التربية باعتبارها عملية انتقال أو تغير هادف يتمثّل في النمو الحاصل في المتلقي، نتيجة تعرُّضه للخبرات التي تتضمنها هذه العملية؛ انتقال نحو حالةٍ مثلى، ونمو ليس له غاية إلا المزيد من النمو. وتتضمن هذه العملية مجموعة من الإجراءات المتداخلة، وتتفاعل فيها عناصر عدَّة يستخدمها المجتمع لنقل إرثه ومعارفه؛ بهدف الحفاظ على ديمومته، وهي تختلف من مجتمع إلى مجتمع ومن بيئة لبيئة ومن فلسفة لأخرى. وتتصف عملية التربية بأنها متكاملة؛ تستهدف جميع جوانب الشخصية الإنسانية، وعملية تشاركية تتعاون فيها العديد من المؤسسات.
اهتم الكثير من الفلاسفة والعلماء والمربيين بالتربية كمفهوم، وأسهبوا في شرحها وتعريفها، لكنهم وإن اختلفوا في بعض النقاط أو اتفقوا عليها، فإن جوهر التربية يبقى واحداً. عرَّفها أفلاطون بأنها: «إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال وكل ما يمكن من الكمال.. وذلك بمزاولة جميع الأنشطة العقلية والبدنية المؤدية لكمال الفرد» كما عرَّفها جون ديوي بأنها: «عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد، ثم صبٍّ لها في قوالب معينة، أي تحويلها إلى عمل اجتماعي مقبول لدى الجماعة».
الطفل هذا البرعم الإنساني النامي، الذي يولد مزوداً بخبرات فطرية تتفاعل مع البيئة المحيطة به، إنما يعيش مرحلة بناء وتكوين؛ تجعل منه أكثر استجابة لعملية التربية التي ستؤثر في استجاباته وتوجُّهاته، وتشكِّل إلى حدٍّ كبير معالم شخصيته وصفاتها مستقبلاً من خلال الؤثرات المختلفة التي يخضع لها. فالمناخ التربوي العام الذي يعيش فيه الطفل هو أهم عوامل التأثير في نموه من جوانبه كافة، ويؤدي دوراً رئيساً في تحقيق مطالب ذاك النمو، وفي تهيئة أسباب التنمية لقدراته وطاقاته الكامنة.

1 - بعض حاجيات الطفل:
وإذا استعرضنا أهم احتياجات الطفل خلال عملية التربية باختلاف مصادرها؛ لوجدنا أنها تكمن في الحاجات البيولوجية الأساسية، وفي الرعاية والاهتمام والشعور بالمسؤولية تجاهه أولاً، ثم الحاجة إلى التنمية المتوازنة لمكونات شخصيته، وإلى معارف وخبرات ومهارات تنمي إدراكه وتخيله وقوة التعبير لديه. كذلك حاجته إلى الأمن والطمأنينة ودفء العاطفة ومراعاة حالاته النفسية، وإلى العمل والإنجاز والتفوّق، والحاجة إلى الحرية والاستقلال الشخصي، وإلى التواصل والمشاركة والتقدير الاجتماعي والشعور بالانتماء، إلى جانب احتياجات حركية تتجلّى في ميل الطفولة إلى الحركة والنشاط، كالحاجة إلى اللعب الذي يطوِّر قدراته ويحرُّر طاقاته الانفعالية، واحتياجات ترويحية كالحاجة إلى الترفيه والتسلية والتنفيس عن الرغبات المكبوتة، وإلى ممارسة الهوايات والنشاطات والتشجيع على ممارستها.
2 - من خصائص التربية:
كانت التربية التقليدية تتمركز حول تنشئة الطفل كما أراد لها الراشدون وعلى ما كانوا عليه، تبعاً لفلسفة كل مجتمع ونظرته. وكانت تهدف إلى تنمية الجانب المعرفي بشكل أساس من خلال نقل تراث الأجداد وتقديمه إليه؛ مهملةً بذلك معظم جوانب شخصيته الأخرى. فالنشاط واللعب والتعلم بالممارسة أنواع من الترف ومضيعة للوقت والمجهود. إلا أن التطورات التربوية المتلاحقة، وتقدُّم العلوم الإنسانية بمجموعها، فرضت متغيرات جديدة تدعو إلى أهمية الارتقاء بالشخصية الإنسانية بجوانبها المختلفة، وتصبّ لصالح أهمية الطفولة كمرحلة هامة ومستقلة يستوجب تكيُّفها مع عصرها وفقاً لنوازع الطفل وميوله. حتى بات ينظر إلى التربية بصورتها الحديثة على أنها نظام لتعليم الحياة، لا بدّ أن تحقّق التحريض الأمثل لقدرات متلقيها وطاقاته. وباتت تشمل وظائفها التنمية المتوازنة لجميع مكونات شخصيته وملكاتها، والتأثير بإيجابية في قيمه وعاداته واتجاهاته والكشف عن ميوله ومواهبه.
ومن خصائص التربية الحديثة الأخرى التي أشعرت الطفل بشخصيته كذات تستحق الاحترام: الاهتمام بنموه الجسمي والوجداني والاجتماعي، والتعليم عن طريق العمل والتجربة والخبرة الشخصية، وخلق الجوّ الاجتماعي المناسب لنمّوه، وبما ييسر له فهم الحياة ويعمِّق نظرته إليها. إن التربية المثلى تتطلب قبل كلِّ شيء تعليم الطفل أفضل الطرائق لمواجهة المشكلات وتذليلها، وخلق المناخ السليم الذي يلبي احتياجات شخصيته ومتطلباتها. مناخٌ تسوده السكينة والاستقرار، تنعم به الأسرة أولاً، ثم المجتمع الذي يعيش فيه الطفل ثانياً.

3 - من أساليب التربية:

نذكر من أساليب التربية وفق نظرياتها الحديثة:
- اتباع أساليب التفاهم والحوار والمناقشة، والتحدُّث مع الأطفال عن اهتماماتهم ومشكلاتهم.
- تزويدهم بالمعارف والخبرات الجديدة، وتعليمهم المهارات المختلفة ومساعدتهم على اكتسابها.
- إعطاءهم الحرية الكافية؛ تفكيراً وتعبيراً، لينشأوا في ظلِّها واثقين من أنفسهم ومن قدراتهم، وتشجيعهم على الاستقلال في التفكير واتخاذ القرارات.
- تدريبهم على المسؤولية في حدود قدراتهم واستعداداتهم، وتعويدهم على المشاركة فيها.
- تنمية الأحاسيس الإنسانية الراقية في نفوسهم، وتبصيرهم بالقواعد الصحية السليمة.
- تنمية ذائقتهم الجمالية، وغرس الحسِّ الجمالي وحبّ الطبيعة في نفوسهم.
- إثراء حياتهم الثقافية وإغناءها بالمثيرات المتنوّعة، وتشجيعهم على المطالعة وممارسة أنواع الفنون.
- الاهتمام بأدب الأطفال بأشكاله وفنونه المقروءة والمسموعة والمرئية.
- تهيئة البيئة الملائمة للإبداع وتشجعهم عليه.
- دفعهم لممارسة الأنشطة المتنوعة كالرحلات والألعاب الرياضية، وتوفير عدد من اللعب لهم.
- تشجيعهم على الاندماج في الحياة الاجتماعية، والعمل على تبسيط مهاراتها، وتعزيز انتمائهم لمجتمعاتهم.
- تعويدهم عادات وسلوكيات إيجابية كتقدير العمل، وتنمية روح المبادرة الإيجابية، والاعتماد على الذات. وللقدوة الحسنة أهمية كبيرة في تربية الطفل، إذ يتعلم منها آداب السلوك والحديث والاستماع وأساليب التعامل مع الآخرين.
4 - الأطفال بين مؤسساتهم التربوية:
تمارس عملية التربية مؤسسات عدَّة، لكلٍّ منها دورها حسب المرحلة التي تتولاها والظروف التي تعمل فيها، وهذه المؤسسات هي الأسرة فالمدرسة، فالمجتمع ومؤثراته. فشخصية الطفل لا تتشكَّل مع الولادة، إنما تتكوّن نتيجة الاتصال بالبيئة المحيطة بها، والتفاعل مع المجتمع الذي تعيش فيه. وتُعرف هذه العملية التربوية التي تقوم على التفاعل بين الطفل ومؤسسات المجتمع بالتنشئة الاجتماعية، حيث يتشرَّب فيها الكائن الناشئ قيمه ومعاييره وأنماط سلوكه.
يقول د.«هادي نعمان الهيتي» في كتابه القيِّم «ثقافة الأطفال»: «إن الطفل يولد مرتين، أولاهما ولادة عضوية «بيولوجية» وثانيتهما ولادةٌ ثقافية، حيث يتحوَّل في الولادة الثانية إلى كائنٍ ثقافي، ومع أنَّ الولادة البيولوجية ترتبط بعوامل وراثية، إلا أن الولادة الثقافية تحصل بصورة تدريجية ومستمرة، وهي عملية معقَّدة، ويساهم فيها كثير من الوكالات الاجتماعية، إضافة إلى الجماعات الأولية».
إذا كانت مرحلة الطفولة هي أهم مراحل النمو، فإن الأسرة - كأهم مؤسسات التربية - هي البيئة الأكثر إسهاماً في بناء هذه المرحلة، والتي على عاتقها الدور التأسيسي في تكوين الطفل الجسمي والنفسي والاجتماعي. ومن أهم المهام التي تحقّقها الأسرة: تحقيق مطالب نمو الطفل الأساسية، وتوفير الأمن والطمأنينة له، وغرس القيم والعادات والاتجاهات المرغوبة في نفسه، وتعزيز ثقته بنفسه وقدراته. والأسرة بوصفها الوعاء التربوي والثقافي الذي تتبلور فيه شخصية الطفل، فإنها مطالبة بإتباع قواعد وأساليب تربوية، تجعل هذه الشخصية فاعلة في المجتمع، وقادرة على التكيّف مع متغيراته. يقول د.عيسى الشماّس في مقدمة مؤلَفه «موسوعة التربية الأسرية للأطفال»: «تعدُّ الأسرة المؤسَّسة الاجتماعية/ التربوية الأولى بالنسبة للكائن البشري، والتي يتحملّ فيها الوالدان مسؤولية كبيرة وخطيرة في تربية الأبناء، ووضع الأسس التي تحددّ مكونّات شخصياتهم المستقبلية -الأخلاقية والنفسية والاجتماعية- إمّا بصورة إيجابية تمكنهم من التكيفّ مع الحياة الاجتماعية المستقبلية، والتفاعل والإنتاج، وإما بصورة سلبية يكونون معها ضعيفين وغير قادرين على التعامل مع المواقف الحياتية المختلفة، الأمر الذي يؤديّ إلى فشلهم في الحياة الخاصة والعامة».
بعد الأسرة يأتي دور المدرسة من حيث الأهمية والفاعلية، إذ توفّر الظروف وتهيء المؤثرات اللازمة لنمو سليم للطفل، فتزوده بالمعرفة وتستثير عملياته المعرفية- العقلية، وتخلق لديه وعياً معرفياً مؤسِّساً للقاعدة الأخلاقية. وللمعلم -في إطار مسؤوليات المدرسة- دورٌ أساسي في عملية التنشئة الاجتماعية، ليس بصفته مصدراً للخبرة والمعرفة، أو مرشداً وموجّهاً للحصول عليها فحسب، بل لأنه يشكّل دافعاً وحافزاً لتحقيق الأفضل في كل مجال وعلى أي مستوى. كما أنه يمثل قدوة حسنة تؤثّر في الأطفال داخل الصف وخارجه، حتى بهيئته وشكله.
إضافة إلى الأسرة والمدرسة فإن الأصدقاء أو جماعة الرفاق تمثِّل مصدراً هاماً لاكتساب العديد من القيم والأفكار والعادات والسلوكيات للطفل، ويعتمد تأثير هذا المحيط على نوعية المخالطين ومستويات ثقافتهم.
أما عن المجتمع ومؤسساته، فأهمها وسائل الإعلام، التي تشكّل أداة من أهم أدوات التأثير التربوي، بحكم قدرتها على جذب الطفل وإثارة اهتمامه. وتؤدي هذه الوسائل بأشكالها -المرئية والمسموعة والمكتوبة- دوراً كبيراً في حياة الطفل وفي تنميته من النواحي العقلية والعاطفية والسلوكية، وتعمل على تفتيح عقله على العالم من حوله. كما أن بمقدورها -إذا أحسن استغلالها، وتوافقت مضامين ما تبثّها مع قدراته واستعداداته- أن تزوّد الطفل بخبرات لا يمكن لجهة أخرى أن تزويده بها.
الأطفال هم رونق الحياة، أغلى ما نملك وأثمن ما ندّخر، والذين يحمّلوننا حاضراً أمانة كبيرة هي التربية، التي تدعونا لأن نسخِّر كلّ الجهود والإمكانات لكي يجتازوا الحواجز التي تحول بينهم وبين حياة جديرة بهم، حياة لا يشوبها القلق أو الاضطراب، إنما تسودها الثقة ويملؤها الأمان.

 بقلم: عبد المجيد إبراهيم قاسم (بتصرف)

أضف تعليق


كود امني
تحديث