يعد الخيال من أهم الأنشطة العقلية التي وهبها الله تعالى للإنسان دون غيره من المخلوقات، فيتصور أشياء لم يكن لها وجود من قبل. ويُعد هذا الخيال بداية لكل نشاط إبداعي وابتكاري في أي مجال من المجالات، علمية أو أدبية أو فلسفية، وهو ضرورة من ضرورات الإبداع. والخيال بصفة عامة، ليس بالشيء المنفصل عن الواقع، ولا بالشيء الحر المطلق الذي لا يتصل بمجالات الحياة التي نعيش فيها، فالفرد نفسه، بل كل ما يعن له أو يفكر فيه، ما هو إلا حصيلة التجارب والخبرات التي اكتسبها نتيجة التفاعل المستمر بينه وبين المحيط الذي يوجد فيه.
 
 فالخيال إذاً، هو تلك القدرة على تصوير الواقع في علاقات جديدة، ونفس هذه القدرة هي القدرة على تقمص أشياء وتمثيلها. إنّ الطفل لديه استعداد قوي للخيال، والخيال الإنساني مسؤول - بالإضافة إلى العمليات العقلية الأخرى - عن كل الأعمال الإبتكارية في الحياة الإنسانية، لذا تعتمد روائع أدب الأطفال على الخيال، فالخيال هو أثمن هبة أعطتها الطبيعة للأطفال، وهو خيال أوسع من خلال الراشدين وأخصب، لذلك يحرص من يكتبون للأطفال على توسيع آفاق هذا الخيال وتنميته.
 
 ومن الجدير بالذكر أنّ الله تعالى حبا الطفل بميزة هامة فطرية – وربما يفتقدها أو يضعف من قوتها الإنسان الكبير – وهي القدرة على التخيل الجامح، والتخيل المستقبلي، والتخيل التنظيري. فالقدرة على التخيل ملتصقة بالطفولة وصفاتها، والخيال يتعدد بتعدد مراحل الطفولة، فهو ينمو مع الطفل منذ مولده ويتيح له الفرصة للتفكير والنبوغ والابتكار إذا توفرت له كل الظروف المواتية. فإذا تساءلنا عن حقيقة الخيال، فإننا نجد في المعجم الفلسفي لعلم النفس: الخيال هو قابلية تصور الأشياء الغائبة وتوليف الصور بينها، والخيال الإسترجاعي يميز عن الخيال المبدع، فالأوّل: وسيلة استرجاع أوضاع منصرفة من الذاكرة، والثاني: استقبالي يتيح تصوره وقائع لم نرها، ولم نسمع عنها من قبل. والخيال ليس ملكة خاصة سواء الإسترجاعي أم المبدع، بل يمكنه أن يظهر في كل الأشكال الأساسية من الحياة النفسية (فكر، عاطفة، إحساس، حدس) وهو وقف على الإنسان.
 
 أما التخيل: فهو عملية عقلية عليا، تؤدي وظيفة مهمة للتفكير في المواقف التي تحتاج إلى تفكير وحل. ويصبح التخيل مفيداً ومثمراً تبعاً لمقدار النضج العقلي، حيث يصوغ الفرد خبراته السابقة في إطار كلي جديد، مستعيناً بقدرات التذكر والاسترجاع والصور العقلية المختلفة في إنشاء هذه التنظيمات الجديدة التي تصل الفرد بماضيه وتمتد لحاضره وتستطرد لمستقبله، فتبنى من ذلك كله دعائم الإبداع الفني الإبتكاري العقلي، والتكيف السوي مع البيئة.
 
 لقد تعددت آراء الباحثين في توضيح أهمية الخيال في شتى فروع المعرفة في الحياة، بل إن بعضهم اعتبره الحاسة الخامسة من حواس الإنسان أهمية. وتأتي أهمية ذلك من أنّ الارتباط وثيق بين الخيال وجميع أنواع التفكير، لأنّ التفكير لا ينمو من فراغ. كما أنّ الخيال قد مكن الإنسان من إنجاز معظم الإبداعات المختلفة في جميع المجالات. وعندما يصل الفرد إلى تصور ما وصل إليه الآخرون ممن سبقوه بصورة جديدة يصبح خياله خيالاً إبداعياً، ويسهم هذا الخيال في إدراك بيئتنا المحيطة وتطويرها وتحسينها ومحاولة إيجاد حلول جديدة متخيلة لمشكلات البيئة أو تخيل ما ستكون عليه آلات أو أدوات موجودة في البيئة بطريقة لا ينتج عنها إضرار بالبيئة. هذا فضلاً عن أنّ الخيال يسهم في تنمية قدرات عقلية عليا، ويعد أحد المعينات لتنمية التذكر والإدراك في المقام الأول إلى جانب القدرة على التمييز والمقارنة بين المعلومات، وإصدار الأحكام والقدرة على التنبؤ بما يمكن أن تصير عليه الأشياء في المستقبل. ومن الأهمية بمكان أن نعرف أنّ الموهبة الإبداعية Creative Talent يدخل في تكوينها التخيل والخيال، ويشكل ركيزة أساسية في تكوينها وتنميتها. وتعرف الموهبة الإبداعية عند بعض علماء النفس من خلال مجموعة من الصفات لو توافرت في الطفل بدرجات معينة كان ذلك مؤشراً على إمكانيته الإبداعية. ومن هذه الصفات: 
 
أ‌ - الاستقلالية؛ Independence: مرتفعو الدرجة على هذا المقياس هم من لديهم القدرة على إتخاذ القرارات وتجريب الحلول واعتمادهم على أنفسهم، ولا يزعجهم أن يختلفوا مع أقرانهم. أما منخفضو الدرجة فيفضلون اللجوء إلى الغير أو عدم الحسم ويتخلون عن الأنشطة بسهولة. 
ب - التخيل؛ Imagination: مرتفعو الدرجة على هذا المقياس الفرعي يحبون الاستطلاع وإثارة العديد من الأسئلة، وروح الدعابة أما منخفضو الدرجة فإنّهم يكونون أكثر حرفية وواقعية وأقل استطلاعاً. 
ج - تعدد الاهتمامات: مرتفعو الدرجة على هذا المقياس الفرعي يتميزون باهتمامهم بالرسم والتعبير وحبهم لمعرفة الحياة في العصور الماضية والحياة في بلاد أخرى، أما منخفضو الدرجة فإن لديهم اهتمامات قليلة بهذه الأشياء.
 
 وينظر الآن للإبداع بشكل خاص على أنّه دالة لكن من تأثير الوراثة والبيئة، وقد أشارت نتائج بعض الدراسات التي تناولت القدرات الإبداعية إلى أنّ للوراثة دوراً ولكن محدوداً. بينما يتفق الباحثون على الدور الأكبر للبيئة في تنمية التفكير الإبداعي، فتنمو قدرات الفرد في بيئة صالحة لتربية الإبداع، ويقصد بالبيئة البيئة الأسرية والبيئة المدرسية، وإن كان هذا لا يمنع تدخل بعض العوامل البيئية الأخرى، مثل جماعات العمل والجهاز الديني ووسائل الإعلام. ويسهم الخيال في تنمية قدرات عقلية عليا لدى الأطفال، ويعد أحد المعينات لتنمية التذكر والإدراك في المقام الأوّل إلى جانب القدرة على التمييز والمقارنة بين المعلومات، وإصدار الأحكام والقدرة على التنبؤ بما يمكن أن تصير عليه الأشياء في المستقبل.
 
 وللتخيل دور كبير في التعلم والتعليم من خلال استخدام أشياء حسية كالصور التي تساعد على تكوين صور ذهنية عن الأشياء. ويعد التدريس بالتخيل العقلي من الطرق التي تحّسن الذاكرة الإنسانية والتذكر، وفي إدراك التلاميذ لمعاني المفردات والجمل. وإلى جانب ذلك يسهم الخيال العلمي إسهاماً كبيراً في استيعاب المفاهيم والحقائق العلمية، بما يساعد في استيعاب المعرفة العلمية وبالتالي في حل المشكلات التي تواجهنا. الخيال العلمي Science Fiction: هو الانتقال عبر آفاق الزمن، على أجنحة الحلم المزين بالمكتسبات العلمية، وغالباً ما يطرق مؤلفه أبواب المستقبل بتنبؤاتهم دون زمان محدد، فهو نظرة واسعة على العالم يدخل فيها العلم، فيمتزج بحقائقه مع خيال الكاتب، ترسم أحداثاً تنقلك إلى المستقبل، أو الماضي السحيق، فتثيرك وتذهلك.
 
 ولتربية الخيال العلمي لدى الطفل منذ سن مبكرة أهمية تربوية بالغة، وهذا يتم في المنزل والمدرسة، وبوسائل عديدة، لعل أهمها القصص الخرافية التي يتلوها الكبار أو يروونها للأطفال، وخصوصاً قبل النوم، شريطة أن تنطوي تلك القصص الخرافية على بعض مضامين أخلاقية إيجابية، وأن تكون سهلة واضحة المعنى بالنسبة للأطفال، وتثير اهتمامهم، وتداعب مشاعرهم المرهفة الرقيقة، وكذلك يؤدي لتنمية الذكاء من هذا النوع من الأدب: القصص العلمية الخيالية للاختراعات والمستقبل، فهي مجرد بذرة لتنمية الخيال العلمي وحب العلم، وتجهيز الطفل وعقله وذكائه للاختراع والابتكار. وتنمية الخيال العلمي هو المقدمة الأولى للابتكار والاختراع والذكاء باكتشاف العلاقات وتخيل التطوير والتحديث لما يفكر فيه الإنسان. ولذلك، يحتل خيال الطفل في المجال التقني مركزاً مرموقاً في حياة الطفل الراهنة، وفي حياته في المستقبل، وفي حياة المجتمع بعد ذلك.
 
 والخيال العلمي والتقني هذا، يعبر عن نفسه لدى الأطفال منذ سن مبكرة في ألعابهم، وذلك في تحليل الأدوات والأجهزة التقنية البسيطة، وفي فكها وتركيبها، فلابدّ من توجيه الأطفال باستمرار تفادياً لتكسير بعض تلك الأدوات والأجهزة أو تعطيلها أثناء عملية الفحص أو التمحيص (التحليل والتركيب). ولذلك يكتسب إشراف الكبار على النشاط التقني للأطفال أثناء تعاملهم مع الأدوات والأجهزة واللعب - وبخاصة المعقدة منها، بالقياس بمستوى نضجهم الثقافي - أهمية تربوية كبيرة، بالإضافة بالطبع إلى إدامة لتلك الأدوات والأجهزة التقنية والمحافظة عليها وإتقان استخدامها بكفاءة. ويفضل تشجيع الألعاب التقنية الجماعية التي يساهم فيها أكثر من طفل. وأن يعوّد الأطفال على إنجاز أعمال مفيدة على قدر المستطاع، وأن تشجع ممارسة هواياتهم التقنية بأسلوب جماعي للتعاون والاستطاعة على تركيب ما تم فكه، وبالتالي اكتساب خبرات تقنية وخيالية، وهذا ينمي خيالهم العلمي بصورة كبيرة.
 
 ولتحقيق ذلك على أفضل وجه، لابدّ أن يقوم المشرفون على تربية الطفل في الأسرة والمدرسة وعن طريق أجهزة الثقافة والإعلام، بتوضيح تركيب تلك الأدوات والأجهزة، وكيفية تفكيكها وإعادة تركيبها، وأن يشرحوا ذلك شرحاً وافياً – من وجهة نظر الطفل – مقروناً بالأفعال، لا بمجرد الأقوال، وبذلك يمكن أن ننمي تفكيره وذكاءه عن طريق الخيال التقني دائماً. ولا ننسى أنّ للخيال أهمية بالغة للطفل والتي تساعده في إدراك المفاهيم العلمية، لأنّ المفهوم العلمي هو الصورة الذهنية للأشياء التي تتكون منها الخصائص والسمات المشتركة بين الأشياء، فالمتعلم لا يستطيع استيعاب المفهوم العلمي إلا إذا قام بنشاط عقلي يعتمد في أساسه على التخيل لخصائص هذا المفهوم، وبالتالي تحويلها من صور حسية إلى صور مجردة في العقل.
 
 كما أنّ إثارة الخيال العلمي عند الأطفال ينمي في نفوسهم القدرة على الإبداع والتجديد والابتكار والاتجاه نحو المكتشفات العلمية المستقبلية، حتى يقترب تفكيره من التحرر والانطلاق العلمي ولا ننسى حاجة الأطفال إلى تنشئة علمية، عن طريق إذكاء روح الفضول العلمي لديهم، من خلال القصص العلمية التي تستهدف حفظ اتزان خيال في اتجاه تخيل إنشائي تكويني والحيلولة دون انزلاقها في اتجاه تخيل هدام يبعده عن عالم الحقائق، حيث يكون الخيال بناءً أو مدمراً، والعلم وحده يمكن أن يكون صعباً على الفهم جامداً، ولكن وجودهما معاً من خلال أدب الخيال العلمي هو أفضل السبل لحفظ خيالات الطفل ومنعها من الانزلاق.
 
 إن معظم الاختراعات والنظريات العلمية للعلماء كانت ثمرة قراءاتهم لقصص علمية خيالية غذّت خيالات وأثْرَتْها بقواعد وأفكار علمية، بدأت بومضات من الخيال في عقولهم ثمّ نمت حتى أصبحت حقيقة واقعة بجهودهم. ولا شك أن تنمية الخيال العلمي لدى الأطفال يساعدهم على تحقيق التفكير الابتكاري. وعلى الرغم مما يبدو من أن بعض الأطفال قد وُلِدُوا وَلَدَيْهم بصائر ابتكارية، فإنّه يمكن تعليم جميع الأطفال التفكير الابتكاري، حيث يمكن تعليمهم الاتجاهات الابتكارية والتفكير الابتكاري في كلِّ من المنزل والمدرسة، إذ إن ذلك يحسّن من قدرات الأطفال وينميها، وذلك في أي اتجاه يختارونه للاهتمامات.
 
 ومن الجدير بالذكر أن غرس السمات الابتكارية والاتجاهات الابتكارية في الأطفال يشجعهم بدون شك على التفكير الابتكاري، بل يساعدهم على الخلق والاختراع، حيث تؤكد الدراسات التي أجريت في هذا الميدان أنّ السمات التي يتميز بها الأطفال ذوو الدرجة المرتفعة من الابتكارية تتضمن الثقة بالنفس، والاستقلالية، والحماس، والفضول أو حب الاستطلاع، والروح الهزلية، والبشاشة، والاهتمامات الفنية والجمالية، والمخاطرة أو المجازفة بشكل مناسب، ووجود عدد كبير من الاهتمامات بشكل عام ومستوى مرتفع من تلك الاهتمامات.
 
 وقد أوضح كثير من العلماء ضرورة توظيف قدرة الأطفال على التحليل الإبداعي والابتكاري في المرحلة العمرية 9-12 سنة، وإشباع اهتماماتهم في مجالات أنشطة متنوعة كالرسم والتمثيل، والتجارب المعملية لتشجيع الاكتشافات والاختراعات، وكذلك الفنون والأعمال اليدوية، والعمل على تعليم الأطفال أكبر قدر من المفاهيم المتنوعة المرتبطة بالبيئة والطبيعة من خلال وسائل متنوعة، ومن أهمها الكتب والأفلام والقصص المصورة، لإقبال طفل هذه المرحلة وشغفه بالقراءة وتنمية أنواع مهمة من التفكير يتطلبها طفل هذه المرحلة كالتفكير العلمي الابتكاري والنقدي والتحليل المنطقي من خلال مناقشات الأطفال في أحداث تلك القصص والأفلام.
المصادر:        
* إسماعيل عبد الفتاح الكافي: الذكاء وتنمية لدى الأطفال، الدار العربية للكتاب، ط"2، القاهرة 1998م.        
* فايز يوسف عبد المجيد: الخيال العلمي للطفل، أون، العدد: 12، جامعة عين شمس 2007م.       
* أميمة منير جادو: تنمية الموهبة الإبداعية للأطفال، المنهل، العدد: 607، جدة، يونيو 2007م.        
* عادل عبدالله محمد: رعاية الموهوبين، دار الرشاد، القاهرة 2003م.     
* نهى مصطفى يوسف: أثر برنامج تعلمي في تنمية التفكير الإبداعي لدى أطفال السنة الثانية في الروضة، ماجستير غير منشورة، كلية العلوم التربوية، الجامعة الأردنية 1996م.      
* رؤوف وصفي: الخيال العلمي، المعرفة، العدد 124، الرياض أغسطس 2005م.       
*هاني كرم: هل نذهب إلى الفضاء عبر مصعد؟!، المعرفة العدد 104، الرياض، يناير 2004م.
    إعداد: بركات محمد مراد (بتصرف)

أضف تعليق


كود امني
تحديث