وقفَ القطار بعدَ انزلاقٍ طويلٍ قَــبّل فيهِ الحديدُ الحديدَ. كانت محطّةُ مكناس الرئيسة تبتسمُ في وجهِ الحالمِ بغوايةِ عاشقةٍ جبليّةٍ تنتظر بَعيدها الذي سرقته الحرب. نزلَ الحالــمُ بهدوءٍ مُــرتَّبٍ. في قلبه أملٌ وحلمٌ. في عقلهِ فكرةٌ تعانقُ فكرةً. لا خوفَ في خوفهِ. كانَ كتلةَ أملٍ-متبديّة في جسدٍ إنساني- تحثُّ الخطى صوبَ المركز الجهوي. هاجسَ نفسه بصوتٍ متوقّد النبرِ: من تكونُ اللّجنة أمامَ حروفي المقدّسة؟ حروف أقدّسها وتقدّسني؛ حروف كلّما سَرَتْ في دواخلي جُنّ المجازُ وتحيّرت الكنايةُ فأمعن المعنى في الهروب نحو أشدّ المناطقِ خفاءً.
وَصَلَ. تساءلَ: ما الوصولُ؟ أبرقَ ذهنه بجوابٍ خاطفٍ ثم امحى. حاولَ استبانة الجوابِ. فشل. أعادَ تفجيرَ السؤالِ: ما الوصول؟ أبرقَ ذهنه، خطفاً، بجوابٍ تبدّى ثم انتفى. موعدُ الامتحانِ الشفهي ومواجهة اللجنة اقترب بينما الحالمُ يكابُــر بحثاً عن شظيّة جوابٍ. بدا له السؤال،هاهنا، قميناً بالمنازلة. قدَّر أنّ فهمَ معنى الوصولِ قدْ يكونَ أفيدَ من منازلةِ لجنةٍ تمّ اصطفاؤها لتحاصرهُ بأسئلةٍ صعبةٍ. فكّر في العودةِ إلى محطّة القطار. استدارَ بذهنٍ غائبٍ عن الوجود حاضرٍ في الغيابِ. صُعِق. كانَ سؤالُ الوصولِ يتخذُ وجهاً آخرَ: لِــمَ الهروب؟.
جلسَ الحالــمُ على درجٍ حجريٍّ قُبالة ملعبِ المركزِ. أجالَ بصرهُ على امتدادِ الملعبِ. رأى-وهو في شرخِ الحلمِ- شاباً يركضُ وراءِ كرةٍ بيضاء، يناورُ برشاقةٍ باديّةٍ، يمرّر الكرةَ لزملائهِ بدقةٍ ويغيّرُ موقعهُ وَفقَ خطةٍ دقيقة. رأى، في الجهة المقابلة، فريقاً من لاعبين يشبهون الوحوش، يركضون جميعاً نحو الكرة؛ كانوا كتلةً سوداءَ تتحركُ بشكلٍ أهوجَ في جميع الاتجاهات. حين استفاقَ خيالهُ وجدَ الكرةَ في الشِباك. تساءل متحيّرا:"منْ أينَ جاءت الكرة؟ هل خرجتْ فعلاً من خيالي؟" ذهبَ نحو الشباك. أمسك الكرة بيديّن مرتجفتينِ. طفق يُدِيرُهَا على وجوهها.
فجأة استرعى انتباهه وشمٌ أخضرُ انطبعَ في مركز الكرة: الوصُول هروبٌ دائمٌ...هروبٌ آيته التساؤل...هروبٌ إلى الأمامِ...بحثا عن المعنى...الوصول تذكيرُ الكائن بنقصانه...النقصانُ أسُّ المعرفة...تذكّر دائما: النقصان أسُّ المعرفة...أدرك نقصانَك تعرف حكمة الله فيكَ...
ابتسمَ في وجهِ الكرةِ. وضعها وسطَ الملعبِ. ثم قذفها نحو الشباك بشكل دائري. صرخَ بكلّ ما تختزنه حباله الصوتيّة من وقوّة: "الوصولُ تذكيرُ الكائن بنقصانه...النقصان أُسّ المعرفة...". كانت هذه الترتيلةُ تعصفُ ذهنه وترجّ كلّ المواقع القديمة. صراعٌ عاتٍ عاشهُ رَحيم بين ما كانَه قبلَ برهة وبين ما يكونه الآن. ردّد في نفسه: أنا ناقصٌ...هذه حقيقتي...كيفَ لم أرها قبل الآن...
قربَ بابِ قاعةِ الامتحانِ وقف مُترشحان يناقشان أسئلة الامتحان وكيفية الجواب عنها. كان أحدُ المترشحين يتحدثُ باعتدادٍ عن طريقة إجابته عن أسئلةِ اللجنة. أخبر صديقه بأنه بزّ أعضاء اللجنة وكشفَ ضحالة معرفتهم. وهو- تبعاً لما قاله- ناجح حتما. طفق رحيم الحالم ينظر إليهما نظرة تأسف. سرعان ما تحولت هذه النظرة إلى صفعات لو تمتّ حقيقةً لسقطَ تحت مقصلة المحكمة. نبس في نفسه: أَلَـمْ يساورهما سؤال الوصولِ؟ آهٍ...! محنتنا أننا لم نعرف شيئاً فَصِرْنَا نعرفُ كلَّ شيءٍ. كلّما غيّرنا الموقع تبدّت لنا أمورٌ واضمحلّت أخرى. وكلّما اختلطت المواقع تراءى لنا أننا نقتربُ لنبتعدَ أكثر. وفي الابتعادِ يرتسمُ الوجودُ بألوانٍ تومئ إلى دلالة فحواها: واصلْ البحثَ فإنّ الله يحبُّ شغبَ السؤال الحقيقي...
حانَ موعدُ دخولِ رحيم إلى قاعة الامتحان. نظر إلى البابِ نظرةَ تفاؤلٍ ثم دلفَ بهدوءٍ.
كانت اللجنة مكوّنة من ثلاثة أعضاء. أخذ أحد أعضاء اللجنة يتفحّصه بدقةٍ بينما كان الثاني يحاورهُ بلغةِ عيونٍ سماويّة ترشحُ حبًّا. أما الثالث فكان غارقاً في ترتيب الأوراق. وهنا قدّم له المتفحّص نصاً موضوعهُ "الحذف" عند الجرجاني، وطلب منه أن يقرأ النّص ويستخلص قضاياهُ. جلسَ رحيم قبالةَ اللجنة وجعلَ يقرأ النّص بصمتٍ. وحينَ همّ باستخلاص القضايا باغته المتفحّص بالسؤال: "هلا قرأت النص قراءةً جهريّة تحترمُ المبنى وتتوسمُ المعنى؟"
قرأ رحيم الفِقرة الأولى من النّص. وحين همّ بقراءة الفقرة الثانية استوقفه المتفحّص سائلاً: عمَ يتحدث النص بإيجاز؟ رفعَ رحيم عينيه بثباتٍ فوجدَ ستَ عيونٍ تتركّز عليه. استرعت انتباهه عيون الأستاذ الذي يتوسّط اللجنة. في عينيه سماءٌ لازورديّةٌ تفيضُ أغانٍ تقولُ: "حلّق فأنت قادرٌ على فعل ذلك". تساءلَ رحيمُ متحيّراً: "لا يعقل...عينانِ تحملان وجعَ الأنبياء وحكمةَ العلماء!" لم يصدق أن يوجد بينَ أعضاءِ اللجنة مرشدٌ إلى طريقِ السّماء. في هذه المداراتِ تفجّر جوابُ الأسئلةِ السابقة: سؤالُ الوصول وسؤال الهروب وسؤال المعنى. فكانَ الجوابُ مفصّلاً على مقاس الحيرة:الحذفُ هو القول المطويُّ على نفسه...هو الهروبُ على نحوٍ دائريّ للوصول إلى معنى يومض بمعانٍ...الحذف اختزالُ المقولِ ليقولَ أكثر.
لم يستسغ المتفحّص الجوابَ. بدا له شطحاتِ جنونٍ عارٍ. فقال مستنكراً: سيّدي أنت تُقوِّل النّص ما لا يقوله. وهنا نظر رحيم إلى الحكيم فاستلهمَ الجواب: لقد وُجدتِ النصوص لِتُقوَّلَ لا لتقولَ...كلّ نصٍ يلوذُ بلغةٍ تُبَيِّنُ معناه. اللغة حمّالة أسرار فنحن نستعملها في غفلةٍ من أسرارها. ما أدراني أنّ إشارة اللفظ في هذا السياقِ كانت لهذا المعنى وليس لذاك...كلّ قراءةٍ هي أملٌ في حياةٍ جديدةٍ...الشرطُ الوحيدُ: ألا تكونَ قراءةً مُغرضةً أو مبطنة بشرٍ سابق...أن تكون قراءةً تحبُّ الحروف...تراقصها بصفاء...أي نعم بصفاء...
انطبعَ استغرابٌ متجعدٌ على وجه المتفحّص. وفي اللحظةِ التي كان يبحثُ فيه عن ردّ مناسبٍ كان رحيم متصلاً بروحِ الحكيمِ.كأنه يعرفُه منذُ زمنٍ فائتٍ. قدّر أن الأمرَ يعودُ إلى دماثة الأخلاقِ وبشاشة الوجه الصبوح. بيْد أن حقيقة الأمرِ تؤوبُ إلى كونِ الحكيم كانَ مدركاً لمعنى الوصولِ. وهو في وصوله يزدادُ تواضعاً وحكمةً وحباً...
حينَ انتهت جلسة الامتحان. لملم رحيم أغراضهُ بقلبٍ مطمئنٍ. نظرَ إلى حكيم. كانت عيونهُ تنطقُ بلغةِ السماءِ مرّة أخرى: ابني أنا أومنُ بكَ...حلّق بعيداً...فالمعرفة أختُ السماءِ...
بقلم: عبد الرّحيم دَودِي