي لا بد منه، لضمان مستقبل أفضل للأجيال تعليمياً وتربوياً ونفسياً، خاصة؛ وان الخط البياني لمستوى العملية التربوية، بجهود القيادة التربوية الحالية -لأول مرة- بدأ في الإرتفاع والاطراد، ومعه أمالنا في الرقي العلمي والتقدم التربوي.
وبالسياق نفسه، لا ينبغي للمؤسسة التربوية، أن تندفع نحو تطوير التعليم والمناهج ومستحدثاتهما التكنولوجية وروح العصر، وتتجاهل الطالب ودوافعه ورغباته النفسية، وما يعانيه من مظاهر الالتواء والتشتت الذهني والوجداني ومن حالات انحدار قيمه الخلقية والروحية والمسلكية، فالطالب هو الذي يصنع النهضة العلمية، ومن أجله تصنع النهضة، وصولاً إلى التربية العصرية التي تضع أقدامنا في مصاف الدول المتميزة حضارياً وعلمياً واجتماعياً وصناعياً وغيرها...الخ.
مما تقدم يتضح؛ إن وجود العيادة النفسية التربوية، في مدارسنا الحكومية والخاصة، بات ضرورة عصرية ملحة، لتقديم العون والدعم للعملية التعليمية التربوية... فالتعليم الذي يواكب العصر ويعايشه، ويكون متسقاً ونهجه الحضاري، هو تعليم عصري، نريده ونسعى إليه، وأن نكون عصريين في التعليم معناه أولاً وقبل كل شيء. أن نكون أصلاء، فإن ما يعد تعليماً عصرياً في إطار زمني معين، قد يكون متخلفاً في إطار زمني آخر.
والسؤال المهم الآن: هل ستعطى التربية ودها للمدارس، تفكر وتقرر في تشريعاتها وقوانينها ومناهجها، وجود العيادة النفسية التربوية، لتصبح عصرية التعليم والنهج الحضاري، وفقاً للمتغيرات التربوية والتعليمية العالمية؟
إن مثل هذا التفكير العملي والحضاري، لا يبعدنا عن الاهتمام بالقيم الروحية والخلقية والاجتماعية في حياتنا، لأن تلك القيم هي وحدها القادرة على منح التعليم العصري، أنبل المثل العليا وأشرف الغايات. وإن جوهر رسالات السماء جميعاً، لا تتصادم مع حقائق الحياة الكونية.
بقلم : ياسيـن الجيـلانـي