أنا -كما الكثيرين مثلي- لستُ محايدةً فيما يتعلَّقُ بأمرِ اللغةِ؛ ربّما لعملي في سلكِ التَّعليمِ لسنواتٍ، ورأيتُ ما رأيتُ ممّا أصابَ اللغةَ منْ هوانٍ، وأبدأُ بالسّؤالِ هلْ حقًّا ما قالَه الشَّاعرُ:
إنَّ الذي ملأ اللغاتِ محاسنًا جعلَ الجمالَ وسرَّه في الضَّاد
في وقتٍ تشيرُ فيه الدِّراساتُ التَّربويّةُ إلى أنَّ عددًا من الدّولِ العربيّةِ هي الأضعفُ في القراءةِ، وتشيرُ الدّراساتُ نفسُها إلى أنَّ: "التّعليم مشروعٌ متعدّدُ الأجيالِ؛ لذلكَ إذا رجعتَ إلى ما قبل ثلاثين أو أربعين عامًا، فستجدُ أنَّ كثيرًا منْ هذه البلدانِ لمْ يكنْ لديها نظامُ تعليمٍ، وكانتْ مجموعةٌ صغيرةٌ فقط من النّاسِ تحصلُ على تعليمٍ مناسبٍ."
وليسَ بعيدًا منْ ذلكَ ما نراه منْ منشوراتٍ لأبنائِنا على مواقعِ التّواصلِ يغلبُ عليها وعلى ما يندرجُ تحتَها من تعليقاتٍ اللغةُ الإنجليزيّةُ، ونتساءلُ هنا: لماذا، والتي تجري في عروقِهم دماءٌ عربيّةٌ؛ هلْ هي أزمةُ لغةٍ أم أزمةُ انتماءٍ؟
بعضُ الأسئلةِ تحملُ في طيّاتِها بوادرَ إجابةٍ؛ إذ يظهرُ في المدارسِ والجامعاتِ ومواقعِ التّواصلِ أنَّ اللغةَ يتخطَّفُها ثلاثٌ من الأزماتِ: الأميَّةُ التي تصلُ في بعضِ بلدانِ الوطنِ العربي إلى تسعين بالمئة، واللهجاتُ العاميّةُ (الدّارجة في كلِّ بلدٍ) واللغاتُ الأجنبيَّة (الإنجليزيّة والفرنسيّة تحديدًا).
لا بدَّ مع ذلكَ من الإنصافِ والاعترافِ بالفضلِ.. فاللغةُ الإنجليزيّةُ - مثلًا- تتطوَّرُ دائمًا لتواكبَ العصرَ ممّا يسهِّلُ استخدامَها....و أتساءلُ - هنا- أينَ علماءُ العربيَّةِ ومجامعُ اللغةِ العربيَّة.. فلا بدَّ منْ دراسةٍ جادَّةٍ لتطويرِ لغتِنا وتنقيتِها منْ زوائدِ النَّحوِ والصَّرفِ التي باتتْ مهجورةً، لم يعدْ لها مجالٌ للاستخدامِ في عصرِنا، وهي في الوقتِ نفسِه ترهقُ كاهلَ أبنائِنا، ويصرُّ عليها المتخصِّصون، مع الحفاظِ - بالطَّبعِ- على ثوابتِ اللغةِ وقواعدِها اللازمةِ للتّعبيرِ.
ولستُ أنسى حينَ شاركتُ - قبلَ بضعِ سنواتٍ – في لجنةِ التَّحكيمِ لمسابقةِ المناظرةِ الدَّوليَّةِ باللغةِ الإنجليزيَّةِ مرحلةَ التَّصفياتِ قبلَ النِّهائيّةِ في دولة الإمارات (التَّصفياتُ النِّهائيةُ كانتْ في كواللامبور العاصمة الماليزيَّة)، وفيها كانَ الطَّلبةُ منْ أكثرَ منْ عشرين جنسيّةً – عربًا وأجانبَ – بارعينَ في الإلقاءِ، وانتقاءِ الأفكارِ والكلماتِ، ونبرةِ الصَّوتِ، ولغةِ الجسدِ، ما يعكسُ تمكُّنَهم وحسنَ تدريبِهم، فأينَ المسابقاتُ المشابهةُ باللغةِ العربيَّةِ؟
والمسألةُ بعدَ ذلكَ ذاتُ شقيّن مرتبطين عضويًا: أزمةُ انتماءٍ، وأزمةُ إسهامٍ في الحضارةِ الإنسانيَّةِ التي لم نسهمْ فيها منذ زمنٍ ليسَ بالقليلِ؛ فانتشرتْ الإنجازاتُ التّكنولوجيّةُ باللغاتِ الأجنبيَّة، الأمرُ الذي أعطى انطباعًا بقصورِ اللغةِ العربيّةِ، ولمَّا كانت الحضارةُ الكبيرةُ تبتلعُ الحضارةَ الأصغرَ، فلا غرابةَ منْ أنْ نلاحظَ التوجّهَ الى استخدامِ اللغاتِ الأجنبيَّةِ.
ووثيقُ الصِّلةِ بذلك أيضًا دراسةُ أبنائنا في مدارسَ أجنبيَّةٍ حيثُ يستمعُ التَّلاميذُ للغةِ الأجنبيَّةِ ما يقاربُ سبعَ ساعاتٍ يوميًّا، يتخلَّلُها التَّعليمُ بالعربيَّةِ لمدةِ ساعةٍ أو اثنتين على الأكثرِ، وعلى سبيلِ التَّفاخرِ يتحدَّثُ الآباءُ مع أبنائِهم بالإنجليزيَّةِ (والفرنسيَّةِ أحيانًا) في الأسواقِ، وأمامَ الضُّيوفِ من الأقاربِ والأصدقاءِ، الأمرُ الذي يجعلُ الإنجليزيةَ أقربَ إلى السَّلاسةِ؛ لأنَّها لغةُ الاستخدامِ اليوميِّ، ناهيك عنْ لغةٍ هجينةٍ عجيبةٍ غدتْ هي لغةَ المحادثةِ في مواقعِ التَّواصلِ.
وانبثقَ منْ هذا الجيلِ مذيعون ومذيعاتٌ أعاجمُ يلحنون حينَ يقرأون نشراتِ الأخبارِ، ويطعّمون حواراتِهم في البرامجِ المختلفةِ بألفاظٍ أجنبيَّةٍ.
والذي أراه أنَّ حالَ اللغةِ - تلكَ التي وسعتْ كتابَ اللهِ لفظًا وغايةً - منْ حالِ الأمَّةِ النَّاطقةِ بها؛ تعلو بعلوِّها وتدنو بهبوطِها وانكسارِها، فالمسألةُ تحتاجُ ميزانياتٍ جادَّةً تأتي منْ قرارٍ سياسيٍّ يأتي بدورِه منْ علٍ كأنْ تكونَ – مثلًا - بندًا منْ بنودِ اجتماعاتِ مؤتمراتِ القمَّةِ للدّولِ العربيَّةِ...
لا نريدُ للعربيَّةِ أنْ تصبحَ تاريخًا أو مقتصرةً على العباداتِ، ولكنْ نريدُها لغةً لجيلٍ منتجٍ؛ حتّى تحملَ الأمَّةُ هويَّتَها في الملبسِ والمأكلِ واللسانِ ونمط الحياةِ عمومًا، ونريدُ حركةً جادَّةً للتَّرجمةِ إلى العربيَّةِ؛ لتستوعبَ العصرَ، فتخلقُ جيلًا محبِّا للغتِه، بلْ فخورًا بها، وأظنُّ أنَّ ذلكَ دورُ مواقعِ صنعِ القرارِ في المناهجِ والجامعاتِ ومجامعِ اللغةِ العربيَّةِ التي بلغتْ الآن سبعًا بعدَ الإعلانِ عنْ تأسيسِ مجمعٍ للغةِ العربيَّةِ في الشَّارقةِ، ذاكَ حتّى لا نكونَ مجتمعًا مهزومًا، تهزمُ العربيَّةُ بانهزامِنا، ولنْ أضربَ أمثلةً من الأقوامِ الأخرى التي لا تتحدّثُ إلا لغتَها في المطاراتِ، والسَّفارات، وفي المرافقِ العامَّةِ.
أزمةُ اللغةِ العربيّةِ في بلادِنا هي أزمةُ أنظمةِ التّعليمِ نفسِها؛ هذه أفضتْ إلى تلك.... فماذا نحنُ فاعلون..!؟.
بقلم: أمل المشايخ