يرى أغلب الباحثين في مجال التربية أنه مهما كان البرنامج الدراسي جيدا، ومهما كانت مضامينه ومفاهيمه ملائمة للتلاميذ وفي متناولهم، فإن كل هذا غير كاف لمنح تعلّمهم معنى.
فإذا أردنا، مثلا، أن يصير الطفل مواطنا مسئولا مستقبلا، فينبغي أن يعرف دور الرياضيات والآداب والتاريخ...، حيث يجب أن يفهم سبب وجود هذه المواد الدراسية في المدرسة والمجتمع، والفائدة من دراستها... وهذا ما لا يفهمه تلاميذنا، إذ لا تمكنهم مدرستنا من إدراكه... أضف إلى ذلك أن هذه الأخيرة تدَرِّسُ العلوم من دون ربطها بتدريس فلسفة العلوم وتاريخها... في الثانوي، مما يجعل هذه العلوم بدون معنى بالنسبة للتلاميذ.
وينطبق هذا على كل المواد الدراسية الأخرى، حيث إننا عندما ندرس لغة أجنبية في المدرسة، فإن هذه اللغة ليست غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة تمكن من تحقيق مقاصد وغايات معينة. لكن هذا ليس واضحا بالنسبة لمدرستنا ولا بالنسبة للمجتمع... ويسري هذا الأمر على أغلب المواد الدراسية في مدارسنا. وعندما تغيب المعرفة بطبيعة المادة الدراسية، وأسئلتها، وتاريخها، وأساليب إنتاج المعرفة في إطارها...، فإنها تفقد معناها، ويستعصي تطوير أي تصور لتدريسها...
يشكل نجاح التلاميذ اليوم شرطا لنجاحهم غدا. ويمر هذا عبر تكوينهم لصورة إيجابية حول ذواتهم، مما يتطلب من المدرس إثارة حماسهم، عوض تركيزه على استعراض معارفه ومهاراته... كما أنه من الأهمية بمكان أن يتم العمل في الحاضر على توفير الشروط لإقبال التلاميذ على الانخراط في بناء ذواتهم عبر بنائهم للمعارف...، عوض التلويح في وجوههم بالمخاطر التي تنتظرهم مستقبلا.
ويقتضي ذلك الاعتراف بحق التلاميذ في الوجود عبر تمكينهم من حق الفعل والرفض والإنجاز والفوز بالنجاح...، حيث إنه من الممكن أن ينجز كل التلاميذ ذلك، إذ إنهم قادرون على النجاح في بعض الأنشطة ورفع بعض التحديات... وينسحب ذلك حتى على التلاميذ الذين يوجدون في وضعية تَعَلُّمية صعبة. تبعا لذلك، يجب أن تكون البداية بالإنصات للذين يعيشون فشلا دراسيا من أجل إيجاد أنشطة خاصة بهم، ولحظات تُمكنهم من تفجير الطاقات الكامنة فيهم. فعندما نعثر على ما يمكن أن يُنجزه التلميذ الذي يعيش في وضعية تَعَلُّمية صعبة، وننطلق منه معه، فإننا نُمكنه من تجاوز بعض عوائقه وتحقيق ما لم يكن قادرا على تحقيقه من قبل. وهكذا، فإذا استطاع المدرس إيجاد حقل لنجاح التلميذ عبر اكتشاف ما يهمه وتوفير شروط تلبية مطالبه وحاجاته في آن، فإن هذا الأخير يكتسب الثقة في ذاته ويُكَوِّن صورة إيجابية عنها. وهذا ما يزيد من رغبته في التعلُم، ما يجعله أكثر استعدادا للقيام بأنشطة تَعَلُّمية أكثر صعوبة وتعقيدا.
وعندما يتم تدريس معرفة معينة من دون وعي مسبق بمطالب التلاميذ وحاجتهم إليها، فإن هذا يؤدي إلى فقدانهم للرغبة في البحث عن معناها، ويحول ذلك دون إقبالهم عليها، ويعوق استيعابهم لها.
لقد جرت العادة أن يبدأ المدرس عندنا بإلقاء معارفه على تلاميذه خوفا من ألا يُقبلوا عليها من تلقاء أنفسهم. بناء على ذلك، نجد ميلا كبيرا لدى مدرسينا نحو توزيع المعرفة كما يتم توزيع الطعام؛ إذ يُطعمون التلاميذ بالكلام والوثائق كشأن فعل العصافير بمنقارها مع صغارها. كما أنهم يغدونهم بشروحهم وإرشاداتهم أملا في الحصول على اعترافهم وتعلقهم بهم. عوض ذلك، إنه من الضروري أن يعيش التلاميذ في لحظة معينة إنجاز مهمة ما تلبية لما عبروا عنه من حاجة ورغبة في اكتساب كفاية معينة.
لا يأخذ عمل التلميذ معنى إلا في علاقته بمشروعه الشخصي. وبناء على ذلك، فإن اقتراح عمل معين على التلاميذ غير كاف، لأنه لا يمكن أن يخلق لدى بعضهم إلا موقفا مسايرا، أو يجعلهم يشتغلون كآلات. فالمشروع يقتضي من التلاميذ أن يكونوا فاعلين، وأن يبحثوا عن كيفية إنجازه. ونحن لا نقصد بهذا المشروع عملا كبيرا، بل نقصد ما يعبر عنه تلميذ فاشل، أو في وضعية تعلمية صعبة، من رغبة في تجاوز فشله وبذل مجهوده من أجل اكتساب المعارف والانتقال إلى المستوى التعليمي الموالي. وقد تنتقل هذه الدينامية إلى رفاقه في جماعة الفصل.
يكون المشروع في البداية عبارة عن توجه أو اتجاه يرغب الفرد في السير فيه، ومعرفته، والانخراط فيه والعمل على إنجازه. ويمكن أن يكون هذا المشروع مرتبطا بتاريخ المتعلم ورغباته الحالية وأهدافه المستقبلية.
يرى بعض الناس أنه يمكن للتلميذ أن يبني معرفة من دون مشروع قائم على علاقة سليمة بمضمون معرفي. لكن الغائب عن أصحاب هذا الرأي هو أنه يمكن أن تتم كتابة المعارف الدراسية على صفحات ذهن التلميذ دون أن يدرك معناها ولا الفائدة منها، حيث يبتلعها ولا يهضمها، ما يحول دون استيعابه لها واستفادته منها... وقد يستطيع استخدامها بشكل ميكانيكي، لكنها لا تمكث في ذهنه طويلا، لأنها سهلة المحو كما هو شأن الكتابة على الماء أو على الرمل. وهذا ما يحدث حاليا في امتحانات الباكالوريا، إذ تتبخر المعرفة بعد اجتياز الامتحان، لأن المعنى يكمن في النجاح فقط، لا في مضمون المعارف الدراسية... هكذا، يظهر جليا أن الهدف من المدرسة هو الفوز بالنجاح وليس التعلُّم.
لكي يكون للأنشطة المدرسية معنى، يجب أن تكون مفيدة في الحياة راهنا ومستقبلا. وعندما تخلو من ذلك، فإنها تبقى سطحية، إذ قد ننصت إلى ما يقال لنا ونشارك في مناقشته ونفهمه...، لكننا سرعان ما ننساه إذا كان غير مفيد في حياتنا. كما ينبغي أن تكون هذه الأنشطة ذات شحنة وجدانية أو رمزية ليكون هناك استعداد لاستدماجها والتطلع إليها. أضف إلى ذلك أن الأمر يقتضي أن تُمَكِّن هذه الأنشطة المتعلم من الترقي الاجتماعي والمدرسي. لكن هذا العامل الثالث هو حافز خارجي، ما يجعله أقل فعالية من العاملين الأولين، لأنهما حافزان داخليان.
غالبا ما يتم الإعلان عن بعض الغايات التربوية، لكننا لا نجد لها حضورا في المضامين ولا في الطرائق. كما أنه لا يتم تجسيدها في المعيش اليومي. وإذا كان المعنى يكمن في الغايات، فإنه يجب أن تتوفر شروط ووسائل لذلك. وهذا ما يقتضي ترابطا وانسجاما بين معنى المعرفة وشروط بنائها. وينجم عن غياب ذلك ضياع المعنى، لأن وظيفة شروط بلوغ الغايات هي ما يسمح للمعنى بالوجود والتعبير عن ذاته.
يمكن لشروط بناء المعرفة أن تكون مناقضة لطبيعتها ومتعارضة مع بنائها ومنحها معنى سليما. فعندما ننخرط في نزعة تقنية تؤدي إلى المغالاة في تدقيق التنظيم والتخطيط... من أجل ضمان انسجام أكثر، فإننا قد نبتعد عن المعنى.
هكذا، فمن المستحيل قبول التخطيط الصارم للتدريس. ولقد تأكد أن النظريات التي تتقدم بوصفات جاهزة غير ملائمة. وترجع الصعوبات التي يطرحها التخطيط الصارم الدوغمائي إلى عدم تلاؤمه مع الواقع، حيث توجد هوة فاصلة بين النظرية والممارسة، كما أنه ليس هناك نوع واحد من التلاميذ، والتاريخ غير ساكن. وهذا ما يفرض ضرورة التكيف المستمر مع تعددية الواقع. وتكمن خطورة التخطيط الصارم للطرائق البيداغوجية في كونه قد يحول دون تفاعل التلميذ مع كل من المعارف والمدرس وأفراد جماعة فصله. كما أنه يعوق عفويته ولا ينصفه.أضف إلى ذلك أنه ينكر ما هو وجداني ورمزي...، ما ينجم عنه السقوط في التصنع والتحايل والخداع والغش. وهكذا تتعارض خطية الطرائق البيداغوجية وصرامتها الدوغمائية مع العلاقة التربوية السليمة، وقد تنسف المعرفة المراد تدريسها.
يتم اليوم الحديث عن هندسة التكوين والتدريس. وككل مقاربة، فإنه يمكن أن يظن البعض أن لهذه الأخيرة بعض الفائدة، لكننا نرى أنها تتضمن الكثير من التجاوزات. فقد يؤدي السقوط في هذه النزعة التقنية إلى ضياع المعنى. وللتدليل على ما نقول، فإننا نلاحظ أنه غالبا ما تتم بداية بناء مشروع جماعة فصل معينة أو سلك دراسي معين بتحديد البنيات والأطر والخانات. وبعد ذلك يتم البحث عن المضمون الذي ستتم تعبئتها به. لكن ما يتم إغفاله هو أن هذه البنيات والأطر التي توضع بشكل مسبق قد تمس بحرية تفكيرنا وتسجننا داخل قوالبها الجاهزة. وهذا ما يقتضي أولا مناقشة مضامين المشروع بكل حرية انطلاقا من تحليل الحاجات. وبعد ذلك، وعن طريق الذهاب والإياب بين الإمكانات والإكراهات، يتم الانتقال إلى تحديد البنيات والأطر الملائمة للأهداف.
يقتضي كل مشروع بيداغوجي البحث المستمر عن الطرائق الكفيلة بإنجازه. وتتضمن كل طريقة، بشكل ضمني أو صريح، مشروعا بيداغوجيا ونوعا من العلاقة بالمعرفة، وبالآخر، وبالسلطة. كما أنها تتضمن أيضا مواصفات الإنسان المراد تكوينه والمجتمع المراد بناؤه. لكن خاصية البيداغوجيا هي أن الغايات لا تتضمن في ذاتها الطرائق القادرة على تجسيدها؛ إذ يجب استعمال الخيال لابتكار الطرائق باستمرار والتقاطها من هنا وهناك، مع ضمان انسجامها مع طبيعة المعرفة المُدرَّسَة وغاياتنا التربوية. تبعا لذلك، فإنه من الخطأ السقوط في منظور ميكانيكي عبر الاعتقاد بأن هناك طريقة جيدة واحدة ووحيدة، تصلح لتحقيق هذا الهدف أو ذاك، أو تلائم هذا التلميذ أو ذاك.
أضف إلى ذلك أنه إذا تم تطوير مشروع من قِبَلِ الإدارة أو المدرسين فقط، وتم الاكتفاء بتقديمه للمتعلمين فحسب. فلا ينبغي أن يُنسب هذا المشروع إلى التلاميذ، إذ لا يمكن أن نطلب من الفرد الانخراط في مشروع ما إذا لم يشارك في تطويره، ولم يساهم في تدبيره، ولا في تقويمه، وإذا لم تكن، قبل كل شيء، المفاوضة حوله وتطويره. بحثا جماعيا عن المعنى.
للمدرس متطلبات، إذ يريد من التلاميذ الانخراط في بناء معرفة معينة في حصة ما، لكن قد يحدث أن يتكلم التلاميذ في مرحلة من المراحل في كل اتجاه. وفي هذه الحالة يجب ألا يكون دور المدرس هو منعهم من البحث، بل ينبغي أن يلجأ إلى توجيههم نحو الهدف الذي حدده للحصة من دون أن يصدهم عن التفكير. وتكمن فائدة هذه المقاربة في أنها تمنح كل تلميذ فرصة للتعبير عن معناه الخاص للمعارف دون أن يتعرض للمقاطعة من قِبَلِ المدرس أو من أي تلميذ آخر. هكذا تكون جماعة الفصل أمام معان عديدة، ما يحفزها على التفكير وتقبل الآراء المختلفة. وهذا ما قد يجعل التلاميذ يغنون بعضهم بعضا، وينخرطون عن وعي في إنجاز الهدف الذي رسمه المدرس لهذه الحصة إذا كان له معنى بالنسبة إليهم.
إذا كانت الوزارة تحدد الغايات والبرامج الدراسية وأساليب التدريس. فماذا يتبقى للتلاميذ والمدرسين.؟ يظهر لي أن نظامنا التعليمي يشتغل حسب نظام "تايلر" Taylorisme، حيث يحدد أرباب المقاولات الغايات، ويقوم أطر هذه المؤسسات بتحديد شروط وأساليب بلوغها. ولا يتبقى للعمال أي دور سوى تنفيذ ما هو مُسَطَّر لهم. يجب إخراج مدرستنا من ظلمة النزعة التايلورية Taylorisme، عبر تمكين المدرسة من إقامة علاقة سليمة مع المعرفة والتلاميذ...، وتوفير الشروط الكفيلة بانخراط التلاميذ في بناء معارفهم الخاصة وهكذا ستكتسب مدرستنا معنى.
بقلم : محمد بوبكري