يقصد بالنظرية الإبداعية في مجال البيداغوجيا أن يكون المتعلم أو المتمدرس مبدعا قادرا على التأليف والإنتاج ومواجهة الوضعيات الصعبة المعقدة بما اكتسبه من تعلمات وخبرات معرفية ومنهجية. وتتمظهر الإبداعية في الاختراع والاكتشاف وتركيب ما هو آلي وتقني، وتطوير ما هو موجود ومستورد من الأشياء وإخراجها في حلة جديدة وبطريقة أكثر إتقانا وجودة.
ولا بد أن يكون ما هو مطور قائما على البساطة والمرونة والفعالية التقنية والإلكترونية وسهولة الاستعمال.وتستند الإبداعية إلى الذكاء وامتلاك الكفاءة والقدرات الذاتية التعلمية في مواجهة أسئلة الواقع الموضوعي عن طريق تشغيل ما درسه المتعلم واستوعبه في السنة الدراسية أو عبر امتداد الأسلاك الدراسية في التكيف مع الواقع والتأقلم معه، إما محافظة وإما تغييرا.
وقد تعتمد الإبداعية على تحليل النصوص وتشريحها وتأويلها والقدرة على استنباط معانيها السطحية والثاوية في العمق، وقد تتجاوز الإبداعية هذا المفهوم التحليلي النصي إلى تقديم تصورات فكرية نسقية جديدة حول الإنسان والمعرفة والكون والقيم تضاف إلى الأفكار الفلسفية الموجودة في الساحة الثقافية.ويمكن أن تكون الإبداعية هي تجريب نظريات وفرضيات علمية جديدة والإدلاء بأطروحات منهجية ومعرفية تسعف الإنسان أو الدولة على استثمارها للصالح العام.ويمكن أن تكون الإبداعية في مجال الفن هو رسم لوحات تشكيلية ونحت مشخصات تنم عن تصورات حديثة أو إخراج فيلم أو مسلسل أو مسرحية فيها الكثير من الإضافات الفنية الجديدة.
ومن هنا، فالإبداعية نظرية تربوية تهدف إلى تربية التلميذ وتعويده على الخلق والإنتاج والإبداع والابتكار والاختراع والتجديد والتطوير والتركيب والتأليف بعد عمليات التدريب والتمرين والمحاكاة، وتمثل المعارف السابقة المخزنة في الذاكرة وتفتيقها أثناء مواجهة الوضعيات الجديدة في الواقع الميداني والنظري والافتراضي.
* مرتكزات النظرية الإبداعية:
تتكئ النظرية الإبداعية التربوية على مجموعة من الأسس والمرتكزات، ومن أهمها : السعي الدائم وراء التحديث والتجديد وتفادي التكرار واستنساخ ما هو موجود سلفا، وتجنب أوهام الحداثة الأدونيسية، واعتماد حداثة حقيقية وظيفية بناءة وهادفة تنفع الإنسان في صيرورته التاريخية والاجتماعية. ولن تتحقق هذه الحداثة إلا بالتعلم الذاتي وتطبيق البيداغوجيا اللاتوجيهية أو المؤسساتية ودمقرطة الدولة وكل مؤسساتها التابعة لها.
ويعني هذا أن البيداغوجيا الإبداعية لن تنجح في الدول التي تحتكم إلى القوة والحديد وتسن نظاما ديكتاتوريا مستبدا ؛ لأن الثقافة الإبداعية هي ثقافة تغييرية راديكالية ضد أنظمة التسلط والقهر. ولا يمكن الحديث أيضا عن النظرية الإبداعية إلا إذا كان هناك تشجيع كبير لفلسفة التخطيط والبناء وإعادة البناء والاختراع والاكتشاف وتطوير القدرات الذاتية والمادية من أجل مواجهة كل التحديات.
ومن الشروط التي تستوجبها النظرية الإبداعية الاحتكام الدائم إلى الجودة الحقيقية كما وكيفا، والتي لا يمكن الحصول عليها إلا بتخليق المتعلم والمواطن والمجتمع بصفة عامة. ويعد الإتقان من الشروط الأساسية لما هو إبداعي؛ لأن الإسلام حث على إتقان العمل وحرم الغش والربح الحرام. ولا بد من ضبط النفس أثناء التجريب والاختبار وتنفيذ المشاريع العلمية والتقنية، والتروي في إبداعاتنا على جميع الأصعدة والمستويات والقطاعات الإنتاجية ، والاشتغال في فريق تربوي والانفتاح على المحيط العالمي قصد الاستفادة من تجارب الآخرين، والمساهمة بدورنا في خدمة الإنسان كيفما كان. ومن هنا، لابد أن يكون التعليم الإبداعي منفتحا على محيطه وفي خدمة التنمية المحلية والجهوية والوطنية والقومية والإنسانية.
وترفض النظرية الإبداعية التقليد والمحاكاة العمياء والاتكال على الآخرين واستيراد كل ما هو جاهز، واستبدال كل ذلك بالتخطيط المعقلن وإنتاج الأفكار والنظريات عن طريق التفكير في الحاضر والمستقبل، وتمثل التوجهات البراغماتية العملية المفيدة، ولكن بشرط تخليقها لمصلحة الإنسان بصفة عامة.
هذا، وينبغي أن ينصب الإبداع على ما هو أدبي وفني وفكري وعلمي وتقني ومهني وصناعي في إطار نسق منسجم ومتناغم لتحقيق التنمية الحقيقية والتقدم والازدهار النافع لوطننا وأمتنا. ومن المعلوم أن الدول الغربية لم تتقدم إلا بتشجيع الحريات الخاصة والعامة وإرساء الديمقراطية الحقيقية وتشجيع العمل وتحفيز العاملين ماديا ومعنويا. ومن ثم، تعتبر النظرية الإبداعية فكرة التشجيع والتحفيز وتقديم المكافآت المادية والرمزية من أهم مقومات البيداغوجيا العملية الحقيقية، ومن أهم أسس التربية المستقبلية القائمة على الاستكشاف والاختراع.
* المرجعيات النظرية التي تعتمد عليها البيداغوجيا الإبداعية:
تستوحي البيداغوجيا الإبداعية مرتكزاتها النظرية والتطبيقية من نظرية اللسانيات التوليدية التحويلية التي ركزت كثير على الإبداعية اللغوية على مستوى الإنجاز وتوليد الجمل اللامتناهية العدد من خلال قواعد نهائية ومحددة واستعمالها بشكل إبداعي متجدد. كما تعتمد النظرية الإبداعية على بيداغوجيا الأهداف والكفايات والمجزوءات ونظرية الجودة التربوية وتبني مبادئ التربية الحديثة والمعاصرة مع تمثل الفلسفة البراغماتية المخلقة وتنفيذ مقررات الحياة المدرسية والتنشيط التربوي. ومن جهة أخرى، تستلهم هذه النظرية التجارب التربوية في الدول الغربية المتقدمة التي تربط المدرسة والتعليم بالممارسة العملية وسوق الشغل والبحث العلمي والاختراع الآلي، والتقني وتقرنه كذلك بالتنمية والتقدم والازدهار.
* فلسفة البيداغوجيا الإبداعية وغاياتها:
تهدف البيداغوجيا الإبداعية إلى تكوين مواطن صالح يغير مجتمعه ويساهم في تطويره والرفع من مراتبه كما يساهم في الحفاظ على كينونة أمته ومقوماتها الدينية، ويسعى جاهدا من أجل تنميتها بشريا وماديا وحمايتها من المعتدين عن طريق الدفاع عنها بالنفس والنفيس، وإعداد القوة البشرية والعلمية والتقنية من أجل المجابهة والتحصين.
ويعني هذا أن البيداغوجيا الإبداعية نظرية تعمل على تكوين جيل من المتعلمين يمتلك العلم والتكنولوجيا والقدرات الكفائية في جميع التخصصات من أجل تسيير دفة المجتمع وتوجيهه الوجهة الحسنة و السليمة، مع تحلي هذا الجيل بالأخلاق الفاضلة التي تؤهله لخدمة المجتمع والوطن والأمة على حد سواء.
ومن أهداف البيداغوجيا الإبداعية العمل على خلق مدرسة عملية نشيطة يحس فيها التلميذ بالحرية والخلق والإبداع. وبالتالي ، تتحول هذه المدرسة إلى ورشات تقنية ومقاولات صناعية ومختبرات علمية ومحترفات أدبية وقاعات فنية من أجل المساهمة في الاقتصاد الوطني والعالمي.
ولا بد أن يتعود التلميذ في هذه المدرسة على التحكم في الآلة وتفكيكها وتركيبها وتطويرها ، واختراع آلات جديدة لتنمية الاقتصاد وتحديث الصناعة الوطنية على غرار المدارس الآسيوية في دول التنينات أو اليابان أو المدارس الغربية.ولا يمكن أن نخلق تلميذا مبدعا إلا إذا كانت الإدارة وهيئة التعليم والإشراف تتوخى التغيير والإبداع وتهوى التنشيط، ولها الرغبة الحقيقية في العمل الهادف المتنامي والقدرة على المساهمة في البناء والخلق والتطوير والتجديد من أجل تحقيق الأهداف الوطنية والقومية.
ولا يمكن كذلك أن نحصل على هذه الشرائح المبدعة الراغبة في الخلق والتطوير والتحديث إلا إذا حسننا أوضاعها المادية والمالية وحفزناها معنويا وشجعناها، ووضعنا كل شخص في مكانه المناسب اعتمادا على معايير العمل والعلم مع إبعاد الترقية بالأقدمية والاختيار التي تسيء إلى الفلسفة الإبداعية وبيداغوجيا الخلق والتجديد.
* الإجراء العملي للبيداغوجيا الإبداعية:
لتحقيق البيداغوجيا الإبداعية لا بد من المرور بمراحل أساسية حسب مسار التعلم وتعاقب أسلاك المدرسة من المستوى الابتدائي حتى المستوى الجامعي.تبدأ البيداغوجيا الإبداعية منهجيا بالتقليد والمحاكاة والتدريب والتمرين وتمثل ما هو جاهز سلفا في الأسلاك الدراسية الأولى بشكل مؤقت، لننتقل بعد ذلك إلى مرحلة التركيب وإعادة الإنتاج والتوليد والتجريب في الأسلاك الدراسية المتوالية، لننتقل بعد ذلك إلى مرحلة الإبداع والخلق والتجديد والتحديث والانزياح والاستقلال بتصورات ومشاريع علمية وتقنية وفنية وأدبية جديدة لها مواصفات الملكية القانونية والإبداعية.
وتنتهي هذه المراحل بالتطبيق وإنجاز المشاريع الإبداعية إجرائيا وواقعيا في الميدان وربط ما هو نظري بالممارسة والتطبيق الفوري. وعليه، تعتمد البيداغوجيا الإبداعية على المراحل التالية:
وتستلزم البيداغوجيا الإبداعية أثناء وضع المقررات والمناهج والبرامج الدراسية أن تحترم هذه المراحل والخطوات البيداغوجية والديداكتيكية. ولا بد كذلك من تمثل مبادئ الحياة المدرسية وإيقاع التنشيط المدرسي وتغيير استعمالات الزمن لتواكب هذه النظرية وتأهيل الأطر التربوية والإدارية وأطر الإشراف لتكون في مستوى هذه النظرية البيداغوجية الجديدة.وننبه المسؤولين عن قطاع التربية والتعليم أن هذه النظرية لا يمكن أن تنجح إلا إذا شيدت مدارس الورشات والمختبرات والمحترفات، أي لابد أن تكون المدرسة نظرية وتطبيقية تجمع بين ما هو نظري وما هو مهني وعملي، وتكون بمثابة ورشة تقنية ومختبر علمي وقاعة للفنون والآداب ومتحف لعرض المنتجات الفنية ومسبح لتعلم السباحة وقاعة للرياضة البدنية لخلق أجيال رياضية تساهم في رفع راية الوطن في أعالي السماء.
ومن هنا، فلابد أن يكون الإبداع شاملا ومترابطا ومتناسقا، ولابد أيضا من بناء مؤسسات تربوية خاصة بالمتفوقين والأذكياء والعباقرة كما هو الشأن في الدول الغربية وفي روسيا نظرا لما لهؤلاء من قدرات خارقة يمكن استغلالها في اختراع الأسلحة المتطورة وإنتاج النظريات العلمية والأدبية والتقنية من أجل تحقيق التقدم والازدهار. وينبغي أن تكون المقررات الدراسية عبارة عن وضعيات مقلقة وصعبة ذات مصداقية عملية وعلمية وواقعية وذات أهداف مفيدة ونافعة في الحاضر والمستقبل.
* خاتمـة:
ويتضح لنا في الأخير بعد هذا العرض النظري الوجيز أن البيداغوجيا الإبداعية هي نظرية تهدف إلى بناء مستقبل تربوي حداثي قائم على الخلق والتطوير والإبداع والاكتشاف والخلق بعد المرور الضروري من مرحلة التقليد والمحاكاة والتدريب، وكل ذلك من أجل خلق مجتمع متنور كفء قادر على مواجهة التحديات الموضوعية والواقعية والدولية على جميع الأصعدة والمستويات والقطاعات الإنتاجية. بيد أن هذه النظرية التربوية الإبداعية لا يمكن أن تحقق ثمارها المرجوة إلا في مجتمع العمل والحريات الخاصة والعامة والديمقراطية المتخلقة.
ولا يمكن تطبيق هذه البيداغوجيا الجديدة إلا إذا أسسنا مدارس الورشات والمختبرات والمحترفات، وعودنا المتعلم / المتمدرس على حب الآلة والفن والتجريب العلمي وتطبيق النظريات، ودربناه على فعل التنشيط التخيلي والرياضي، وساعدناه على تمثل فلسفة المنافسة والتسابق والاختراع، وفعلنا الفلسفة البراغماتية ذات التوجهات العملية والإنسانية والاستكشافية في الحاضر والمستقبل، وخلقناها دينيا وخلقيا من أجل بناء مجتمع إسلامي مزدهر، يساهم في التنمية العالمية عن طريق التصنيع وإنتاج النظريات واختراع المركبات الآلية وتحقيق الاكتفاء الذاتي وتصنيع الأسلحة المتطورة الحديثة لتأمين وطننا وأمتنا من العدوان الخارجي والحفاظ على كرامتنا وأنفتنا، بدلا من الذل والضيم اللذين نعيش فيهما اليوم من جراء تخلفنا وانحطاطنا وانبطاحنا التاريخي والخلقي.
بقلم: جميل حمداوي