حينما لازمتْني تلك الأحاسيس القاسية والمتعبة لي، ظننت أن نسق الحياة يستمر هكذا، حتى بالكاد شعرت أن المستحيل قد لا يتحقق، كنت أكتم أفكارًا لا أستطيع التحاور فيها، لكني نظمت قصيدتي بيني وبين نفسي أن الفجر ينطلق من وسط الظلام الدامس، فأعدت التفكير في نواقض الأمور، فوجدت أن القمر لا يتلألأ إلا وهو في قلب السواد، ربما كان لصيغة القتامة منوال لاحتواء البياض والأمل معًا.

 فحينما أمشي وحدي أشعر أن وسام العزلة ألزَمَني الظهور بصيغة النكرة، فلم تعرفني اللام كما أحببت أن أعرف لدى من ألف ملامح وجهي، لكني اكتفيت بتلك النكرة إلى حين يبدو فيه العرف شيئًا أكثر من الاعتياد، فلا القانون يلزم البشر باختيار الأقرب للمنطق والعدل، ولا المنطق يفضل أحقية القانون في ضبط الصحيح من بين ركام التضليل والتستر، هل كان حقًّا يبقينا الظلال كما نحن عليه من تيه، أم أن الوعي سيكف سكوته فيمحو كل لقطة للغياب؟ إنه رحيل القيم في زمن اختار أهله السطحية والقليل بدل العمق والكثير، من ماذا لكن؟ من كل تضحيات الكلمات والحروف أن تبقى حية لتأخذ حقها كاملاً من الظهور.

 إن قيم هذا العصر تضاربت حولها الآراء والأفعال، فلم يعد يحبها إلا القلة القليلة، ولم يعد يستلطف ثقل الرزانة فيها إلا من نشأ في بيئة تعشق المبادئ والمرجعية حفاظًا على الهُوية والانتماء.

 صدِّق أو لا تصدق إن قلت: إن زمننا هذا لا وجود لمعيار التفوق والتألق فيه سوى من نال رتبة الشرفاء بتأييد الله له، لقد اختلطت الأمور بعضها ببعض، ولم يعد يسمع للعاقل إن بادر بإعطاء الحكمة والنصيحة، ولم يعد يؤخذ برأي اللبيب إن بادر بتوجيه الصحيح وجهة صائبة من السداد، الكل يبدو في ظلال؛ لأنه رفض القيم، بل رفض كل ما يمت بصلة للقيم، لكن ما قوامة المجتمعات إن هي تخلت عن هذا المبدأ وهذه الدعامة والركيزة؟ ما أساس تطلع الأسر إلى الالتزام بضوابط التربية الصحيحة والقيمُ مغيبة لديها، أو كانت لا تدمج في برنامج التربية عبر المؤسسات التربوية والجامعات؟

 سيكون لزامًا علينا إعادة خطة الحياة لدينا والقيم ليست حاضرة؛ لأنه لن ترتسم السعادة في ملامح أعيننا ونحن نغض البصر عن مقومات الأصالة والامتداد المتخلق لثوابتنا، كم سنحتاج إلى إعادة هيكلة للعقول لتتعود على فكرة القيم، وكم سنحتاج لتهذيب النفوس لتألف حرية القيم بداخلها! فلربما الحيز ضيق ولا يسع لمجرد عنوان القيم، فهل سيكتب لها الرحيل الأبدي لتموت موتًا بطيئًا ولا أحد سيسمع بفنائها؛ لأن مجرد التخلي عن التحلي بها هو موت في حد ذاته؟ فلا داعي للتملص من تعابير الأخلاق ليحكم على القيم بالفناء؛ لأن مجرد عدم ذكر اسمها كفيل ألا يرتبها في قائمة الأولويات المشروعة في مجتمع يتطلع للاستقرار والتحضر والتقدم بنهضة رفيعة المستوى.

 ربما سيلزمنا الكثير من الإخفاق لنعرف قيمة القيم، وسيلزمنا الكثير من الضياع لنفهم دور القيم في توازن المجتمعات، وسنحتاج للكثير من الإمعة لنعي جيدًا أن ما من مجتمع تخلى عن ثوابته إلا وجرفه تيار الضياع اللامع بالوعود الكاذبة، إذًا لا داعي لإجحاف هذه القيمة حقها؛ لأنها لو ضاعت لن تقوم للاستقرار قائمة متينة، ولن يتوج الجد بنتائج مُرضية؛ لأن الكل مرتبط ببعضه، فالمرض - مثلاً - متعلق بالصحة أيما تعلق؛ إذ كلما تضررت الصحة تسلل التعب والوهن إلى أقصى حد من التدهور، وبذلك تصبح هذه الأخيرة مهددة في عنفوان قيمتها الحقيقية من النشاط والتكامل في آليات الجسم الفاعلة، وقس على ذلك ارتباط القيم بحضارة أي مجتمع؛ إذ كلما تخلى أفراده عن القيم، تسللت الفتن والمشاكل وسوء التفاهم؛ ليتوسع الخلاف والتفرق والعودة للوراء بمكتسبات ضعيفة جدًّا، ليست على الإطلاق تخدم مصلحة، أو تطور وتيرة إنتاجية مهما كان شكلها ومضمونها، فلا داعي لأن نعطي تذكرة الرحيل للقيم فترحل القوامة والمرجعية للمجتمعات، وبذلك تصبح المسيرة مائلة نحو مصير مجهول لا تنتمي له ألبتة، ولنحافظ على قيمنا لينطلق الانبعاث الحضاري منها، فتعتبر أساس ومنطلق أي عملية بنائية لأي مجتمع مهما تنوعت فصائله، واختلفت طبائعه؛ لأن المبدأ هو في أصل الخلق وثوابت المبادئ، وليس بتنوع أساليب العيش وطريقة التفتح على المجتمعات الأخرى؛ لأنه من غير قيم لا يمكن ضبط هذا الانفتاح واحتواؤه الاحتواء المتزن واللائق بمجتمع يتطلع لمستقبل أفضل في ظل وسطية موزونة من السلوكات والثوابت.

                                                          بقـلم :  سميرة بيطام‎

أضف تعليق


كود امني
تحديث