إن الرغبة تشكل حجر الزاوية لكل وضعية تعليمية- تعلمية، إذ في غيابها لا يمكن تصور أية علاقة بيداغوجية، كما يصعب إقناع المتعلم بالإقبال على عمل معين والالتزام به، من هنا اتت محاولات بعض المربين لتوظيف آليات اللعب والتنشيط في وضعيات التعليم- التعلم، من أجل تحفيز التلميذ وتمتيعه بالجو الطبيعي للعب وإبعاد جو الضبط والنمطية الذي يهدد الفصل الدراسي، وكان الهدف من ذلك هو جعله يتعلم من خلال لعبه.
وقد عملت الوسائل السمعية البصرية على إدخال الفرحة إلى قلوب الصغار، والمتعة والاهتمام لدى الكبار من خلال ما توظفه من تقنيات اقتران الصوت والصورة والحركة بأهداف تعليمية. وكان القصد من ذلك هو الخروج إلى فضاء رحب والابتعاد عن دواليب الضجر والرتابة اللذين يميزان الوضعية التعليمية- التعلمية. لكن وعلى عكس ما هو منتظر، قد يحس التلميذ بهزالة وتفاهة ما يعرض أمامه من صور ومشاهد، أو يكشف بعدها عن واقعه، فيصاب بخيبة أمل لضيق الأفق او لانحسار ظروف محيطه... آنئد سيكون من عدم الفعالية استمرار المدرس في عمله وكأن شيئا لم يقع، دونما محاولة لما يجري داخل نفوس هؤلاء التلاميذ الذين ظهر لديهم النفور والمقاومة. في هذه اللحظة بالذات يشعر المدرس انه تحت رحمتهم، إذ لا يمكنه الاستمرار في الدرس، دون قلق او ازعاج، بغض النظر عما يفكرون فيه أو يتوقعونه او يعتقدونه الأهم.
إن مهمة المدرس المزدوجة تتجلى في خلق تناغم مهما كان سطحيا بين ما تقترحه وضعيات التعليم- التعلم وما توحي به لدى التلاميذ من إشباع للرغبات دفينة وغير معبر عنها بشكل صريح، كما تتجلى في بحثه الدؤوب عن إبراز رغبات جديدة لم تكن لديهم من قبل، كأن يحبب لديهم الرياضيات وتحكيم البرهان والاستدلال المنطقي...وهذه الرغبات قد تعمل نفسها على إبعاد الرغبات الدفينة الأولى، ولو مؤقتا لعدم انسجامها مع متطلبات الوضعية البيداغوجية، والتي تعتبر في نهاية المطاف شكلا من أشكال الحياة الاجتماعية دون أن تكون مطابقة لها. يتحتم على المدرس إذن أن يعمل وفق رغبات جديدة تفتح آفاقا رحبة أمام التلاميذ وتكون أكثر انسجاما مع وضعية التعليم- التعلم. "ينبغي عليه أن يبني، كما يلاحظ ذلك فيلو Filloux ،(ص: 335)، حلقات متشابهة عن طريقها ترتبط الأشياء (الاهتمامات، الرغبات)، وتأخذ مغزى في درب الرغبة الذي ينفتح على معرفة مغايرة للواقع". لكن إذا كان هذا سهلا تحقيقه على المستوى النظري، فإن الواقع العملي يكشف عن صعوبات كثيرة، اذ أن جميع الوحدات الدراسية لا تخضع لنفس الأسلوب، أي لا يمكن ربطها بشكل من الأشكال برغبات آنية لدى التلاميذ، الشيء الذي يؤدي بالمدرس إلى نوع من التذبذب بين تفهم كامل لرغبات واهتمامات التلاميذ من جهة، وفرض مضامين ومحتويات تعليمية لا يرغبون فيها من جهة ثانية.
إن الأمر لا يخلو من الصعوبة والتعقيد، خصوصا إذا علمنا أن وضعيات التعليم- التعلم تبقى في محاولتها للتقرب من رغبات واهتمامات التلاميذ رهينة بما تبعثه من حب في الاستطلاع وحيرة في ذهن المتعلم، يجعلانه يتوق إلى هذا الشيء القديم/الجديد، المعلوم/المجهول، السهل/ الصعب في نفس الوقت. وهذا ما يجعل بالضبط كما يؤكد على ذلك ميريو (Meirieu 86،ص: 92)، من المعرفة لغزا" أن نقول عنه أو نظهر منه ما يكفي لكي نلمح أهميته وغناه ثم نلتزم الصمت في الوقت المناسب لخلق متعة الكشف عنه".
أجل إن استلهام الألغاز - وما تبعث عليه من انتباه وحيرة ذهنية - أثناء تصميم وضعيات التعليم- التعلم يجعل من التلميذ قادرا على إعمال الفكر وطرح الفرضيات من أجل تمحيصها بغية تثبيتها أو تفنيدها. قد يبدو الطابع الاصطناعي لهذه الوضعيات المصممة لأنها ليست من اختيار التلميذ، ولكن يجب الحرص ما أمكن من جانب المدرس على عدم إشعاره بذلك، خصوصا عندما يتم إعداد تجارب ووسائل بذاتها يقترحها عليه، كما كان الأمر بالنسبة لماريا مونتسوري التي تحذر من مغبة النشاط العفوي الذي يمارس بشكل عفوي أو عشوائي من لدن الطفل. "فالنشاط لا يكون فعالا، كما ينبه إلى ذلك بروباكير وآخرون، إلا إذا تم في بيئة منظمة بشكل موضوعي تجد فيها بشكل طبيعي أعمال الطفل مثيرات، ترتيبا أو نظاما يبدو ظاهريا غير إرادي وغير محسوس به، إن شئنا، لكنه لا يقل واقعية وإحكاما".
وتبقى طريقة إنجاز" المشروع" أو طريقة " حل المشكلات" من شأنهما أن تفيا بالغرض أيضا حيث ينطلق التلاميذ في أعمالهم من خلال ما يتوفرون عليه وما يعلمونه نحو استشراف ما هو جديد. والمدرس البارع هو الذي يعرف جيدا كيف يقتصد في أقواله وأفعاله عندما يحث تلاميذه على البحث والتنقيب من أجل إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل المطروحة أمامهم. وهو نفس المدرس الذي يوجههم نحو ترتيب أوراقهم وتهيئ معداتهم اللازمة لمواجهة هذا المعلوم/ المجهول والسهل/ الصعب في آن واحد.
المصدر : سلسلة التكوين التربوي (بتصرف)