لا يمكن استعراض مقولات التفكيك بصفحات قليلة لسببين أساسيين : الأول يعود إلى التداخل الحاصل بين ما هو نقدي ( لغوي ) وبين ما هو فلسفي في تلك المقولات ، أما السبب الآخر فيعود إلى إشكالية المفاهيم التفكيكية ذاتها فمن الصعوبة بمكان تحديد أو حصر أي مفهوم تفكيكي ابتداءا من مفهوم التفكيك نفسه. ونظرا لما تقدم سنقتصر على إلمامة مكثفة نحاول من خلالها بيان الأوجه الأساسية لاشتغالات التفكيك بوصفه منهجا نقديا يعمل على تفويض أو تفكيك النص الأدبي من الداخل ، لكن هذا المسمى لا يمكن أن يتحقق ما لم نفهم ما هية التفكيك واهم مقولاته ولو على سبيل التبسيط .

فالتفكيك هو الترجمة الحرفية لمفهوم الــ Deconstruction الذي قد يترجم إلى التقويض أيضا كما فعل صاحبا دليل الناقد الأدبي بحجة ان مفهوم التقويض أدل على قصد دريدا من مفهوم التفكيك الذي يتضمن معنى ( البناء بعد التفكيك) الذي لا يرتضيه دريدا نفسه. ويبدو أن منطلقات التفكيك كانت في أول أمرها – لا سيما عند دريدا – منطلقات فكرية ، فقد كان الهدف من وراء التفكيك خلخلة المرتكزات التي استند عليها الفكر الغربي ، وكأن التفكيك يمثل نقدا للذات الأوربية ، فالفكر الغربي بحسب دريدا قام على مجموعة من الثنائيات مثل : العقل / العاطفة ، والذات / الأخر ، والمشافهة / الكتابة ، والرجل / المرأة . والأكثر من هذا نرى إن هذا الفكر قد نظر إلى الطرف الثاني من هذه الثنائيات نظرة دونية ، مما جعله يتمركز منطقيا على الطرف الأول فغابت عنه نصف الحقيقة وقد سار على وفق هذه الخطيئة التاريخية ورسخها أكثر علماء اللغة وعلى رأسهم سوسير الذي أكد على ثنائية الدال والمدلول مبرزا حضور اللفظة وغياب المعنى ، وكذلك امتياز الصوت على الكتابة أو الخط .

ومن أجل نقض هذه الطريقة في التفكير تصدى دريدا لهذه المهمة محاولا تأكيد أسبقية الكتابة على اللفظ ، ومن ثم تأكيده على تهافت جدل هذه الثنائيات وضعف مرتكزاتها الفكرية من خلال منظومة مفاهيم سنها في مجموعة من الدراسات والكتب التي اتبع في كتابتها طريقة مطابقة لما يعتقده هو منهجية تفكيكية في الكتابة ، محاولا في كل ذلك محاكمة تلك المسلمات واستجوابها واحدة بعد أخرى . يرى دريدا أولا : أن الكتابة لا بد أن تكون سابقة للصوت لا كما اعتقد الفكر الغربي ، لأنه وجد أن الكتابة ليست تمثيلا فقط للأصوات الملفوظة ، وإنما تمثل أصلا يتوحد فيه اللفظ والمعنى على وفق مبدأ الاختلاف الذي يطلق عليه دريدا مصطلح ( الكتابة الأصل) فالكتابة عند دريدا عملية ( انكتاب ) دائم فهي توليد واختلاف وتكرار والكتابة الأصل لا وجود لها إنما هي عملية مستمرة لتوليد المعاني لذلك فإن هذا الأمر ينسحب على علاقة الفلسفة بالأدب فلطالما ادعت الفلسفة أنها أكثر عقلانية من الأدب بحجة انه يعتمد على الاستعارات والمجازات البلاغية في حين ان حقيقة الأمر تؤكد على أن لغة الفلسفة أكثر استخداما لتلك الفنون البلاغية من الأدب ذاته لأننا لا نستطيع ان نضع ايدينا على الكتابة الأصل التي تخلو من الاستعارة أو المجاز فلا مبرر لادعاءات الفلاسفة بعقلانية لغتهم وعلوها على لغة الأدب. ويلتفت دريدا إلى طريقته في الكتابة ليؤكد ان المفاهيم التي يستعملها في منهجه التفكيكي مثل ( الأثر ، الانتشار ، التكرار ، الاختلاف ، الملحق ، الإضافة ) لا تمثل حقائق او مسلمات ويمكن القول أنها تمثل أشياء ( موجودة وغير موجودة) في الوقت ذاته ، فهذه المفاهيم تمثل ( بنية تحتية ) لكنها بنية غير مادية ولا وجود لها أصلا .

فنحن لا يمكن لنا الإمساك بشيء اسمه الأثر ، لكننا نعي أن هذا المفهوم يرتبط بمفهوم الحضور ، فمفهوم الحضور يتضمن بداخله أثرا لغيابه أو اختلافه الدائم. فإن كل مفهوم لا يمكن ان يكون حاضرا إلا من خلال بذرة الغياب الموجودة بداخله ، بمعنى إن حضور الأشياء غير ثابت ولا هو دائم و لا يمكن له أن يكون بشكل واحد وما ذاك إلا لأنه يمثل حضورا لشيء أخر هو اثر ذلك الحضور ، وهذا يقودنا إلى مفهوم الاختلاف الذي رسمه الأديب العراقي كاظم جهاد بالصورة (الإخـ (تـ) لاف ) ليحمل معنى الاختلاف والتأجيل بمعنى إن أي كلمة أو مفهوم لا يمكن أن تحمل أي قيمة ولا يمكن وضعها بأي وصف لأنها لا يمكن أن تدل على شيء محدد فمعناها غير ثابت مطلقا لأنه مرتبط باختلافه عن ما يجاورها ولذلك فالمعنى مؤجل دائما ، ولا وجود له إلا ذلك الأثر أو الأصل الذي مر سابقا . وهذا بدوره يجرنا إلى مفهوم أخر خصص دريدا له كتابا كاملا وهو (الانتشار ) فإذا كان المعنى مختلفاً ومؤجلا دائماً فهذا يعني انه يحمل صفة الانتشار لأنه مضاد تماما لصفة التحديد فالدال (اللفظ) في عملية ( لعب حر ) ولا يستقر على مدلول واحد فمثلا مفهوم الدواء – بحسب دريدا – قد انتشر إلى معان أخرى مما شكل سلالة مفاهيم مثل : العقار ، العلاج ، السم ، الخ.... وبذلك فإن أية لفظة أو أشارة لا تحمل مفهوم التكرار ـ والتكرار مفهوم أخر ـ عند دريدا لا يمكن أن تكون أشارة لان أهم ما يميز الأشياء هو ذلك التكرار الموجودة بداخلها والتي يطلق عليه دريدا مفهوم ( التكرارية ) ويريد به فكرة التكرار ذاتها أو القابلية للتكرار فهو أهم من التكرار ذاته وفي كتابه ( علم الكتابة ) يؤكد دريدا على مفهوم آخر وهو مفهوم الملحق او الإضافة من خلال دحضه لأفكار أفلاطون وروسو الذين ـ بحسب ما يقول دريدا – هاجما الكتابة بالكتابة ذاتها بإبرازهما عيوب الكتابة من خلال وصف ( النطق والطبيعة بالكتابة نفسها مما جعلهما يقعان في تناقض صارخ ، لذلك يرى دريدا أن وصف الحضور أو الطبيعة يعتمد دائما على شيء أخر يطلق عليه (الملحق أو الإضافة ) الذي وضع في المرتبة الثانية في الفكر الغربي في حين يرى دريدا أن الملحق لابد أن يكون سابقا للحضور ذاته لكي يحقق له الإدراك والتمييز .

مما تقدم نجد أن التفكيك يحاول – لا سيما عند رائده الأول دريدا – إلى خلخلة المسلمات المألوفة من اجل خلق منهجية جديدة في النظر إلى الأشياء ومنها – طبعا – النص الأدبي – لذلك يسعى التفكيك في تعامله مع النصوص الأدبية إلى قراءة النصوص قراءة مزدوجة ، من اجل اكتشاف المعاني الصريحة فيه ومن ثم السعي إلى كشف ما سكت عنه ذلك النص لتفكيك الأسس الخفية التي إنبنى عليها ، لذلك فالإجرائية التفكيكية تعتمد أساسا على فكرة أن النص الأدبي يتضمن بداخله نقاط قطع او فجوات تسمح بقراءات لامتناهية فلا يوجد مركز أو معنى ثابت مطلقا ولذلك لا توجد قراءة واحدة يمكن أن نقول عنها أنها صحيحة بل ان كل قراءة تعد إساءة لما قبلها أو محوا لما قبلها و لا وجه واضح للنص بل هو أشبه بوحش اوريلو الذي كلما قطعت أجزاءه عاد ثانيا الى الوجود وبذلك صار النص فضاء حراً للعب واللهو والانتشار والتفسير والتأويل اللامتناهي. •

للاستزادة يمكن العودة إلى مؤلفات دريدا المترجمة إلى العربية : ومنها : الكتابة والاختلاف ، وفي علم الكتابة ، والانتشار ، ويمكن العودة إلى ما كتب عن التفكيكية مثل : التفكيكية دراسة نقدية لبيرزيما ، والتفكيكية لكرستوفر نوريس ومدخل الى فلسفة جاك دريدا لسارة كوفمان . كذلك لابد من العودة الى كتب بارت المتأخرة وكلها مترجمة الى العربية مثل : لذة النص ونقد وحقيقة وهسهسة اللغة.

 بقلم : علي حسين يوسف