مفهوم النص:
لا ينكر أحدنا عودة الديني من جديد ليشكل وبصورة مكثفة محورا للسجالات الفكرية داخل مجتمعاتنا المعاصرة، فالإسلام كدين، وكتراث فكري يسترد اليوم حيويته المطابقة لتسارع التاريخ في كل المجتمعات الإسلامية، إنه يلعب دورا من الطراز الأول في عملية إنجاز الإيديولوجيات الرسمية، والحفاظ على التوازنات النفسية-الاجتماعية، والأمر لا يقتصر على هذه الملامح فحسب. بل يمكننا أن نشير إلى ما أنتجه هذه العودة من قراء ممتازين داخل منظومة العقل الإسلامي أمثال: محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وحسن حنفي، وطه عبد الرحمن وعلي حرب.. حيث استطاعوا أن يحركوا من جديد إشكاليات النص الديني الكلاسيكية، برؤية أكثر حداثية، بتوظيفهم آليات فعالة في إنتاج المعرفة حول النص، وكشف وتعرية عن ذلك الذي لا يعبر عنه، ولا يقوله، أو يمتنع عن قوله. ولم يجدوا أي حرج في اشتغالهم بالمناهج الغربية وتطبيقها لأجل فهم طبقات النص الديني. على الرغم من وجود حملة شرسة ضدهم مثلها ولا يزال يمثلها جماعات التكفير في زمن التفكير.
إن القرآن نص لغوي يمكن أن نصفه بأنه يمثل في تاريخ الثقافة الإسلامية نصا محوريا. وليس من قبيل التبسيط، كما يشير نصر حامد أبو زيد، أن نصف الحضارة العربية الإسلامية بأنها حضارة "النص"[1] .
لكن هذا لا يضعنا أمام تسليم مطلق بأنه يمثل مركز الحضارة بصورة شمولية. بل نرى فيه موضوعا مساعدا وهاما على فتح المجال أمام الجدل بين الإنسان والواقع من جهة، وحواره مع النص من جهة أخرى. وإذا كان الأمر كذلك، أي إذا كانت الحضارة تتركز حول "النص"، فلا شك أن التأويل يمثل آلية من أهم آليات القراءة في إنتاج المعرفة. ويدعونا اليوم التأويل المطبق Herméneutique appliquée، ليس فقط إلى تطبيق subtilitas applicandi أورغانون منهجي وإبستيمولوجي في قراءة التراث الإنساني، وإنما أيضا إلى تشكيل وعي تأويلي conscience herméneutique، قوامه الحس التاريخي والنقدي في تناول موضوعات التراث، وعقلانية متميزة subtilitas intelligendi في فحص أصوله واكتناه تركيبته[2]. ومن هذا المنطلق، حاولنا أن نحيل قراءة النص إلى آليات أكثر حداثية، هدفها ملامسة البعد الموضوعي لفهمه وإخراجه من تلك القراءات الإسقاطية، السطحية، مع مراعاتنا بطبيعة الحال مسألة رفض بعض الأطراف، من داخل السياج الدوغمائي للخطاب الديني الكلاسيكي، لحقنا في ممارسة القراءة للنص بآليات غربية أوروبية. وإيماننا بضرورة مواكبة التسارع التاريخي للمجتمعات البشرية، وحقنا في المساهمة والمشاركة لأجل بناء عالمية فكرية، اضطررنا إلى شحد مثل هذه المناهج لفهم واقعنا في علاقته بالنص القرآني على وجه الخصوص، والبحث عن مفهوم "النص" ليس في حقيقته إلا بحثا عن ماهية "القرآن" وطبيعته بوصفه نصا لغويا، وهو بحث يتناول القرآن من حيث هو "كتاب العربية الأكبر، وأثره الأدبي الخالد". فالقرآن كتاب الفن العربي الأقدس، ويضعنا هذا البحث أمام إشكاليات جوهرية يبرزها فعل القراءة. كيف نتعامل مع النص؟ وهل في توظيفنا لآليات الفكر الغربي في فهم النص خرق لحقيقة التراث؟ ألا يوجد تناقض في مثل الحالات بين المنهج والحقيقة. بين ما يحمله النص التراثي من حقيقة، وما تكتنيه المنهجيات الأوروبية من تأويل وحفر وتنقيب؟.
إن الممارسة التأويلية للنص تجعلنا ننفلت من دوغمائية القراءات التحريفية والسطحية للنص القرآني، كما تجنبنا، إضافة إلى ذلك، مأزق الثنائيات التي سيجت الفكر الإسلامي بمغالق أصبح صعبا فتحها، كـ"ثنائية العقل والنقل". إذ يمكن أن نصحح من هذا المنظور التأويلي الكثير من الأفكار المستفزة كما يشير نصر حامد أبو زيد عن تراثنا الفكري والديني والفلسفي. إذ بفضل القراءة وآلياتها نصبح أمام نص منفتح على الدوام إلى اللا-نهاية non-fini، ويحتضن العديد من الاحتمالات. فهي تزيل ذلك التصدع القائم بين جوانب التراث في أذهاننا، وفي مناهجنا، فلا نقيس الفكر الإسلامي على الفكر اليوناني، أو غيره، ويعتبر التأويل والتفكيك بمثابة آليات للقراءة، لا يمكن تناولهما عند حدود التراث، بل نجدهما امتدا إلى أن اقترنا بالواقع الراهن الذي نعيش فيه جميعا. "فالنص بكل ما يحمله من تراث تفسيري واقع متعين في حياتنا اليومية وفي ثقافتنا المعاصرة، يشكل حركة هذا الواقع"[3].
وما نلزم به أنفسنا أننا مجتمعات "النص"، النص القرآني، ولا نرى أي حركة لمجتمعنا بدونه. ولا يمكن أن نقيم أي حضارة أو ثقافة متماسكة بمعزل عن العلاقة الذي وضحها النص والمتمثلة في كلمة الإسلام. حيث الله في علاقة وطيدة بالإنسان. ونكون قد جازفنا بمستقبلنا لو حاولنا أن نحدث تمفصلا بينهما. وهذا ما حاولت تكريسه القراءة الإيديولوجية النفعية المغرضة، حيث حاولت تجزيء هذه العلاقة. أي نظروا إلى التقدم والحضارة بمعزل عن الله. أعتقد أن هذا يمثل بالنسبة لنا سر قيام أية حضارة تستمد وجودها من النص.
فالذي أسس الحضارة هو ذلك الحوار بين الإنسان والنص. "فالأمر محصور بين رب وعبد، يقول محي الدين بن عربي، فللرب طريق والعبد طريق، فالعبد طريق الرب فإليه غايته، والرب طريق العبد فإليه غايته"[4].
الأصل مرتبط بـ"فعل" القراءة –اقرأ قال الله لنبيه محمد- القراءة واجب، والأخذ بها أكثر من ضرورة. وإننا هنا نتجاوز معناها السطحي ذلك المرتبط بالقول أنها مجرد سياق إضافي خارجي يضاف إلى النص. إن الأمر غير ذلك. فالقراءة فعل سحري بسيط يلغي المادة المكتوبة ليتمكن من روح النص، ويسمع صوته، إنها بمثابة عملية تقوم بفك الشفرات Les codes، وكشف الأسرار، وتعرية الرموز، ولا يمكن لأي نص أن يكون نصا إلا بفعل القراءة. ولا أبتغي في مقامي هذا التركيز على القراءة ومستوياتها لأن الموضوع لا يتطلب ذلك. وحديثي عن القراءة كما يتجلى في عنوان المقال مرتبط بالآلية والنص، فبالأولى نمارس القراءة على النص. والآلية كما يعرفها الأستاذ طه عبد الرحمن، في مشروعه فقه الفلسفة، يؤكد على أنها تحمل معنيين أولهما عام والثاني أخص، فأما العام، فهي بالنسبة إليه خاصية إضافية تلحق كل علم يشترك في تحصيل غيره، فيكون كل علم داخل علم آخر بمنزلة آلة من آلاته. فإذا كان دخول الحساب في الفقه، يجعل منه آلة له، وإذا دخل النص في القراءة جعل منها آلته: فالآلية صفة تعرض للعلوم من جهة استخدامها في غيرها بحيث لو صرف عنها هذا الاستخدام صارت علوما مقصودة لذاتها فيكون لذلك كل علم مقصودا من جهة لذاته، ومن جهة أخرى آلة لغيره. وأما المعنى الأخص للآلة: فهو أن يكون صفة ذاتية لبعض العلوم، أي صفة تحقق بها دون غيرها[5]. وآلية القراءة ستعرف تطبيقاتها الصارمة مباشرة على النص. ما الذي نعنيه بالنص؟ إنه وإذا كانت كلمة "النص" في اللغات الأوروبية تعني نسيجا texte = tissu من العلاقات اللغوية المركبة التي تتجاوز حدود الجملة بالمعنى النحوي للإفادة، الأمر الذي يؤكده أصل اشتقاقها من اللغة اللاتينية، فلم يكن الأمر كذلك في اللغة العربية. ومن استقراء الدلالات المتعددة الواردة في لسان العرب لابن منظور، يمكن أن نشير إلى دلالتين: الدلالة الحسية لمعنى النص. ولو أن دال "نص" بالمعنى الإجمالي هي الظهور والانكشاف، أما الدلالة الحسية كقولنا: نصبت الظبية جيدها، أي رفعته، أو نص الدابة، رفع جيدها بالمقود لكي يحثها على السرعة في السير. النص والتنصيص السير الشديد. أما الانتقال الثاني من الحي إلى المعنوي. فالدلالة المعنوية للنص هي: "نص" الرجل سأله عن شيء حتى يستقصي ما عنده، وبلغ النساء نص الحقائق أي سن البلوغ[6].
أركون وقراءة النص الإسلامي:
يغدو النص الديني عند أركون ممارسة خطابية Pratique discursive خاضعة لآليات التأويل القائمة على التفكيك "Déconstruction"، ممارسة استلهمها أركون من فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة الأوروبية. ولم يجد أي حرج في التعامل مع مثل هذه الآلية[7]. بل يصر على إعمالها ويدعونا لأجل فهم النص الديني من خلالها، لأنها الضامن الوحيد للفهم الموضوعي، المنفلت من قبضة قراءات الإسلاميات الكلاسيكية، الاستشراقية Orientalisme التي تحاول حرمان العقل الإسلامي من قراءة النص القرآني وهو يشحد مناهجه من العلوم الإنسانية الغربية المنبع. ويمثل محمد أركون أحد أهم أقطاب العقل الإسلامي والقارئ الممتاز للنص برؤية حداثية/تنويرية. وتحمل تجربته خصوصياتها ونمط وجودها وقانونها الداخلي، وإحالاتها الممكنة. يؤكد أركون على ضرورة النظر إلى النص على أنه مجموعة متراكمة ومتلاحقة من العصور والحقبات الزمنية، إن هذه القرون متراتبة بعضها فوق بعضها الآخر كطبقات الأرض الجيولوجية[8].
ولا يمكن أن نتوصل إلى فهم حقيقة عمق هذه الطبقات إلى القرون التأسيسية الأولى مثلا إلا باختراق الطبقات السطحية والوسطى رجوعا في الزمن إلى الوراء. والتفكيك يمثل آلية مهمة لاختراق وتعرية Dévoilement طبقات النص، التي حاولت أن تختفي من وراء النظريات المختلفة، والتشكيلات الإيديولوجية المتنوعة، لأجل نزع البداهة ورداء القداسة على النص.. "إني في قراءتي للفكر الإسلامي، يشير أركون، أحرص على الالتزام بمبادئ المعرفة العلمية واحترام حقوقها مهما يكن الثمن الإيديولوجي والسيكولوجي والاجتماعي".
غير أنه ثمة صعوبات تواجه أركون في قراءاته التطبيقية على النص، والتي مثلت بالنسبة إليه سياجا دوغماتيا يعيق فهم أعماق النص وأسراره، وفي قمة هذه الصعوبات، نجد تركيز الفكر الإسلامي على ثيولوجيا تفوقية المؤمن – غير المؤمن، المسلم- غير المسلم..، بالإضافة إلى تكريس دوغمائية القيم الأخلاقية والدينية[9].
نجد اليوم وعينا أمام قراءات أكثر حيوية مبدعة ومنتجة، تبتعد عن التقليد والاتباع، الذي ارتبط ولمدة طويلة بالقراءات الكلاسيكية وبعض القراءات الاستشراقية. إننا أمام محاولات لا تنغلق على ذاتها بادعاء امتلاك حقيقة النص، تتبنى آليات أكثر عملية، آليات الهدم والاختراق والحفر والتفكيك، آليات أقل ما يقال عنها إنها تمتلك القدرة على فهم إخفاءات وبواطن تراثنا المعرفي، تضعنا أمام التعبئة اللامنقطعة للاكتشاف والبحث عن أسرار الفكر الإسلامي. وتمتلك قراءات أركون جرأة المواجهة، تواجه وبشدة الخطابات المضخمة Les discours hyperboliques التي تؤسطر التراث mythologisation، وتصنمه idôlatrie على الرغم من المحاولات المناهضة للحد من زحف مثل هذه القراءات واكتساحها الساحة الفكرية من قبل سلطة العقلية الدوغمائية، أو الروح المنغلقة. إن علاقتنا بماضينا علاقة جدلية، يقف عندها المفكر "محمد أركون" في قراءته العلمية الموضوعية للنص القرآني، إنه لا مفر من إعمال الممارسة التفكيكية لأصول العقل الإسلامي بهدف إعادة تجديد شروطه النظرية المتحكمة بكل قراءة للقرآن، ونقصد بالقراءة هنا بالمعنى الألسني الحديث وليس بالمعنى القراءات الشارحة والروايات المختلفة، قراءة يحركها البحث والكشف، اهتمامها الوحيد الإبداع من داخل النص لأجل خلق خطوط محايثة اللامتولي، اللامتماثل، نسج شبكة النص بصورة عنكبوتية من حيث ما تحمله من اختلاف وتعدد، ومحاولة نفض الغبار على خراب المعنى الملتصق، ولعدة قرون طويلة، بالعقلية الأرثودكسية، وبالنص التراثي بصورة عامة. لقد تجاوز أركون التفاسير والشروحات إلى نقد الوحي نفسه، وذلك بالتعامل معه كمعطى يخضع للمعرفة النقدية لأجل تحريك اللامفكر فيه l’impensable وتعريته من خطاب حاول أن يؤسطره mythologiser. وفي تفكيكه هذا استعمل آليات ثلاث: الاختراق transgression يخترق المحظورات، الممنوع والممتنع الخوض فيه، وخاصة التابوهات Tabous، وكذا جدار الصمت. ثم يوظف الإزاحة déplacement. فالتفكيك عند أركون ينطلق من التشكيك بما يزعمه الخطاب الديني من قول للحقيقة، ويحتكر بهذا الأداء المعنى، ويمتلك أخلاقيته، مسيجا كل محاولات العقل نحو تجاوز دوغمائيته المرتبطة بشدة وبصرامة بمجموعة من المبادئ العقائدية وترفض بنفس الصرامة والشدة مجموعة أخرى تعتبرها لاغية لا معنى لها. هذا ما يقصده أركون بالروح الدوغماتية. وبفضل الاكتشافات الجديدة لعلوم الإنسان والمجتمع، تم إعادة النظر بصورة حتمية فيما يحمله المعيش الضمني للمؤمنين، من مقدس sacré أو غرائبي مدهش Merveilleux، أو ساحر وأسطورة، وعامل شفهي أو كتابي أو مخيال أو عقلاني أو لا-عقلاني هو في طور الانتقال إلى حالة المعروف الصريح[10]. إن هذه التناقضات تمثل سمة حيوية لتراثنا.
لقد أثار محمد أركون وبجدية قضايا مجتمعات الإسلام والديانات التوحيدية الأخرى، ضمن قراءاته التفكيكية[11]، وتعتبر مسألة "حقوق الإنسان في الإسلام" أكثرها تناولا وأهمية بالنسبة إليه، حيث عمل على تخليصها من بعدها الصدامي الذي نلمسه لمجرد قراءتنا أو تناولنا لها. حيث نجد البعض يربطها بصورة مباشرة بالخطاب الإسلامي المؤدلج الشائع. أركون في هذا المقام لا ينكر أن قضية حقوق الإنسان طرح غربي-أروبي. حيث توافق الإعلان عنها بالثورة الفرنسية(1789). ونجد في مقابل هذا الإعلان، وبشكل أكثر تقدما، إعلانا يحاول أن يدعي لنفسه العصمة، ذلك الذي حرره مجموعة من علماء الإسلام وأساتذة القانون وأعلن عنه بتاريخ 01 سبتمبر 1981 في إحدى جلسات اليونسكو: باسم "الإعلان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان"، ويؤكد أركون وبعد قراءته المتأملة العقلانية لهذا الإعلان أن جل مواده الثلاث والعشرين ترتكز على الآيات القرآنية والحديث النبوي. ومن أهم المبادئ التمهيدية لهذا الإعلان جاء فيه "نظرا للأصل الإلهي لهذا القانون فلا يمكن لأي زعيم سياسي أو أي حاكم أو أي مجلس نيابي أن يلغي، أو ينتهك، أو يغير حقوق الإنسان التي وهبها الله له"[12]، ينطلق أركون في قراءته للمسألة من السؤال عن البعد التاريخي للمشكلة. إنه يخص العلاقة بين الدين الإسلامي والمفهوم الحديث لحقوق الإنسان، كما صاغته الثورة الفرنسية، لكن هذا يجرنا إلى الحديث عن سوابق للمشكلة، إذ ثمة بذور تناولها في النصوص الكبرى للأديان التوحيدية، ومنطلق أركون في بداية تأصيل المشكلة هو النص القرآني، فهل ثمة حديث خاص بمسألة حقوق الإنسان في القرآن؟ يشير أركون إلى كون القرآن يتموضع داخل خط الديانات التوحيدية، مثله في ذلك مثل التوراة والإنجيل، وبديهي أن نجد في النص القرآني مثلما هو الشأن بالنسبة للخطاب المسيحي، مستويات متعددة للخطاب، فثمة خطاب تشريعي، خطاب ديني، خطاب معرفي، رمزي ومجازي. توجد كل هذه المستويات، وكلها متضمنة في النص نفسه. وتشتغل بصفتها محور تشكيل علاقتها بمستويات متفرقة. لماذا؟ ذلك أن النص القرآني هو كلام يرافق الفعل "وليس كلاما من أجل الفعل، أو متعلقا بالفعل. أي هو الكلمة التي تقول ما تفعل وفي نفس الوقت تنجز فيه فعلا ما". وهنا تكمن حسب أركون" قوة اللغة الدينية"[13]. لذا يجب فهم آياته باعتباره (النص القرآني) يسير وفق أحداث تاريخية تتزامن ومستجدات دولة المدينة التي أسسها محمد النبي. وبعيدا عن القراءات السطحية الهامشية للنص يدعونا أركون إلى قراءته بصورة تزامنية Diachronique لفظة "مسلم"، التي لا تعني عنده خضوع واستسلام، بقدر ما تعبر عن علاقة وطيدة بين الإنسان والله. فثمة تحالف أو ميثاق يجمعهما، والإنسان حسب هذا الميثاق موعود بالحياة الخالدة إذ ما نفذ الشروط بدقة أثناء الحياة الدنيا[14]. إن حقوق الإنسان وفق هذا الميثاق المنصوص عليه في القرآن أكثر تقدما بالقياس إلى جو محيط وتاريخ سابق (منطقة شبه الجزيرة العربية)، وحقوق الإنسان التي أعلنتها الثورة الفرنسية بعد عصر الأنوار سوف تكون شيئا مختلفا تماما. لأن التاريخ اختلف، والمجتمع اختلف ولأن الفكر البشري قد حقق إنجازات لم تكن ممكنة في القرن السابع الميلادي[15].
معضلة تأويل النص. نصر حامد أبو زيد:
ستعرف معضلة النص فهما آخر مع قراءات وتطبيقات نصر حامد أبو زيد[16]، والشيء الذي أدهشنا في قراءاته، جرأته أولا، وكثافة معارفه لما تحمله من منابع متعددة ومختلفة، ثانيا. فحمولته المعرفية الكثيفة جعلت تأويله حيويا وغنيا. يفتح المجال أمام حوار مفتوح على الدوام. ويرى أبو زيد أن قدرنا اليوم هو الانفتاح على جميع مصادر المعرفة حتى مع تلك الوافدة من الغرب والتي تضعنا باستمرار أمام موقف الصدمة. ومن الضرورة كذلك استثمار هذه الصدمة، خلافا لما حدث مع مفكري عصر النهضة، الذين غفلوا عن كيفية التعامل مع الراهن[17]، فراحوا يضعون ويؤسسون فكر الثنائيات التصادمية، ويتظاهر البعض منهم مظهرا التوليف والتوفيق، وكل يكرس بصورة أو بأخرى سياجا دوغمائيا محاطا بالنص التراثي بنوع من هالة القداسة، تقف ضد كل القراءات التنويرية. وجعلوا بموقفهم هذا الفكر أكثر رجعية على الرغم من شعارات التقدم والطليعة، بحيث أنتج هذا الفكر صراعا كنا في غنى عنه، صراع القديم مع الحديث، والأصيل مع المعاصر، والسلف مع الخلف، لم تتعامل جيدا مع راهنيتها actualité التي كان بإمكانها فتح المجال أمام تنويرنا لو استثمرناها بشكل عقلاني/حداثي. لم نحاول فهم الصدمة فهما موضوعيا علميا، أو حتى فنيا. مثل هذا الصراع ثبط عزائم العقل الإسلامي ومبادراته من أن يباشر في وضع مساهماته ومشاركته في بناء العالمية كبقية المجتمعات. وإذا كان النص القرآني هو نص الإسلام، فإن الهدف من إخضاعه للعملية التأويلية يتمثل في تحديد مفهوم "موضوعي" للإسلام[18]، مفهوم يتجاوز السجالات الإيديولوجية المنغلقة التي مارست قراءات "تحريفية" على النص الديني، قراءات مثلتها القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة في الواقع العربي الإسلامي، ومثل هذه القراءات أدت إلى ظهور ما يمكن نعته بـ"الإرهاب الفكري". لقد حاول دعاة الطليعة والتقدم تجاهل المد المتزايد لفكر الجماعات الإسلامية في المجتمع[19] رغم كل ما تلقته هذه الجماعات من محاصرة الإعلام الرسمي. ما كان على الباحث الطلائعي أن يتجاهل هذه الحقيقة. لأن مثل هذا التجاهل أدى إلى بروز أهل سلطة الأمر والنهي وجماعات التكفير. علينا أن نفتح المجال أمام الدراسات الإسلامية الجادة والمتميزة، التي تحاول غلق الطريق أمام القراءات الأرثودكسية المنغلقة، التي تفهم النص بسطحية مفتعلة، الغرض منها لجم المؤولين التنويريين عن الخوض في أعماق النص وتعرية طبقاته وسبر أغواره. ومن هنا تكمن ضرورة الاشتغال بآليات القراءة الحداثية، قراءة نحاول من خلالها التموقع في العالم. إنه موقع قائم في أساسه على الحوار الجدلي مع الغرب، فسواء اخترنا من التراث أم اخترنا من الغرب فإن اختيارنا قائم أصلا على الحوار الذي يدعم موقعنا وإدراكنا. مثل هذا الجدل يخلصنا من حالة الفوضى التي يعاني منها النص التنويري في قراءاته الفكرية المعرفية، فالمتمحص في حالتنا الثقافية لا ينكر مثل هذه الفوضى؟[20].
يقف نصر حامد أبو زيد، وهو ليس ببعيد عن محاولات أركون في ممارساته التأويلية، موقفا أكثر إجرائية. يبادر بمساعدته التراث ليس في شروحاته وتفاسيره حيث إنه لا يقف عند مرحلة التدوين بما حملته من بداية للإبداع والخلق، ولا يحاول نفي مرحلة الإتباع والتقليد لواقع العقل الإسلامي، بل يسعى إلى تشخيص كليهما انطلاقا من التجربة المعيشة. إنه يقرأ النص القرآني مباشرة بطرح معضلة النص بالشكل التالي: كيف يمكن الوصول إلى المعنى الموضوعي للنص القرآني؟ وهل في طاقة البشر بمحدوديتهم ونقصهم الوصول إلى القصد الإلهي في كماله وإطلاقه؟ إن مثل هذه الأطروحات لا يمكن لأي معرفة معالجتها سوى القراءة النقدية، وبآليات تأويلية، وحدها تمكننا من معالجة المعضلة، باعتبارها تقف بصورة جدية عند عناصر البنية المشكل منها فعل القراءة التي تطرح صعوبات حول [ المؤلف/النص/الناقد] أو [ القصد/النقد/التفسير][21]. ونلمح عبر هذه المعضلة الهاجس المؤرق لمفكرنا، كيفية الإسهام في بلورة وتأسيس معرفة عقلية بالنص القرآني المقدس؟ والملاحظ كما يقول أبو زيد: "إن ما يجمعنا نحن المسلمين موجودفي النص، وينبغي التسليم بذلك، لكن الوصول إليه وبلوغه لن يكون إلا من خلال القراءة التأويلية، باعتبار التأويل العملية الأمثل للتعبير عن عمليات ذهنية على درجة عالية من العمق في مواجهة النصوص والظواهر"[22]، بالإضافة إلى معاداته للقراءة المؤدلجة المكرسة لخطابات العنف الفكري، تلك القراءات التي حولت النص إلى بوق لا يسمع منه سوى أصوات الموجهين، وليس صوت النص، فلحقه غياب كلي لكينونته، لأنه تم تناوله من منظور مؤدلج، همه الوحيد التكلم باسم النص، وليس التكلم لأجل النص. وتبرز على خلاف ذلك وظيفة التأويل التي تسعى إلى فهم الواقع. فلا فكر خارج الواقع المتضمن لجميع أشكال التعارض والتباين. إذ لا ينبغي حصر دراسة التراث على الماضي واجترار أفكار أمجاده، فالعلاقة بين الماضي والحاضر علاقة تواصل وجدل تستوجب قراءة الماضي لفهمه وتجاوزه لا لتقديسه[23]. فلا شك إذن كما يرى –نصر حامد أبو زيد- أن التأويل وهو الوجه الآخر للنص يمثل آلية هامة من آليات الثقافة والحضارة في إنتاج المعرفة. وتقودنا قضية التأويل إلى دراسة مفاهيم ومقولات القدامى عن اللغة بجوانبها المختلفة خاصة من الزاوية الفلسفية، والكشف عن الأسس الأنطولوجية، بالمعنى الوجودي، والمعرفية التي شكلت هذا المفهوم. كما يمكنه بلورة وإنتاج الكثير من المفاهيم النقدية والبلاغية في التراث، وخاصة فيما يرتبط بالتصوف[24]. إننا مطالبون اليوم أكثر من وقت مضى باستثمار فضاء العرفاني الكثيف، والذي يمثله النص، فإنه عالم يريد أن ينفجر، ولا يمكن تفجيره ونسفه إلا بحضور المثقف، اللا-متردد، أي المبادر واللامنهزم، صاحب الموقف، المثقف الذي تغمره نشوة المغامرة والمخاطرة، باعتبارها أصل وجوده. ومن هذا المنطلق بالذات تكمن قيمة وإجرائية التأويل. إن التحدي حسب أبو زيد ليس العمل على حماية التراث من التشتت والضياع، فالأولوية في المرحلة التي نعيشها في الزمن الحاضر هو حماية وجودنا نفسه، بعد أن أصبح التحالف بين العدو والقوى الرجعية المسيطرة من الداخل حقيقة بارزة[25]، مثل هذا الوضع خلق نوعا من التحدي المضاعف من قبل مشاريع التنوير، لكن هل نجح العقل الإسلامي في زعزعة أنساق الروح الدوغمائية؟ وهل استطاع إزاحة منطق الانغلاق والهوية القائم على استعلائية الخطاب الرجعي، والثقافة السائدة –بتعبير أدونيس؟ هل استطعنا محاكمة العقل والتشكيك في إمكاناته المعرفية؟ مثلما فعلت أنوار الحداثة الأوروبية.
إن المسلم به هو نجاح العقل الإسلامي حاليا على إنتاج قراء ونقاد ممتازين، يتأرجحون بين محنة السؤال، ومهنة المساءلة، من أمثال حسن حنفي، ومحمد أركون، وطه عبد الرحمن، ونصر حامد أبو زيد… حاولوا على الدوام إيجاد آليات قراءة تجد الحلول قبل انفجار الوضع علينا بقيادة الأنظمة الكليانية Les régimes totalitaires، التي تحسن توزيع أساليب الردع والإقناع Dissuasion، وإلقاء الخطابات المفخمة Discours emphatiques، حول ما يقال على التقدم والحرية، والوعي، والحداثة، وطبيعة النظم والإيديولوجيات التي تحول معها النص إلى واحد موحد Monde Unique يوحد كل الذهنيات، ويتخذ لنفسه طابع الأقنوم Hypotase والنموذج الأصلي Archétype باعتباره حقيقة مطلقة، مسيجة بالروح الدوغمائية تضفي عليها هالة القداسة، والتبجيلية. وعليه، فإنه لا يخفى علينا بأن ثمة مقدسات جديدة وأديان حديثة هي الإيديولوجيات[26]. إذ تغلب الفكر الإيديولوجي بصورة جلية داخل مجتمعاتنا على الفكر العلمي وخاصة علوم الإنسان، ومع الإيديولوجيات تكريس غطرسة العقل ممثلا في النزعة العقلانية وجبروتها منذ بداية عصر الأنوار Aufklärung بالغرب، وعصر النهضة عندنا. وإذ يؤكد أبو زيد على القراءة الموضوعية للنص القرآني، فإنه ينفلت من كل قراءة نمطية نسقية مغلقة، وهذا ما لم يدركه بعض من تعاملوا مع نقد النقد من أمثال جابر عصفور وعلي حرب[27].
يتخوف جابر عصفور مما سيؤول إليه مشروع أبو زيد، إذ يرى أنه لا يمكن لأي مفهوم موضوعي للإسلام أن يتجاوز الأطروحات الإيديولوجية[28]، لكننا نرى بأنه وعلى الرغم من كوننا كائنات تعيش واقعها في مختلف تجلياته السوسيولوجية والتاريخية والاقتصادية، إلا أن تأويلنا يحاول أن يخترق ويتجاوز ويزحزح عبر آليات القراءة الخطاب المضلل، وبدون أن نقع في فخ اللعبة، علينا أن نمارس القراءة من داخلها، على أرضها مع أخذ الحذر، وعدم الوقوع في مفارقة أو استعلائية مفرطة. فلا أجد على هذا الأساس أي مانع من قراءة النص وأنا متجرد من أسماء العلم، لكن أسئلة وتخوف جابر عصفور على الرغم من ذلك يبقى تخوفا مشروعا. إذ نبقي على السؤال حول إمكانية تحديد مفهوم موضوعي للإسلام بعيدا عن علاقات التناص Textualité المعقدة والمتشابكة لا يفارق فيها النص تأويلاته؟ إن إنجاز أبو زيد في دراسته للنص القرآني، وإن تناسى البعد الإيديولوجي فبإمكاننا أن نجعله يتجلى، لحظة تحليله لآليات اشتغال النص، وفي بحثه عن شروط إمكان الوحي، ألم نقل إن كل قراءة للنص إنما هي قراءة بروكستية[29] في نهاية المطاف، يقطع عبرها القارئ أجزاء النص ويجذب إليه أجزاء أخرى تنسجم مع التأويل الذي يقترحه ويفرضه على النص.
[1] - نصر حامد أبو زيد: مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، ، المركز الثقافي العربي. 1998، ص9.
[2] - زين محمد شوقي، (مفتاح التأويل في قراءة التراث الإنساني)؛ مجلة فكر ونقد، ، أبريل 2000، ص60.
[3] - نصر حامد أبو زيد: فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي، الطبعة الرابعة، 1998، المركز الثقافي العربي، ص.ص16-17.
[4] - محي الدين بن عربي: الفتوحات المكية؛ المجلد الثالث، ص193.
[5] - طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، ، 1993، المركز الثقافي العربي، ص150-151.
[6] - نصر حامد أبو زيد: النص، السلطة، الحقيقة؛ الطبعة الثانية، 1997، المركز الثقافي العربي، ص150-151.
[7] - التفكيك Déconstruction استراتيجية Stratégie وبراعة ودهاء Stratégème، فحص النصوص والموضوعات، يسعى التفكيك إلى كسر منطق الخطاب الوثوقي القائم على الثنائيات: صواب/خطأ، وهم/حقيقة، شر/خير، ولقد استفاد دريدا، مؤسس التفكيكية، من سابقيه في عملية تقويض دعائم الميتافيزيقا دون العمل على تجاوزها –نيتشه، هايدغر، فوكو- إن التفكيكية لا تراقب النص من الخارج، باعتباره نصا خارجانيا Le dehors، كما رأى فيه الماركسية والوضعية والمناطقة، وإنما يخترقها ليغوص في أعماقها، وينخرط في نظامها من الداخل باعتباره نصا يحمل جوانيته Le dedans، النص عند جاك دريدا ليس هو تلك البنية المتناسقة والمتكاملة التي تضمن استمرارية دلالة جوهرية وخصوبة رمزية، النص هو طبقة رسوبية من نصوص تضرب جذورها في أعماق تاريخ العقل البشري (انظر تعريف النص والتفكيكية عند محمد أركون).
[8] - مثل هذه الممارسة التأويلية القائمة على الحفر والتنقيب والتفكيك تندرج ضمن دراسات تاريخ الأفكار الذي أرسى دعائمه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (انظر حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت L’Archéologie du savoir).
[9] - مسطح لا-مثولي. استعمال دولوزي. المفكر يخلق المفاهيم عبر حركة المفهوم، ذلك أن أي عملية إنتاج منظومة معرفية لا تتم خارج المفهوم، أو بعيدا عن العبارات والجمل. ونحن أمام النص نتحول إلى مفاهيم فلسفية تتحرك ذهابا وإيابا عبر أمكنة وأزمنة ومشاهد، فهي بمثابة فضاءات "نحن نكتب دائما من أجل إعطاء الحياة، ومن أجل تحرير الحياة مما يعتقلها، ومن أجل رسم خطوط للهروب".
Voir : DELEUZE Gilles : Entretien avec Raymond Bellour et François Ewald ; in Magazine littéraire, n°257, Sept. 1988.
[10] - محمد أركون: الفكر الإسلامي، قراءة علمية، ترجمة هاشم صالح، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 1996، ص55.
[11] - تندرج أعمال أركون (محمد) ضمن قراءات فلاسفة ما بعد الحداثة في تبنيه الممارسة التفكيكية، والحفريات، بحثا عن الأغوار وكنوز النص، لا يعترف بمعنى شامل كليا في النص، بل ينص على خصوصيات العبارة ونمط وجود النص وتاريخية تأسيسه وتكوينه، فالنص مع أركون يغدو طبقة جيولوجية من نصوص تضرب جذورها في أعماق تاريخ العقل البشري". راجع: محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي؛ مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 1998.
[12] - محمد أركون: الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد؛ ، دار الساقي، ، 1998، ص314-315.
[13] - Mohamed ARKOUN, Maurice BORRMANS, Mario AROSIO : L’Islam, religion et société, interviews dirigées par Mario AROSIO ; traduits de l’italien par Maurice BORRMANS, Ed. Cerf, Paris, 1982, pp50-51.
[14] - Ibid, p21.
[15] - محمد أركون: الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، ص317.
[16] - تعتبر مغامرة أبو زيد –نصر حامد- الكتابية من أهم المغامرات الأكثر جرأة، وتكمن جرأته في كونه دخل في حوار مع نصوص تراثية هامة على رأسها النص القرآني، وابن عربي محي الدين، وسيبويه، والمعتزلة… إن الفهم لا يكون، والنص اللغوي ثابت، ما دام المدلول في حالة تغير دائم وخلق جديد.
[17] - نصر حامد أبو زيد: مفهوم النص، الطبعة الرابعة، 1998.
[18] - نصر حامد أبو زيد: مفهوم النص، ص19، الطبعة الرابعة، 1998.
[19] - المرجع نفسه، ص20.
[20] - نصر حامد أبو زيد: إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، 1999، ص14.
[21] - المرجع نفسه، ص19.
[22] - المرجع نفسه، ص192.
[23] - يشير نصر حامد أبو زيد بهذا الصدد إلى أن إصراره على استخدام مفهوم التأويل إنما هو بمثابة العودة إلى الأصل. إن كلمة تأويل هي التي استخدمها قدامى المفسرين أمثال محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ) الذي أطلق على كتابه في التفسير جامع البيان عن تأويل آيات القرآن.
[24] - ينفتح التأويل بصورة جلية على النص العرفاني Mystique لدى أبو زيد، فالأمر لا يتوقف عند حدود النص القرآني فحسب، بل حتى إشكالية كيف نقرأ العرفان الإسلامي؟ مساءلة مهمة بالنسبة إليه، فالتجربة العرفانية باعتبارها محتوى أنطولوجيا ومعطى فينومينولوجيا وتأسيسا تاريخيا تنتج خطابات لها دلالتها ونظام ظهورها يجمع بين الفكر والذكر، بين التفكير والتدبير. راجع في هذا المقام: نصر حامد أبو زيد: فلسفة التأويل عند ابن عربي.
[25] - نصر حامد أبو زيد: مفهوم النص، الطبعة الرابعة، 1998، راجع التمهيد، ص9.
[26] - علي حرب: نقد النص، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1993، ص218.
إن المسلم به مع نهاية القرن العشرين أن أوهام الإيديولوجيا استطاعت أن تكتسح كل المنظومات الفكرية، وخاصة علوم الإنسان. لذا تبقى استراتيجية الانفلات من قبضتها واردة إلى ما بعد هذا القرن.
[27] - لاحظنا لدى علي حرب نوعا من التهافت على نقد أعمال بعض المفكرين الذين لم يؤسسوا بعد مشاريعهم، وأدى به مثل هذا التهافت إلى أن تشتت أوراقه وتبعثرت حيث بدأنا نلمح في نقده لفكر النقد نوعا من السطحية، في الوقت الذي نحن بحاجة إلى الوقوف عند دراسات تكون جديرة بالتأمل والدراسة المتعمقين. انظر ملامح هذا التهافت في: علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف؛ المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1996.
[28] - جابر عصفور: هوامش على دفتر التنوير، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1994، ص58.
[29] -يشبه القارئ بـ"بروكيست" وبروكيست هذا قاطع طريق يوناني كان يعذب ضحاياه بطريقة فريدة من نوعها. كان له فراشان: فراش كبير وفراش صغير. فكان يطرح المسافرين الطويلي القامة على الفراش الصغير، والقصيري القامة على الفراش الطويل. ويحاول أن يجعلهم على قد الفراش.
راجع: ع.العروي وعبد الفتاح كيليطو: (مساءلة القراءة)، من كتاب: المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية؛ دار توبقال، الطبعة الثانية، 1993، ص20.
بقلم: عبد القادر بودومة