نفهم من اعترافات تولستوي أن هذا السؤال فرض نفسه عليه قبل أن يبلغ الخمسين من عمره، وأنه بدأ يكبر معه في وقت كان الناس ينظرون إليه باعتباره صاحب حظ سعيد، ولم لا؟ فقد كانت له زوجة طيبة تحبه ويحبها، وأطفال طيبون، وضيعة واسعة، ومن حوله أقارب ومعارف يحترمونه، وكان صيته ذائعا، وكان يتمتع بقوة ذهنية وبدنية نادرة: "فكنت أستطيع من الناحية العقلية أن أعمل ثماني أو عشر ساعات متواصلات دون أن أشكو وخيم العواقب من الإجهاد". لكنه رغم ذلك كله كان يحس بوجود شخص ما يسخر من حياته، مع هاجس يحدثه "أنه اليوم أو غدا سيحل به المرض أو الموت، أو بمن يحب من حوله، ولا يبقى إلا النتن والدود". من بعدها يصبح في طي النسيان -إن عاجلا أو آجلا- فلماذا يستمر في بذل جهوده في الحياة؟ وكيف يواصل العيش؟ أما أولئك الذين يحيون ثملين بنشوة الحياة، كما كان هو في فترة سابقة، فبنظره أنه سيأتي عليهم يوم يرون أن الأمر كله خداع في خداع. من هذا الباب فإن تولستوي ومع كل مرة يعجز فيها عن معرفة ما يأتي وراء حياته، يجد أن لا مناص من إلغاء معنى الاستمرار في حياة بدت له سخيفة وقاسية، فتهجم عليه الهواجس تدفعه للتفكير بانتحار يحرره من كل الشرور التي تنشأ عن حياة الجسد، متمثلا سقراط وهو يتأهب لموت رأى فيه اقترابا من حقيقة ما فتئ الحكيم من البشر يجاهد في سبيلها.
يمضي تولستوي طويلا محدقا وناقلا ما كان يدور في خلده، إلى أن يتذكر أنه إنما عاش في تلك الأوقات التي كان يعتقد فيها بوجود الله فيقول:"يكفي أن أدرك وجود الله لكي أعيش، ويكفي أن أنساه أو لا أعتقد فيه لكي أموت....إنني لا أعيش إذا فقدت العقيدة في وجود الله، ولولا أنني كنت أتعلق بأمل غامض في وجود الله لقتلت نفسي من زمان بعيد". وهي فكرة الانتحار التي لا تبتعد كثيرا عما ورد في روايته آنا كارنينا التي تقول:"لم يعد عندي شك أني ككل كائن حي لن أصيب في هذه الدنيا غير اللوم وغير الموت والفناء، إني لن أستطيع العيش على هذه الحال، فإما أن أجد للغز الحياة حلا أو أنتحر". يصل بعدها لعبارته القوية: "عش باحثا عن الله، وإذن فلن تعيش بدون الله"، ليكون الله هو النور الذي أضاء كل ما بنفس تولستوي، كما يمكن أن يضيء بنفس كل إنسان كان عليه كي ينجو أن"يعيش عيشة ترضي الله، ولكي يفعل ذلك ينبغي له أن ينبذ كل ملاذ الحياة، وأن يعمل، ويتواضع، ويكابد المشاق".
جدير بالذكر هنا أن تولستوي يفرق بين دين أو نهج ديني في الحياة أبداه الفلاحون الروس، وبين نهج آخر عايشه مع نخبة سببت له معضلة فكرية مربكة، كانت لها تجلياتها الكبرى في أزمته مع الكنيسة الأرثودوكسية التي لم يخف نفوره وعجبه من بعض طقوسها الدينية القائمة على الثالوث، والصلوات الكنسية، والصوم وعبادة الآثار القديمة وصور القديسين، لكن هذا لم يمنعه من أداء الصلاة والخشوع في الصباح والمساء، رغم ما كان يراه فيها من لغو في القول، ليعود معلقا عليها بالقول: "أما الآن فإن كنت لا أفهمها فإني أعرف أن لها معنى، فقلت لنفسي، لا بد أن أتعلم فهمها".
إن قارئا لاعترافات تولستوي جنبا إلى جنب مع روايته وفاة إيفان إيليتش The Death of Ivan Ilyich سيلاحظ أن السؤال المطروح في الاعترافات هو نفسه المطروح في الرواية. "هل هناك أي معنى في حياتي لن يدمره الموت الذي ينتظرني حتما؟" بما يجعل الموت في العملين معضلة فلسفية كبرى، عبر عنه في الرواية من خلال قصة بطلها قاض روسي ناجح في منتصف العمر، يصبح بعد أسابيع قليلة من حادثة سقوطه -أثناء تعليقه ستارة- رجلا يواجه عذاب الموت وحده مع خادمه الذي يرعاه بإنسانية عالية فترة احتضاره. علما أن قارئ الاعترافات سيلاحظ حضورا قويا للمجازات عبرت عنه الأحلام والأساطير التي امتزجت مع الحقيقة والتي شرحت موقفه من موت لاحقه منذ حرب القرم التي شهدها، وكذلك حين عايش موت أخيه ديمتري متأثرا بمرض السل، وحضوره حادثة إعدام الرجل المقيد في باريس وإعدامه، التي بات تولستوي على إثرها معارضا قويا للإعدام، كما كان للموت وطأته القاسية عليه حين مات خمسة من أولاده قبل أن يبلغوا عامهم العاشر، بما جعله يلح في السؤال: "إذا كان علينا أن نموت فلماذا نعيش"؟.
معروف عن صاحب هذه الاعترافات أنه ترك الحياة الدنيوية وقضى أيامه الأخيرة في عزلة وهدوء، وأنه كان نباتيا مسالما، عدوا للمتلكات الخاصة، يرى أن التسوية الاجتماعية ينبغي ألا تبدأ من اسفل كما يريد الثائرون، حينما يدعون لانتزاع الملك من مالكه بالعنف، وإنما يجب أن تبدأ من أعلى بتنازل تلقائي من جانب الأثرياء والأغنياء. معروف عنه أيضا أنه كان مؤيدا قويا للفقراء الروس متضامنا مع المحرومين، وأنه تخلى عن لقبه الأرستقراطي الكونت ليو وارتدى لباس الفلاحين. أما عن وفاته، فيذكر أنه في سن الثانية والثمانين، ذهب إلى عزلته في قرية روسية نائية، وهناك مات بعد أن كتب رسالة لزوجته قال فيها: "أفعل ما يفعله كبار السن من عمري عادة".
بقلم: د. رزان إبراهيم (بتصرف)