كثيرا ما يتم الحديث عن مسائل فلسفية وديداكتيكية من منظورين: منظور مفاده أن الفلسفة تحمل في ذاتها بيداغوجيتها، وبالتالي فهذه الأخيرة تعيق وتشوش المسار الفعلي الحي للتفلسف، ومنظور خلاصته أن البيداغوجيا ضرورية للفلسفة، إنها تنقل الفلسفة من مجالها المجرد الأكاديمي إلى مجالها التربوي التعليمي، وإذا كان الأمر كذلك،
فكتاب «مسائل فلسفية وديداكتينية» للباحث الدكتور محمد قشيقش، الصادر عن مطبعة مرجان بمكناس، والذي نود تقديمه للقارئ، ينطلق من تصور مفاده أن لا معنى للفلسفة إلا من خلال الديداكتيكا، ولا معنى للديداكتيكا إلا من خلال العدة المعرفية الفلسفية المؤطرة ضمن إشكال واضح ودقيق للمنشط تجاه المتعلم. داخل هذه العلاقة الجدلية بينهما، يمكن الحديث عن أستاذ الفلسفة.
وبناء عليه، سنقدم هذا الكتاب من خلال محورين: محور أول مرتبط بالمسائل الفلسفية التي تشكل المستوى النظري والمعرفي للأستاذ. ومحور ثان يتعلق بالمسائل الديداكتيكية التي تشكل بدورها الجانب التطبيقي العملي التربوي، يتعلق الأمر هنا بالنقل البيداغوجي، فقد عالج الأستاذ الدكتور محمد قشيقش المحورين بلغة أسماها الفيلسوف الفرنسي الديكارتي «الوضوح والتميز»، اللذين يحولان دون الأحكام المختلفة والمتداخلة، التي تثير التشويش والغموض لدى القارئ.
وإذن، ما هي هذه المسائل الفلسفية؟ وما هي هذه المسائل الديداكتيكية؟
1 - مسائل فلسفية:
تم فحص هذه المسائل الفلسفية من خلال مقاربة مفاهيم أساسية:
المفهوم الأول: العنف من خلال عدة أبعاد:
البعد الأول، العنف بما هو تشريع للاختلاف. والبعد الثاني، العنف بما هو موضوع للفحص الفلسفي. البعد الثالث، العنف بما هو سلطة سياسية قاهرة (نموذج سقراط في مواجهة كاليكلس). البعد الرابع، العنف بما هو مناقض للعقل، ومحنة هذا الأخير داخل ثقافة يغيب فيها التسامح .
المفهوم الثاني: الأخلاق في الفلسفة الإسلامية من خلال نموذج الفارابي ومنزلة كتابه التنبيه على سبيل السعادة، وضمن متنه الفلسفي. أما في الفصل الثاني من الكتاب فقد عالج الأستاذ قشيقش مسائل ديداكتيكية تمثلت في فحص ثلاثة أبعاد أساسية للدرس الفلسفي وهو يمارس داخل القسم بكل حمولاته المعرفية والديداكتيكية والتربوية، فهناك أولا النص الفلسفي المشتغل عليه، والمنزلة التي يكتسبها هذا الدرس، وهناك ثانيا المدرس الذي يتحمل مسؤولية الدرس الفلسفي واقع وآفاق عمله، والبعد الثالث محتوى الرسالة الفلسفية/ الدرس، وجهة حضور الدرس الفلسفي الإسلامي فيه.
أ- الفلسفة والاختلاف ومناهضة العنف:
إذا كانت الفلسفة تتميز بخصائص أساسية كالعقلانية، والتساؤل، والتحليل، والنقد التركيبي الشمولي، وبالتالي فهي فكر اختلافي مناهض بامتياز للعنف المادي والرمزي، فإن الدكتور محمد قشيقش قارب هذه الأطروحة التي تصدرت بداية الفصل الأول من خلال محطات أساسية من تاريخ الفلسفة (نماذج مختارة من الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية)، كما واجهت الفلسفة العنف من الداخل، عنف بعض الفقهاء وبعض المحسوبين على رجال الدين (ص: 14) واتخذ العنف ألوانا وأشكالا·
ومن أبرز نماذج العنف، فتاوى ابن الصلاح الذي أكد على «أن الفلسفة رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والثرثرة»، وقول أحمد بن مصطفى المعروف بطاش زادة الكبرى «الاشتغال بحكمتهم - أي الفلسفة - حرام في شريعتنا، وهم أضر على عوام المسلمين من اليهود والنصارى··· « (ص: 16)، زد على ذلك، ما وقع للكندي والفارابي وابن سينا، وما آل إليه مصير ابن رشد وابن باجة، بل وحتى الجاحظ الذي يعد من المتنورين، ومن جهة أخرى مورس العنف ضد خطابات أخرى مثلت الفلسفة بلغة الأدب، والعلم، والفنون الأخرى، ودافعت من قريب أو من بعيد عن العقل والعقلانية، والحق في الإبداع، بما هو حق في الاختلاف والتسامح، كما مورس العنف ضد الفلسفة داخل حقول معرفية أخرى، وضد الفلسفة التي تمثلت عبر صور ونعوت، كـ «الحداثة والعلمانية والعقلانية والحرية والحق في الاختلاف» (ص 18).
إن الفئة الخاصة المدافعة على هذه الدعاوي نعثوا بأوصاف العنف الرمزي، بل والعنف الدموي كما حدث للباحث «حسين مروة»، و»فرج فودة»، و»نجيب محفوظ» وقبلهم «طه حسين»، و»الطيب صالح» وما حدث للباحث نصر حامد أبو زيد وزوجته يونس ابتهال· مقابل هذا العنف الممارس ضد الفلسفة في حياتنا المعاصر. نجد احتفاء بالفلسفة في أوروبا وخاصة في فرنسا، ولا أدل على ذلك فتح عيادة خاصة في " العلاج بالفلسفة" الذي برهن على"أن الفلسفة ليست فقط مجالا للجدل التجريدي بل بالإمكان الاستفادة منها بالملموس في الحياة اليومية للإنسان" ص: 19.
إذا كانت هذه هي بعض أشكال العنف التي مورست ضد الفلسفة، أي ضد العقلانية والتعقل،وضد حرية الرأي، والحرية في حق الاختلاف، وضد كل أنماط الخطابات الأخرى التي مثلت الفلسفة كالأدب بكل أصنافه، فماهي مهام مدرسي الفلسفة إزاء هذه العنف الرمزي والمادي؟ يجيبنا الدكتور الباحث محمد قشيقش، إن من مهام مدرسي الفلسفة أن يكون" نموذجا يقتدى به من طرف المتعلمين على مستوى النظر والعمل معا، أي (أن يجسد) في تفكيره وسلوكه هذه القيم النبيلة- أي قيم العقلانية، والنقد، والحق في الاختلاف، والتسامح، والتفاؤل...- ولن يتم له ذلك إلا بأمرين متداخلين أولهما السمو بالنفس إلى رحاب الفلسفة،ثانيهما أن يمتلك المدرس الأدوات الديداكتيكية لإنجاز هذه المهام" ص: 23.
هنا أفتح قوسين، وأتساءل أليس على الفيلسوف، أو بالأحرى على مدرس الفلسفة، وعلى حد موقف المفكر طه عبد الرحمان أن " يبحث كيف يصوغ عبارته، وكيف ينشئ مضمونه، وكيف يأتي سلوكه... وهل سلوكه يجتهد في التلبس بما يدعو إليه". فقه الفلسفة، ج:1، ص: 19.
ب - العنف ضد سقراط وحقيقة المواجهه:
عنف مورس دخل صراع فلسفي/سياسي، صراع بين أطروحتين مازال صداها إلى اليوم، الأطروحة الأولى يمثلها جورجياس وتلامذته خلاصتها أن الخطابة أسمى الصنائع. الأطروحة الثانية يدافع عنها سقراط وهي أن الخطابة ليست بأي حال من الأحوال صناعة سامية، وليست غايتها المعرفة. مقابل هذين الأطروحتين هناك رجل السياسة / العنف المادي كاليكلس الذي وعى بالأبعاد الفكرانية لأطروحة سقراط، وانعكاساته على قاطني المدينة من خلال دافعه على شرعية الفلسفة وضروريتها في المدينة. في سياق هذا الصراع، وتضارب الآراء بين شرعية الخطابة، وشرعية الفلسفة ختمت المحاكمة الفلسفية / السياسية بماهي "بيان ضد الفلسفة" ضد العقلانية، وشرعية الاختلاف، نعم، ختمت بكون" الموت لا تنطوي في ذاتها على شيء سخيف اللهم بالنسبة لمن كان في منتهى الجنون والجبن.
إن ما يخافه الإنسان هنا هو أن يكون مجرما" ص: 63. إذا كان هذا هكذا،فما هوية المتن الأخلاقي الأرسطي وفي مقدمته "الأخلاق إلى نيقوماخوس؟ وماهي جهات حضوره في المتن الأخلاقي عند الفلاسفة في الإسلام؟.
ج - " الأخلاق إلى نيقوماخوس"عند فلاسفة الإسلام، و"التنبيه على سبيل السعادة" عند الفارابي:
إذا كانت الفلسفة ضد كل مظاهر العنف، فما نصيب الفلسفة من الأخلاق؟ وكيف انتظمت الفلسفة تجاه الأخلاق؟.
بعد فحص بعض الصعوبات التي اصطدم بها المشتغلون على نص" الأخلاق إلى نيقوماخوس" والإشكالات التي واجهتهم، وهي إشكالات مهمة في فهم فلسفة أرسطو الأخلاقية في الإسلام، خلص الأستاذ محمد قشيقش إلى القول"إن هذه نماذج إشكالات عويصة لم تحسم بشكل نهائي". ص: 85.
أما المقالة الثانية، فقد فحصت مسألة مهمة مرتبطة بالأصول المؤسسة لفلسفة الأخلاق لدى الفلسفة الإسلامية الفارابي نموذجا، يتعلق الأمربإشكال هوية كتاب" التنبيه على سبيل السعادة" عند الفارابي، هل كتاب في المنطق، أم نص في الأخلاق والفلسفة السياسية؟. خلصت المقالة إلى القول" بدأ في تحصيل السعادة من النقطة التي انتهى إليها في " التنبيه" وهي التي تلخص أطروحته: الغاية من الأخلاق والعلم والمنطق تحصيل السعادة الحقة وهي القضية التي برهن عليها وقدم نتائجها في التنبيه على سبيل السعادة وتحصيل السعادة وفصول منتزعة" ص: 75.
هذا باختصار أهم المسائل الفلسفية التي شكلت الفصل الأول من كتاب" مسائل فلسفية وديداكتيكية" للأستاذ الباحث محمد قشيقش.
بقلم: بوزيد إبراهيم