قلتُ لها:
بعضُ الحوارِ يُغنِي، وبعضُ الحوارِ يُقصِي، وبعضُ الحوارِ مُغلَقٌ، وبعضُ الحوارِ مفتوح.
في الحواراتِ المُغلَقةِ يُقالُ ما لم يُقَلْ، وفي الحواراتِ المفتوحةِ تحضرُ لغةُ المراوغةِ والتَّوريةِ والاحتيال. فالحوارُ صورةٌ عن النَّاسِ، له وجوهٌ كثيرةٌ، وأقنعةٌ كثيرةٌ، يتلوَّنُ حسبَ تلوُّنِهم، ويصفو حسبَ صفائِهم، وكثيرٌ من النَّاسِ لا يبحثونَ عن الفِرعونِ، وإنَّما يبحثونَ عن الكنزِ الذي دُفِنَ مع الفرعون.
قلتُ ذاتَ أمسيةٍ:
إنَّ كثيراً من الحواراتِ كالأحلامِ تتلاشى عند اليقظةِ، وقليلاً من الحواراتِ كجذورِ شجرةِ التِّينِ، لا تتبعُ إلَّا أثرَ الماءِ.
الحوارُ ابنُ السُّؤالِ، فكلما كان السُّؤال مُغيِّراً، كان الحوارُ مُدهشاً ومُغيِّراً لأنَّه ينطوي على صراعٍ في الرُّؤى، وصراعٍ في التَّأويلِ، وصراعٍ في الأفكارِ. ما أقسى أن تُواجهَ تحدِّي السُّؤال، وما أصعبَ أن تستفزَّ الحقيقةَ الصَّامتةَ لتتجاوزَ حدودَ الكلامِ إلى حدودِ الفعلِ.
للحوارِ لغةٌ مختلفة ينبغي أن تكونَ نابضةً بالحياةِ، فلا حياةَ من دونِ ماء، ولا حياةَ من دونِ أشعةِ شمسٍ، وكلُّنا يعلمُ أنَّ الحوارَ الذي لا ماءَ فيه لا يُنتجُ ثمراً، والأشجارُ تسمَّى بأسماءِ ثمارِها، والحوارُ الذي لا شمسَ تمخُرُ عبابَه كالغرفِ المُغلقةِ ونوافذُها مَطليَّةٌ بالسَّوادِ.
الحوارُ سيمياءُ الأرواحِ، وسيمياءُ القلوبِ. بعضُهُ يمنحُكَ الأملَ، وبعضُه يهبكَ الألمَ. بعضُهُ يمنحُكَ الكراهيةَ، وبعضُهُ يمنحُكَ الحُبَّ. بعضُهُ يأخذُكَ نحو آفاقِ الرُّؤى والإبداعِ، وبعضُهُ يأخذكَ نحو القاعِ.
ما زلتُ مؤمناً أنَّ الحوارَ مرايا الشُّعوبِ، فالشُّعوبُ المُتساميةُ هي الشُّعوبُ المؤمنةُ بفعلِ الحوارِ، والشُّعوبُ المتأخرةُ هي الشُّعوبُ التي تقمعُ في أبنائِها صوتَ الحوارِ وتُغيِّبُه، وحين يغيبُ الحوارُ تغيبُ الحُريَّاتُ، وتتفشَّى العصبيَّاتُ، وتعلو أصواتُ المَذهبيَّةِ، وتؤولُ الشُّعوبُ إلى التَّشظِّي والانقسامِ، عندها ينبغي علينا أن نعرفَ كيف يُولدُ التَّطرفُ، ويُولدُ الإرهابُ.
بقلم: عاطف الدرابسة