استطاع أن يتسلق سورَ المدرسة ويقفز خارجه؛ كانت القفزة مؤلمة قليلا، كادت نظارته الطبية تسقط عن وجهه، أعادها مكانها وهو ينظر حوله باستطلاع وقلق، هي مَرته الاولى التي يقرّر فيها الهرب من المدرسة؛ علّل لنفسه ثانية السبب وهو شوقه لأمه ورغبته الجارفة في رؤيتها،تخيل كيف سيكون لقاؤهما؛ فهو لم يرها منذ خمسة أشهر مذ تطلقت من أبيه وذهبت لتعيش في بيت جده، ربما هذا أفضل فشاجرهما كان يجعل البيت يشبه الحبس الإجباري، لا مهرب من التوتر ورائحة الخلافات التي تنهش الأمان فيه.

لا يرغب  في تذكّر تفاصيل  مؤلمة لكنها تتوارد إلى ذهنه رغمًا عنه، وهل تستأذن الذّكريات قبل أن تطرق الباب؟ هل عليه أن يُعلم والدته بمجيئه ؟ سيختفي عنصر المفاجاة المحببة، يتخيل بأنّه يرن جرس الباب ويسمعها تسأل: مين؟. نعم، فجداه متقدمان في السن ولا يعقل ان تدع أيا منهما يفتح الباب وهي جالسة لا هذا ليس من طبعها ستسأل مجددا بصوتٍ أعلى: مييين ؟ ولن يجيب مباشرة علّها تستطلع الطارق من النافذة أو لتعيد السؤال وفي كلتا الحالتين ستتفاجأ برؤيته وهي مشتاقة له كثيرًا ألم تخبره مرارًا بأنه نور عينيها ؟ ونبض قلبها ؟.

تابع سيره وفكر أنّ أفضل طريقة لطرد التفاصيل التي تتوارد لذهنه عن خلافات والديه هي أن يَعدّ خطواته، سيعدُّ واحدًا اثنان حتى الرقم عشرة ويعيد الكرّة... كم يكره الرياضيات وأستاذها الذي يتركهم لإنشغالاته كما يقول، و يتباطئ في القدوم إلى الغرفة الصفية في الحصة الأخيرة منتظرًا هروبهم ويعاتبهم أمام المدير بلهجة المخلص، كم يكره الأرقام والرموز التي لا يفهمها وهو يثبتّها كالوشم على السبورة طيلة الحصة ويجلس، ربما تشبه صوت أمه كلما ضربها أبوه ولعن اليوم الذي رآها به.أووووف عاد للتفاصيل المزعجة، ما العدد الذي وصل إليه؟ لا يهم سيبدأ من جديد واحد..إثنان..

 كم بقي له ليصل؟ الشّمس تلسع وجهه والحقيبة المدرسية ثقيلة وملابسه غير مريحه، بنطاله الجينز بحاجة للغسيل صحيح أن قماشته تحتمل البقع وتخفي الاتساخ  لكن  أطرافه اسودت من كثرة اتساخها، حتى حذاءه الرياضي الذي اشتراه منذ سنتين من محلّ الأحذية المستعملة، وأقسم البائع بأنه ماركة عالمية وأصلي وأنه لو فكر في أن يشتريه من "مول" أو من أسواق  العاصمة لكان سعره بسعر ايجار بيتهم لشهر، بات بحاجةٍ لتشميس أو لغسيل، آه يا أمي في غيابك تنمو تفاصيلُ صغيرة تشبه الشوك لا يعرفها إلا من غابت عنه والدته، هل سيطول غيابها ؟.

هذه الطلقة الثالثة ! لماذا يتذكر الآن ؟ لماذا وهو منذ الصباح يعدُ نفسه بجرعة من الفرح والحنان في حضن أمه؟ كم يشتاق لملس خدها ولنظرة عينيها ولضحكتها وهي تتحدث عن شقاوته وهو صغير حتى عندما تغضب من تصرفاته وتصرخ يستشعر حنوها ينظر إليه مطمئِنا خلف ستار.

كم وصل في العدّ؟ أنهى أربعة عشرات يجوز في العد الثلاثة والأربعة والخمسة لكن... لكنّها الطلقة الثالثة ! تذكر كيف تركت البيت وهي تبكي بحرقة كأنها تحترق،حتى أبوه كان ينظر بحزن ويأكل الندم أطراف قلبه بصمت.

 لماذا عليه أن يتذكر كلّ هذا الآن؟ وينسى ما سمعه من عاصم  قريبه في المدرسة،لا لا يمكن ان يكون ما قاله حقيقة،لكمه دون وعي  على أنفه  ورأى الدم يملأ وجهه قبل أن يتم اقتياده إلى المدير الّذي وبخّه ونعته بِ"...." وأمسكه بشدة من كتفه وهو يطلب منه استدعاء ولي أمره وإلاّ لن يسمح له بدخول المدرسة و الصف. "أبي مسافر، يعمل سائق شاحنة ولا يرجع  إلا كلّ عشرة أيام. "أخبر والدتك إذن.. "!.عندها تدخل النذل "عاصم" وهو يزعق بتشفٍّ : أمه؟  أمه  تزوجت قبل يومين..!.تمنيتُ وقتها لو أنّ زلزالا يضرب المدينة ويمحو المدرسة بمن فيها، حتى بعد أن تراجع المدير بتفهّم وتعاطف جارح عن طلبه لوليّ الأمر.

دمعة طفرت من عينيه، أبعد النظارة ليمسحها وهو يهز رأسه بلا تصديق، كم وصل في العدّ ؟ أكمل ست عشرات ووصل إلى زاوية الشارع الذي فيه بيت جده، بدأت خطواته تتباطأ، توقف عن العدّ، أحسّ بصداع وبحرارة الشّمس تنهش وجهه، بدأت أمنيته بلحظة فرح تذوي، تخيل بأنه يقرع الجرس فلا يجدها ولا يسمع صوتها و يوقن بأنّها انسلخت عنه لتكون لرجلٍ آخر وأولاد آخرين، لا، لا يمكن أن يحدث هذا..!. استدار راجعًا وبدأ مجددًا العدّ العكسي بصوتٍ ينخره الألم.

بقلم: حنان بيروتي