قلتُ لها:
 
بيني وبينَ عقلي حوارٌ لا ينتهي، سألتُهُ ذاتَ أصيلٍ: ما الذي يحدثُ لروحي؟ 
 
أصخُتُ إلى صوتِها المخنوقِ يسألُني: أتعلمُ من أينَ أتيتُ وأقمتُ في جسدِكَ ؟ تملَّكني الصَّمتُ، وداهمتني مفاجأةُ السُّؤالِ، وتسمَّرتْ كلُّ خلاياي.
 
أحسَّتْ بعجزي وتردُّدي وصمتي، ثمَّ تنهَّدتْ، وقالت لي: أتيتُ من وراءِ العصورِ، وكنتُ قبل أن تتكوَّرَ الأرضُ، وقبل أن تجريَ في السَّماءِ الأقمارُ والكواكبُ والنُّجومُ، وحين كان الكونُ حَللتُ بالسَّحائبِ فكان المطرُ، وحللتُ بالسَّنابلِ فكان القمحُ، وأقمتُ في أنساغِ الزُّهورِ فكانَ العطرُ.
 
ترعرعتُ في الكلمةِ، فكانتْ الأسطورةُ وكان الشِّعرُ، دخلتُ في معاركَ وصراعاتٍ مع السَّحرةِ، والمُشعوذينَ، والحكَّامِ، والفلاسفةِ، منهم مَن حاولَ سجني، ومنهم مَن حاولَ اغتيالي، ومنهم مَن حاولَ أن يُغيِّرَ جوهري، وأن يعبثَ بفطرتي.
 
هُزِمتُ مرَّاتٍ، وانتصرتُ مرَّاتٍ، وبيني وبين الشَّياطينِ ألفُ معركةٍ ومعركةٍ، ولا تسألني عن الشَّياطينِ؛ لأنَّي ببساطةٍ لا أستطيعُ أن أُحصيَهم، أو أن أُحدِّدَ أشكالَهم، أكثرُهم من الإنسِ، وأقلُّهم من عالمِ الغيبِ.
 
وبعدَ مرورِ الزَّمنِ حلَلتُ في جسدِكَ، رأيتُهُ قصراً مهجوراً، فيه أجنحةٌ مَلكيَّةٌ، مُغلَقَةٌ، لا نوافذَ فيها تزهو بشمسٍ، أو ترنو إلى شعبٍ، أو تنظرُ إلى الأرصفةِ بعينِ العطفِ والحنانِ. وفيه غرفٌ معتمةٌ، في كلِّ غرفةٍ سريرٌ لشيطانٍ، أو سريرٌ لغانيةٍ. وفيه غرفةٌ لهزائمنا، وأحزانِنا. 
 
وثمَّةَ غرفةٌ مُضيئةٌ تُطلُّ على صحنِ القصرِ، يُقيمُ فيها شعراءُ وكُتَّابٌ، بحثتُ كثيراً عن مفتاحِها حتَّى ظنَّنتُ أنَّني لن أجدَهُ، فأصابني اليأسُ، فقنُطتُ من الوصولِ إليه، وإذا بقصيدةٍ تتقمَّصُني، فشَرعتُ أنبُسُ ببيتٍ منها:
 
وهَبْنِي قلتُ: هذا الصُّبحُ ليلٌ أيَعمَى العالَمُونَ عن الضِّياءِ ؟
 
قلتُ لها:
 
منذُ أن أقمتِ في غرفةِ الشِّعرِ، والسُّؤالُ الذي يُحاصِرني: ما الشِّعرُ؟ وما زلتُ إلى اليومِ أقتفي أثرَ الشُّعراءِ، أبحثُ عمَّا فيه، وكلَّما ذهبتُ بعيداً في البحثِ، وجدتُكِ أنتِ: أنتِ والشِّعرُ توأمانِ، صوتٌ بلا صوتٍ، أُصغِي إليه يتفجَّرُ من بينِ أضلاعِ الجبالِ، فأقولُ في نفسي: هل الجبلُ قصيدة؟ 
 
أراهُ في ريشِ الحَمَامِ، فهل كلُّ ريشةٍ قصيدةٌ؟ أراهُ في الموجِ والرِّيحِ، في المطرِ والضُّوءِ، في أعشاشِ العصافيرِ، وأُحسُّ به يتناسلُ من أرصفةِ الجوعِ والحرمانِ، من عيونِ الثَّكالى والأطفالِ، أسألُ نفسي: كيف تكوَّنتْ تلك الصُّورِ؟ وكيف تشكَّلَ هذا الخيالُ؟ 
 
ما سرُّ القصيدةِ التي تخرجُ إليَّ من طفلٍ لفظَهُ البحرُ، بعد غرقِ قاربِ المهاجرينَ قهراً بلحظاتٍ؟ فاجأتْنِي روحي بسؤالٍ أمطرني بوابلٍ من الدَّهشةِ والذُّهولِ: هل تأمَّلتَ كيف تخرجُ القصيدةُ من غرقى البحرِ هناك، وهم يتلقَّفونَ ما توهَّموا أنَّه يسدُّ رمقَ الجوعِ؟ هل تتبَّعتَ تلك القصائدِ التي تجثو تحت الأنقاض؟ 
 
انتظرْ يا صاحبَ القصرِ المهجورِ القصيدةَ التي لم تُكتَبْ منذُ ألفِ ألفِ عامٍ، هناكَ... ستخرجُ من بينِ الأنقاضِ قصيدةٌ: يكتبُها جَمهرةٌ من النَّاسِ، يُخرِجونَ من بينِ الأنقاضِ أشلاءَ الأطفالِ والنِّساءِ، يتَّخذونَ من عظامِهم حطباً للشِّواءِ، ويتَّخذونَ من لحمِهم طعاماً يُسكتُ صرخةَ الجوعِ ليبقَوا أحياءً، يهتِفونَ بصوتٍ واحدٍ: نأكلُ أجسادَنا كي لا نموتَ، ولا تموتَ القضيَّة.
 
بقلم: عاطف الدرابسة