يشتكي الكثير من الناس من عدم سعادتهم في هذه الدنيا. لكن هل هذه هي الحقيقة فعلاَ...؟
في البداية لا بد من تقديم ملاحظة أساسية، وهي كالتالي: في الواقع إنّ الغالبية العظمى من البشر على هذه الأرض، لديهم ذكريات كثيرة جميلة و رائعة عن طفولتهم؛ بل يعتبرونها أفضل فترة في حياتهم على الإطلاق، أي هي جنتهم المفقودة بطريقة ما. لذا، إن كنت لا تريد أن تعيش بعد الآن في هذه الدنيا، فتذكر هذه الملاحظة: أي أنّك كنت في طفولتك طفلا سعيداً. 
 
 لكن، لماذا يكون معظم الأطفال سعداء حقاَ خلاف ما هو عليه الأشخاص البالغون..؟ ماذا يفقد الناس ويخسرونه من عطاء فور تخطّيهن مرحلة الطفولة وتحديداَ في سن ما بين 12-15...؟ وما الذي يميز فترة الطفولة...؟ أعتقد أنّ هناك ثلاثة أشياء مهمّة وأساسية تحظر بثقلها ونحن نستعدّ لتوديع مرحلة الطفولة وبهجتها للدّخول في مرحلة المراهقة ومشاكلها، وهي في رأيي: تحمّلنا لهموم الحياة المتعدّدة، تخلّينا عن براءتنا الطّفولية، فقداننا لصفة انبهارنا بالأشياء المحيطة بنا. إنّ العالم الذي نعيش فيه هو نفسه دائمًا، وإنّنا نفس الأشخاص الذين نحيا فيه، لكن الإنسان يتغير حقاَ في العديد من الجوانب (جسمية، ذهنية، نفسية، وجدانية...) عندما يودّع مرحلة الطفولة ويدخل باقي المراحل الحياتية المتعاقبة.
 
  ففي المدرسة مثلا، يتعلم المرء الانضباط والالتزام والامتثال للقوانين وقيودها. وهي بالطبع من الآليات التحكّمية التي تقيّد سلوك وتصرف الفرد والجماعة، بل تهدئه كثيراً وتكبح جماحه واندفاعه أي تكبّله بمعنى من المعاني، ولكن إذا كان هذا الإنسان محظوظًا بما يكفي، ووجود مدرسين جيدين ذوي كفاءة مهنية عالية، فسوف يمنحه ذلك طعم التّعلم والتطّور عن طريق الدّراسة. في المدرسة نفسها، لكن مع بدء عملية المقارنة بينه وبين الآخرين، ينشأ في الغالب شعور بالنقص، ويبدأ مع هذا الإحساس بالنقص بظهور ما يمكن أن نسميه بالانتكاسة أو النكوص. أمّا إذا لم تكن المدرسة جميلة و حذّابة و ممتعة، وإذا كانت العائلة من الطبقة السفلى في السلّم الاجتماعي، فإنّ عقدة النقص ستتطور سريعا ويتعاظم دورها السلبي على الأفراد بل والجماعة أيضا.
 
  في سن البلوغ وما ينتج عنه من الزيادة في الشعور بالرغبة الجنسية وإلحاحها. وفي حضور بيئة مجتمعية تعيق التقارب والانفتاح على الشريك من الجنس الآخر، فإن كل تأخير في تلبية تلك الحاجة البيولوجية عبر الارتباط الطّبيعي، يؤدّي إلى اضطراب في السلوك الجنسي والمزاج العام للأفراد دون معرفة السبب، وقد يستغرق التحرر من الوضع وقتًا طويلاً جداّ وتتسم الحياة في هذه المرحلة بنفسية سيئة بالرغم من تظاهرنا بغير ذلك أمام الآخرين. بعد فترة، يصبح الإحباط قويًا، لدرجة أنّ البعض يُصاب باليأس والقنوط، بسبب غلوّه وإفراطِه في الاهتمام والتفكير في الموضوع. من ناحية أخرى، قد نجد لدى البعض الآخر وفي سن 18- 20، نوع من التسامي ورغبة قوية لتجاوز الوضع، تجنح به نحو حبّ الرياضة والأدب والفلسفة والموسيقى والسياسة والعمل التطوعي وغيرها من الأنشطة الأخرى. ليتم إعادة تشغيل الجهاز المناعي لتحسين الحالة النفسية بشكل عام.
 
  لا يطول الوضع كثيراَ على هذا الحال، فبعد سن 25، ومع قليل من الحظ، دبلوم في الجيب ووظيفة مقبولة. شراء سيّارة ومنزل، زواج موفّق وناجح، ثمّ إنجاب لأطفال، يصطدم الإنسان حتماَ باكتشاف رهيب ومخيف يترقّبه في طريقه، ألا وهي حقيقة الموت. هذا الوسواس هو من الأمراض النفسيّة الخطيرةَ التي تسبب الكثير من الأذى للناس جميعاَ. فحين يبدأ الإنسان يفكّر فيه وفي تبعاته وكلّ ما يتعلّق به، يرتهن مصيره بأسئلة وجودية عديدة ومعجّزة ( لما نتعب في هذه الحياة ونشقى إن كان علينا أن نترك كلّ شيء ونرحل)، مثل هذا، يعيق قدرات المرء على ممارسة الحياة بشكل طبيعي. فيظهر الخوف من المستقبل ثم يتبعه القلق الدّائم. 
 
  في الختام، هل تستحق الحياة منّا أن نعيشها حقاَ..؟ هل يمكنا أن نستخرج السعادة من هذه الحياة...؟ طبعاَ، نعم وألف مرة نعم... بل يمكنا أن نعيد سعادة الطفولة وعجائبها، لأن مصادر الدهشة في هذا العالم لا تنتهي. بل إنّ الشرط الوحيد هو عدم الانجذاب إلى ما هو سهل ورائع مع الابتعاد ما أمكن عن الأسئلة الجدلية، لكنه سيثبت لاحقًا أنه مصدر قلق لا نهاية له، إنّما لدينا عواطف خاصّة. تساعدنا أن إذكاء الفضول الإيجابي فينا، مما يجعنا نجرب كل شيء مفيد للغاية: القراءة، والكتابة، والموسيقى، والصيد، والرياضة، والمشي لمسافات طويلة...  أي الاحتفاظ فقط بما يمنحنا متعة حقيقية. فلا داعي مثلا أن نتسكع مع شخص لا يمنحنا الفرح والسرور أو متعة و راحة نفسية. كما أنّ الهموم مثل الطّاعون.
 
  من العادات السيئة التي تزيدنا همّا، نذكر مثلا هدر الكثير من الوقت دون أي فائدة. لذلك علينا أن نحدد وقتًا لكلّ مهمّة تفيدنا فلا نفرط في شراء ما لا يلزمنا مع الابتعاد عن القلق والغيرة والنّدم ما أمكن ذلك، كما علينا أيضا أن لا نستمع كثيرا لما يقوله عنّا الآخرون بل من المفيد جدا لصحتنا العقلية والنفسية مصاحبة من نحبهم ويحنوننا حقا والاستماع إلى أهل الثقة منهم للاستفادة من خبراتهم وتجاربهم، وليكن القرار النهائي لك.  حتى لا تصاب بنزيف في المشاعر تضيع معه سعادتك في هذه الحياة... 
             عن: Adel Herik             ترجمة وإعداد: ميول تربوية

أضف تعليق


كود امني
تحديث