"المتأمل يصغي إلى الطبيعة، والعالم يستنطقها ويرغما على الجواب" كوفيي.
مساءلة مفهوم النظرية هو التساؤل حول طبيعة التفسير العلمي؟ فالمعرفة الإنسانية ليست انعكاسا للواقع، وفق تصور ادغار موران مما يعني أنها ليست معرفة جاهزة ومعطاة بشكل مباشر (التمايز بين المعرفة العلمية والمعرفة الدينية)، فلا علم إلا بما خفي مادامت الطبيعة يروق لها إخفاء قوانينها، تصبح إذن المعرفة العلمية عملية معقدة ومستثمرة في الزمان، وهي فاعلية إنسانية منظمة وموجهة بهدف فهم الواقع واستخلاص قوانينه، أو تصحيح معارف الإنسان حول هذا الواقع، لذا تصبح الحاجة إلى النظرية لتأسيس ممارسة علمية دقيقة بعيدا عن العشوائية، مادام البحث العلمي في غياب نظرية هو بحث أعمى أكد ذلك كانت Kant على اعتبار أن النظرية تحدد الإطار التصوري والمفاهيم للدراسة العلمية قد لا نتحدث عن العلم بقدر ما نتحدث عن نظريات علمية؟ هو ما يفرض علينا التوقف لمساءلة هذا المفهوم خاصة النظرية الفيزيائية لنموذجيتها، ولأهميتها في صناعة التقدم التقني، نستحضر عبارة" انشتاين، الفيزياء، أه، حذار من الفيزياء". نطرح السؤال الافتتاحي إذن ما هي النظرية كلحظة أولى لبناء تصور دقيق حول هذا المفهوم .
المحو الأول : دلالات المفهوم:
مفهوم النظرية من المفاهيم المتداولة في الخطاب اليومي، ولعل عبارات ما رأيك؟ وما هي وجهة نظرك؟ ما قولك؟ من العبارات الكثيرة التداول . فالنظرية هي 'عطاء حكم أو التعبير عن وجهة نظر(ما)، مما يعني أنها تفكير في قضية (ما)، هذا التصور الاجتماعي لمفهوم النظرية يجعل النظر في مقابل الفعل والعمل، وهو ما يضفي على النظرية بعدا قدحيا وسلبيا في الوقت ذاته، فالإنسان النظري هو الإنسان المتأمل والخيالي، الحاكم الذي يقول مالا يفعل، و يقوم مالا يستطيع فعله " اسمع ولا أدري طحينا" . هذا التصور التحقيري للنظرية يحمل دلالتين أساسيتين : العمل أو الفعل أهم من النظر وأكثر قيمة منه ، النظر يصبح إيجابيا إذا ارتبط بالعمل.
لذا يمكن التأكيد على أن مفهوم النظرية هو مفهوم متعدد الدلالات polysémique فهو لا يكتسي تحديدا نمطيا أو متجانسا بل يكتسي دلالات مختلفة وفق سياقات ثقافية مختلفة.
فداخل البنية الثقافية الإسلامية يصبح النظر أداة للعمل ووسيلة للفعل، وإلا أصبح فاقدا لقيمته"فالمقت أن يقول الإنسان مالا يفعل" وهم ما يعكس طبيعة الثقافة الإسلامية التي تجعل العمل أساس الاستحقاقات والجزاء: قل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " الآيـة.
أما داخل الفلسفة اليونانية فالمفهوم يكتسي دلالة وتمثلا خاصين، ارتباطا بطبيعة هذه الثقافة الميالة إلى التجريد والتأمل واحتقار العمل اليدوي، حيث يصبح النظر أكثر قيمة وأعلى شأنا من العمل ، لأن هذا الأخير من اختصاص العبيد، وهو عقوبة كل من لا يفكر. فالعبد آلة تنفذ أحكام المتأملين ، ولعل اشتقاق كلمة Travail / العمل مشتقة من الاسم اليوناني Tripolis / الأداة التي تقيد العبيد الفارين من العمل، نستحضر أن هذا السياق أسطورة سيزيف، فهو حدهم الالهة والفلاسفة معفون من العمل ليتفرغوا للممارسة مهام التفكير، ما دام العمل من اختصاص من لا يفكر.
+ الدلالة الفلسفية للمفهوم :
· تعريف ابن منظور: النظرية هي ترتيب أمور معلومة على وجه يؤدي إلى استعلام ما ليس بمعلوم، وقيل النظر طلب علم عن علم .
· تعريف لالاند : هي إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ، وقد حدد عدة تقابلات للنظرية يمكن حصرها فيما يلي: أن النظرية تقابل الممارسة والتطبيق، تقابل المعرفة العامية- تقابل المعرفة اليقينية والنهائية لأن النظرية هي بناء فرضي استنباطي يعكس رؤية العالم حول قضية متنازع حولها، كما أنها تقابل المعرفة الجزئية على اعتبار أن النظرية تركيب كلي يسعى إلى تفسير عدد من الظواهر، ويسلم بها كفريضة تحتمل التصديق أو التكذيب من طرف علماء العصر مثلا: نظرية النسبية عند انشتاين أو نظرية كوانتوم الطاقة / ماكس بلانك.
إذا كانت النظرية كإنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ مع اعتبار التقابلات بين النظرية وأشكال الفكر الأخرى، يمكن استخلاص الاشكالات الفلسفية المرتبطة بهذا بموضوع النظرية من خلال الأسئلة الآتية : هل النظرية تنفصل عن التجربة؟ هل النظرية وصف للواقع أو تفسير له، وما هي علاقة النظرية بالواقع ؟
المحور الأول: ما وظيفة النظرية ؟ وظيفة النظرية الفيزيائية بين وظيفتي الوصفي أو التفسير.
تهدف الفيزياء إلى معرفة الواقع المادي معرفة علمية من خلال تحويل الواقع المادي الخام إلى واقع معرفة، من خلال استخلاص القوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية، وذلك اعتمادا على منهج علمي دقيق اصطلح عليه بالمنهج التجريبي الذي حدد خطواته العالم الفرنسي كلـود برنار حيث يقـول:
" الحادث يوحي بالفكرة والفكرة تقود إلى التجربة وتوجهها، والتجربة تحكم بدورها على الفكرة". لذا فالخطوط الأساسي للمنهج التجريبي تتحدد على الشكل التالي:
· الملاحظة العلمية: وهي مشاهدة الحوادث ومراقبتها بغية تحويلها إلى حوادث علمية ، وهي نور يسلطه الباحث على معرفة الواقع ، وهي ليست معرفة عفوية إنها هي ملاحظة موجهة وقصدية، يلتزم فيها الملاحظ بمبدأ الحياد دوره يشبه عمل آلة التصوير.
· الفرضية: وهي أطروحة مازالت لم تتأكد بعد، هي إجابة مؤقتة لتفسير ظاهرة ما من خلال استحضار كل الأسباب الممكنة لوقوع الظاهرة ونشوئها، هي مشروع قانون وليس قانون بعد. ولصياغة الفرضية شروط منها أن تكون نابعة من صلب الواقع المدروس، وأن تكون قابلة للتحقق وألا تحتوي على تناقض داخلي ومنطقي.
· التجريب: وهو إحداث ظاهرة معينة داخل شروط يصنعها العالم، هي إعادة بناء الظاهر ضمن مجال مختبري متحكم فيه يتيح للباحث رؤية جيدة للظاهرة مع إمكانية إعادتها، ويقوم العالم بدور استنطاق الظاهرة المدروسة إرغامها على الإفصاح عن قانونها، ويتيح فعل التجريب إمكانات منها صناعة الظاهرة المدروسة داخل مجال مختبري مراقب، مراقبة الظاهرة بشكل جيد ودقيق تكرار الحادثة، إمكانية تغيير شرط التجربة، إمكانية التحكم في ثوابت ومتغيرات التجربة، عزل الحوادث، مع اعتماد المنهج الاستقرائي لقراءة وتحليل نتائج التجربة.
· القانون: يؤكد أجيست كونت أن القانون هو العلاقة الثابتة بين حادثتين أو أكثر مثلا الماء يتبخر في مائة درجة حرارية في ضغط جوي 76 يشكل قانونا عاما يحكم العلاقة بين التبخر والحرارة، فالقانون هو دراسة العلاقة بين المتغيرات والتوابع، وقد حدد لالاند ثلاث صور للقانون العلمي منها: قانون يدل على التركيب مثلا الماء مركب من الهيدروجين وذرتي أوكسجين. وقانون يدل على ثوابت عددية سرعة الضوء هي 3.10 8 M/S قانون يفيد علاقة ثابتة خصائص الكبريت في الطبيعة أصفر في درجة حرارية 120 يصبح لونه أصفر، في 200 درجة حرارية يصبح لزجا، هذه هي الخطوات المنهجية المعتمدة لدراسة الظواهر الفيزيائية دراسة مختبرية بالنسبة للتصور الوضعي بشقيه الكلاسيكي كونت والمعاصر بييردوهايم.
غير أن وظيفة النظرية خضعت لنقاش وسجال علمي حول طبيعتها هل هي وصفية أم تفسيرية وهو سجال بين تصورين ورؤيتين مغايرتين التجريبية والعقلاني.
• التصور التجريبي لوظيفة النظرية :
تتحدد وظيفة التفسير العلمي بالنسبة لهذا الاتجاه في مهمة الوصف أي وصف الظاهرة وإعطاءها حواسها ووصف مميزاتها مثلا : دراسة الهيدروجين يعني وصف مكوناته باعتباره غاز ذو كثافة ذرية قابلة للاشتعال له الكترون واحد، فالتفسير العلمي داخل المقاربة التجريبية هو عملية وصف مسهب وتفصيلي للظاهرة المدروسة ويشترط في صحة النظرية أن تحمل شرطين:
1 - معرفة الأسباب الحقيقة لحدوث الظاهرة والتي تسمح بتوقعها مستقبلا، لأن هدف كل علم هو وصف الظواهر المدروسة واستخلاص القوانين مما يسمح بإمكانية التوقع وهو ما أكده كارناب أحد رواد الاتجاه الوضعي التجريبي أن قيمة النظرية يتحدد بعدد التنبؤات.
2 - أن يكون التفسير قابلا للاختبار وهو ما يعني الاحتكاك إلى التجربة ، باعتبارها هي معيار صلاحية النظرية أو عدم صلاحيتها.
فالاتجاه الوضعي يربط التفسير العلمي بإمكانية التوقع والتنبؤ من خلال معرفة قوانين الظواهر مما يعني الإقرار بمبدأ الحتمية حيث تكرار الحادثة يعني تكرار سببها، ونفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج ولا مجال لصدفة أو الاحتمال وإمكانية توقع النتائج يكون بمجرد معرفة شروط حدوث الظاهرة.
غير أن تمة تحولات جذرية عرفها العلم الحديث خاصة اكتشاف عالم الذرة والانتقال من عالم الكتلة إلى عالم الطاقة(لحظة انشتاين)، والانتقال إلى العالم الماكرو فزيائي عالم الفضاء وعالم الذرة خلق أزمة في المنهاج، وفق القاعدة الابستيمية (1) تغير الموضوع يؤدي إلى تغير المنهج، مما فرض ضرورة تغيير النظرة والمنهج للتعامل مع الظواهر الفيزيائية الجديدة، هذا التغيير يعني الانتقال من الفيزياء الميكانيكية نيوتن إلى فيزياء نسبية انشتاين هذا التغيير في مجال البحث من المجال المختبري المراقب والعياني إلى المجال الماكرو والميكروسكوبي فرض صياغة جديدة ورؤية منهاجية جديدة نلخصها في الجدول الأتي:
الفيزياء الحديثة/الاتجاه العقلاني المعاصر. |
الفيزياء الكلاسيكية/ الاتجاه الوضعي التجريبي. |
الخطوات |
غير مباشرة عن طريق التأثير. |
مباشرة |
الملاحظة |
من الصعب اجراء تجارب في مجال الميكرو أو الماكرو فيزياء. |
ملاحظة ثانية، إعادة صنع الظاهرة. |
التجربة |
غير ممكنة، لا يمكن قياس سرعة الإليكترون. |
متوفرة |
الموضوعية |
واقع يستحيل رؤيته. |
واقع حسي، مراقب، عياني. |
الواقع المدروس |
غير ممكنة تعوض بمبدأ الاحتمالية والنسبية. |
متوفرة وممكنة وهي شرط العلم. |
الحتمية |
تفسيرية تأملية، بناء نموذج افتراضي يفسر حدوث الظاهرة. |
وصفية استخراج واستنباط القوانين المتحكمة في الظاهرة |
الوظيفة |
فيزياء رمزية، مرتبطة بالرياضيات. |
فيزياء تجريبية مرتبطة بالمشاهدة. |
الطبيعة |
فتغيير مجال وموضوع الفيزياء الحديثة خاصة مع نظرية كوانتوم الطاقة لماكس بلانك، ونظرية النسبية انشتاين فتح آفاقا جديدة، وطرحت إشكالية ابستيمية جديدة كذلك مما فرض ضرورة تعديل النظرية الفيزيائية من حيث طبيعتها ووظيفتها،وبالتالي بلورة رؤيا وإطارا تصوريا جديدا لتفسير ومعالجة مواضيع الماكرو والميكرو فيزياء، بعيدا عن الرؤية التجريبية الضيقة والتي تحدد مهمة النظرية في وصف الظاهرة على اعتبار أن العلم يقوم على أساس وصف الواقع واستخلاص القوانين المتحكمة فيه بالاعتماد على منهج استقرائي بحيث تكون التجربة هي معيار صدق النظرية أو عدم صدقها، واعتبار التجربة هو المصدر الوحيد لبناء واستخلاص القوانين وبالتالي يصبح العقل تابع للتجربة مهمته ترتبط بتسجيل نتائج التجارب وربطها في قوانين.
فجوهر الاختلاف بين الاتجاهين هو معيار المطابقة هل هو خارجي/ المطابقة مع التجربة أو داخلي انسجام النظرية وعدم تناقضها، فالعقلانية المعاصرة (2) في نظرتها الجديدة لم تحصر وظيفة النظرية في الوصف، لأن الواقع المدروس لم يعد قابلا للملاحظة العيانية والمباشرة لذا لم تعد تنحصر مهمة الباحث في المشاهدة بل رد الظاهرة المدروسة إلى بناءات وافتراضات عقلية من حيث تحويل الواقع الحسي إلى واقع رمزي عبارة عن أرقام معادلات بيانات وهو ما يفيد سيادة النزعة الرمزية الرياضية بدل النزعة التجريبية الحسية.
على خلاف هذا الاتجاه الوضعي واستيعابا مستجدات في مجال الفيزياء نشأت عقلانية معاصرة داخل فضاء انتقادي من خلال معارضتها لكل التصورات التي دعت إليها الوضعية التجريبية التي لم تعد قادرة على استيعاب الوقائع الجديدة، في هذا السياق نفهم كتاب باشلار فلسفة النفي non du la philosophie فما هي خصوصية هذه النظرة الجديدة من خلال كاستون باشلار نموذجا.
• التصور العقلانية المعاصرة لوظيفة النظرية:
- وظيفة النظرية هي التفسير والتنبؤ:
إذا كانت النظرية عند بيردوهايم كممثل الاتجاه الوضعي التجريبي هي نسق من القضايا الرياضية المستنبطة من عدد قليل من المبادئ غايتها أن تمثل وبصورة صحيحة مجموعة من القوانين التجريبية، فإن تصور العقلانية المعاصرة سيؤسس تجاوزا لهذا التصور على اعتبار أن مهمة النظرية هي التفسير وليس الوصف حيث يتم البحث عن القوانين من خلال إنشاء الشروط النظرية لتكرار الظاهرة وإعادة بنائها نظريا، مما يعني غياب الواقع المدروس بشكل مباشر مادام هو واقع لا يمكن ملاحظته لكبره أو صغره، والتفسير وفق هذا التصور هو عملية إنشاء جديد للموضوع ليس وصفا له، دائما النظرية تسبق التجربة ولا قيمة للتجربة بدون نظرية، وهو ما أكده كاستون باشلار على أن الملاحظة العلمية تحمل طابع المناظرة حيث تؤيد أو تبطل نظرية سابقة لذا، فمعيار صحة النظرية هو معيار داخلي مرتبط ببناء النظرية المنطقي وانسجامها الداخلي أي عدم تناقضها، وليس معيارا خارجيا كما هو الحل عند الاتجاه التجريبي حيث التأكيد أن معيار صحة النظرية هو المطابقة مع التجربة، فصدق وصلاحية النظرية إذن لا يرتبط بمعيار المطابقة الخارجي مع التجربة.
بناء النظرية العلمية ووظيفتها خضع لنقاش سجالي بين الوضعية التجريبية دوهايم التي نؤكد على وظيفة الوصف واستخلاص القوانين بالاحتكام إلى المنهج الاستقرائي(3)، فان العقلانية المفتوحة باشلار، انشتاين رفضت هذه الرؤية التجريبية وبلورت رؤية جديدة بخصوص شروط بناء النظرية من حيث وظيفتها وعلاقتها بالواقع المدروس.
المحور الثاني : النظرية والواقع:
من المفروض أن ترتبط كل نظرية علمية بالواقع الذي تتولى دراسته، مادامت المعرفة العلمية تقوم على ملاحظة ما حدث من أجل توقع ما سوف يحدث (4) ، وهو ما يعني ارتباط النظرية بالواقع والتجربة إذ لا يمكن تصور دراسة علمية للواقع دون الاتصال به سواء بشكل مباشر أو غير مباشر وهو ما يطرح السؤال الأساسـي ما طبيعـة الواقع المدروس داخل النظرية الفيزيائية هل واقع تجريبي حسي(الاتجاه الوضعي) أم أنه واقع رياضي رمزي أكسيومي (الاتجاه العقلاني المعاصر).
• مفهوم الواقع ودور التجربة عند الوضعية التجريبية:
تتحدد رؤية هذا الاتجاه ضمن ثوابت الفلسفة الوضعية من حيث الاهتمام بالواقع الحسي فقط، الابتعاد عن المجرد واعتبار التجربة معيار صدق النظرية، لذا تم اعتبار الواقع المدروس هو واقع موضوعي، حسي ملموس داخل فضاء مختبري خاضع للمراقبة والقياس والمشاهدة، حيث يقوم الباحث باستنطاق الظاهرة كما أقر بذلك كوفيي بحيث تصبح التجربة هي أساس إثبات أو أبطال الفرضيات، فالفرضية التي تصمد أمام التجربة تصبح قانونا، وهو ما يعني معيار صلاحية النظرية يرتبط بالواقع التجريبي وهو ما عبر عنه بييردوهايم لقولي " النظرية الصحيحة ليست تلك التي تعبر بطريق مرضية عن مجموع القوانين التجريبية "، هكذا تصبح التجربة هي الأساس عند الوضعيين والنظر إلى الواقع المدروس كواقع تجريبي.
• طبيعة الواقع المدروس ودور التجربة في تصور العقلانية المعاصرة:
كان للاكتشافات العلمية الخاصة بالميكرو فيزياء مثل كوانتوم الطاقة عند بلانك، أو التحول من الكتلة إلى الطاقة عند انشتاين أو الميكانية الكوانطية لهيزنبورغ، هذه الفتوحات فتحت آفاق جديدة للبحث وطرحت مشاكل ابستيمولوجية كذلك فرضت على العلماء إعادة بناء تصور جديد وصياغة براديغـم مغاير(5) بتعبير توماس كون. وهو ما فرض تجاوز النظرة التجريبية المرتبطة بالمنهاج التجريبي وبلورة عقلية جديدة عبارة عن عقلانية تأملية منفتحة تقيم حوارا فعالا بين العقل والتجربة حيث لم يعد العقل تابع للتجربة باعتبارها المعيار الأساسي لإثبات الفرضيات ذات الطابع العقلي، كما لم تعد التجربة مصدر خطأ وتيه كما تصور ذلك ديكارت.
هذه العقلانية الجديدة تحاول استيعاب مظاهر الجدة في مجال الفيزياء والتلاؤم مع طبيعة الموضوعات الجديدة، هي عقلانية مرنة مفتوحة تأخذ المعلومات من الواقع وتحولها إلى برامج وإنجازات. هذه الرؤية الجديدة تحت عنوان ابستيمولوجية لا ديكارتية تتجاوز الصرامة المنطقية للعقلانية الكلاسيكية الإيمان بالعقل وحده وهو المصدر الوحيد للمعرفة وترفض أن تكون المعرفة انعكاسا للواقع الحسي، كما هو الحال عند التجريبيين هذه العقلانية المفتوحة تقيم حوارا بين العقل والتجربة حيث يكون للعقل إمكانات هائلة للتأثير في الواقع وخلق ظواهر جديدة ما كان للطبيعة أن تجود بها على الإطلاق(6).
هذا التصور هو ما أكده ألبيرت أنشتاين حيث يؤكد على وجود وحدة داخل النظرية لأنه بدون انسجام والتناسق تفقد النظرية قيمتها المنطقية، فالنظرية الصحيحة تؤلف كلا منطقيا، اذا تبت ان نتيجة واحدة خاطئة وجب التخلي عن هذه النظرية، هكذا تصبح النظرية الصحيحة هي الخالية من التناقض والمسنودة بواسطة عملية استدلالية صرفة ، هذا ما يجعل النظرية الفيزيائية وان كانت تدرس الواقع الفيزيائي كواقع حسي تصبح اقرب الى النظرية الرياضية تتوافق مع المنهج الاكسيومــي الفرضي(7)، هذا ما لأكده انشتاين صراحة " إنني أصبحت أبحث عن مصدر الحقيقة المعتمد في البساطة الرياضية، ان القضية البسيطة منطقيا ليست بالضرورة صحيحة فيزيائيا، لكن القضية الصحيحة فيزيائيا لا بج ان تكون بسيطة منطقيا ".
وبفضل هذا الحوار بين الواقع والعقل او النظرية يتطور العلم وتكثر فتوحاته وهو ما أكده كاستون باشلار أنه بمجرد ما ينظر الباحث إلى جوهر النشاط العلمي سرعان ما يتحقق من أن النزعة الواقعية والنزعة العقلية تتبادلان النصح (8)، هذا يعني أن العلاقـة بين النظرية والتجربة هي علاقة تواصل لأن العالم الذي يجرب في حاجة دائما إلى أن يستدل، والعالم الذي يستدل في حاجة دائما إلى أن يجـرب.
وفق العقلانية المفتوحة لا يوجد منهج تجريبي صرف ولا يوجد منهج عقلي صرف لأن الإنسان في حاجة إلى نظرية كي يلاحظ الوقائع كما هو في حاجة إلى وقائع كي يركب النظرية فليس العلم في نظر باشلار مجرد ملاحظة وتجريب وصياغة قانون حسب (الاتجاه الوضعي)، وإنما هو أيضا تعميم وتفسير وتأمل وتركيب، لذا يصبح الواقع المدروس وفق العقلانية المعاصرة الجديدة هو واقع رمزي، رياضي، فرضي، استنباطي أكثر منه واقع حسي وتجريبي.
ظهور العقلانية المعاصرة كرؤية جديدة تحاول استيعاب مظاهر الجدة والتغيرات الجديدة ورفض تصلب وقصور الاتجاه الوضعي التجريبي هذه الرؤية العقلانية المفتوحة تهدف إلى إحلال ذهنية جديدة تكون مرنة مفتوحة تستفيد من التحولات في مجال الرياضيات وخاصة الهندسات الفراغية والمنهج الاكسيومي في الرياضيات لبلورة منهجا جديدا للتعامل مع القضايا الفيزيائية بمنطق جديد يرفض سكونية ميكانيكا نيوتن وينفتح على نسبية فيزياء انشتاين.
الهوامـش:
(1) – المقصود بها الدراسة العلمية والنقدية للمعرفة العلمية.
(2) – هو اتجاه عقلاني مفتوح يتجاوز تصلط عقلانية ديكارت ويرفض تصورات الاتجاه التجريبي ، حيث النظر الى العقل كبنية مفتوحة متفاعلة مع واقعها حتى مع نقائض العقل.
(3) – هو عملية فكرية بموجبها يتم الانتقال من الخاص الى العام، من المثال.
(4) – برونوسلاف مالينوفسكي، نظرية علمية في الثقافة، الكتاب المدرسي لكتاب الباكلوريا (ص 64).
(5) – هو مفهوم لطوماس كون والمقصود به الايطار التصوري الخاص بكل النظرية.
(6) G.Bachlard , la rationalisme appliqué p.87
(7) – هو المنهج الفرضي الاستنباطي لانتقال من فرضية ما للوصول الى نتائج تبعا لهذه الفرضية.
(8) هانز ريشنباخ ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا (ص :201).
من انجاز : الفرفار العياشي (بتصرف)