تعد المرحلة الثانوية من التعليم المدرسي مرحلة انتقالية تجسد لحظة العبور من سياق تعليمي إلى آخر يقتضي تجديد الخلفيات المعرفية وتنويع المرجعيات البيداغوجية، تراعي مدارك التلاميذ والتلميذات بهذه المرحلة. ولعل نظرة سريعة في مضامين المقررات الدراسية بمختلف المسالك، الأدبية منها والعلمية، تؤكد هذه النقلة النوعية. لهذا الغرض، وانسجاما مع الفئة التعليمية، شكل الكتاب المدرسي مرجعا رئيسا لتمرير المنهاج التربوي المقترح. فإذا كان المقرر الدراسي يشمل مجموع الدروس المبرمجة وفق توزيع زمني مجالي؛ فإن المنهاج الدراسي يقوم على تحديد مجموعة من المنطلقات والأسس الديدكتيكية تراعي سلامة الاختيارات وما يقتضيه من ضبط العلاقة التفاعلية بين المدرسة والمجتمع، مثلما تراعي مواصفات التلميذ عند نهاية استكمال مرحلة التعليم بالثانوي الإعدادي أو بالتعليم الثانوي التأهيلي [1]، إذ لكل مرحلة دراسية مميزاتها الخاصة.  وإذا كان حضور مادة اللغة العربية مبررا في مختلف المسالك الأدبية بالثانوي التأهيلي؛ فإن حضورها بالمسالك العلمية يطرح تساؤلات منهجية عن طبيعة هذا الحضور وكيفية تدبيره. 
فكيف تم التعامل مع مادة اللغة العربية، بوصفها لغة للتدريس؟ وكيف تفاعل معها الأستاذ والتلميذ معا، في سياق العملية التعليمية التعلمية ؟ ثم إلى أي حد يمكن الحديث عن توافق بين المنهاج التربوي والبرامج الدراسية، في تمثلها لمنظومة القيم الإنسانية والجمالية؟ وإلى أي حد استجاب مكون النصوص الأدبية لتطلعات التلاميذ، ذوي التوجه العلمي والتكنولوجي؟
 
1- الكتاب المدرسي وتعزيز اللغة العربية.
يشكل الحديث عن الكتاب المدرسي مدخلا رئيسا لمقاربة محتوى المنهاج والنظر في منطلقاته الفلسفية وأسسه البيداغوجية. فهو وثيقة تربوية، لا غنى عنها، تختزل مضامين المنظومة التربوية وترسم للمتعلم خريطة طريق تيسر اندماجه وتواصله مع المنتج التربوي. وقد "أصبح الكتاب المدرسي، يكتسي وضعا معقدا، فهو لم يعد مجرد أداة مشتركة بين الأستاذ والتلميذ فقط، بل أصبح يحمل رؤية اجتماعية وسياسية. وقد بات من المهم النظر إلى الكتاب المدرسي في علاقته بالمنهاج، وذلك بمراعاة المداخل الأساسية المعتمدة في وضع البرنامج."[2]
 
وتبعا لهذه الأهمية، فقد عرف الكتاب المدرسي بالسلك الثانوي التأهيلي، منذ سنوات، تغييرا على مستوى التأليف والإعداد والبرمجة، حيث تبنت الوزارة مبدأ التعددية والمنافسة، انخرط فيها مجموعة من الفاعلين والمهتمين بالشأن التعليمي. وتبعا لذلك، صدرت كتب مدرسية في مادة اللغة العربية، تستهدف مرحلة دراسية معينة وتتخذ لها اسما مميزا، من قبيل: "المنار"، "الواحة"، "مرشدي"، "الكامل"، "الرائد" وغيرها. ومن ثمة، فالكتاب المدرسي بالغ الأهمية، "باعتباره وسيطا بين الأستاذ والتلميذ، من جهة، وبوصفه وثيقة تربوية تحمل مشروع مؤسسة رسمية، من جهة ثانية. لذلك، كان التعامل معه، وضمنه الإلمام بالبرامج والمناهج، أمرا مطلوبا لقياس مدى التوافق والانسجام بين الوسائل الممكنة وبين الأهداف المعلنة."[3] وفي سياق تدريس مادة اللغة العربية بالشعب العلمية، تستوقفنا المداخل التوجيهية التي اعتمدها مؤلفو الكتب، وكلها مداخل تؤكد أهمية المادة ومكانتها في تجسيد الهوية وترسيخ القيم ودعم الكفايات. فالتلميذ إذ يقبل على تعلم اللغة العربية إنما يتوخى توسيع مداركه واستثمار مكتسباته من أجل تحقيق اندماجه الاجتماعي والثقافي مع المحيط.
 
نقرأ في مقدمة كتاب "مرشدي في اللغة العربية" لجذع العلوم وجذع التكنولوجيا، تنويها موجها للتلميذ والتلميذة، جاء فيه: "هذا كتابك في اللغة العربية لجذع العلوم وجذع التكنولوجيا، اعد وفق التوجيهات التربوية الحديثة، وصمم على نحو يستجيب لحاجاتك التعليمية، ويربط الجسور بين ما اكتسبته في المرحلة الثانوية الإعدادية، وما تنشد بلوغه في المرحلة الثانوية التأهيلية. وقد توخى هذا الكتاب تحقيق مقاصد وأهدف، من أهمها ما يلي:
 
- تنمية كفاياتك اللغوية والمنهجية والتعبيرية.
- جعلك قادرا على توظيف ما حصلته من معارف، ومهارات في وضعيات تعلمية متعددة تعتمد التطبيق والإنتاج.
- تعزيز ما اكتسبته من قيم حقوق الإنسان والمواطنة وغيرها.
- تكوين شخصيتك بكيفية تتيح لك التفاعل مع ما يحيط بك من ظواهر وقضايا ووسائط."[4]
 
ونقرأ في مقدمة كتاب "الكامل في اللغة العربية" للسنة الأولى علوم من سلك الباكالوريا، التنويه التالي: "يصدر هذا الكتاب المدرسي ليعزز ما اكتسبته من تعلمات سابقة، ويمكنك من تنمية كفاياتك وتطوير مهاراتك وبلورة قدراتك، مما يجعلك أكثر فعالية في تلقي المعرفة وإنتاجها في وضعيات تعليمية تعلمية ملائمة، تساعد على إغناء شخصيتك معرفيا ومهاريا ووجدانيا وسلوكيا، حتى تصبح مؤهلا لمعالجة القضايا التي تعترضك في الحياة وتتوفق في إيجاد حلول مناسبة لها. ويستهدف كتابك هذا تثبيت القيم الإنسانية والمواقف الإيجابية التي تضمن لك الانفتاح على قضايا العصر، ويمدك بالآليات المنهجية التي تسعف في بلوغ ذلك. "[5]
أما كتاب "المنار في اللغة العربية" للسنة الثانية باكالوريا علوم، فنقرأ في مقدمته ما يلي: "يندرج هذا الكتاب في سياق التعديلات التي أجرتها وزارة التربية الوطنية على الكتب المدرسية المقررة، ويستكمل ما درستماه في السنتين الماضيتين من مكونات تستهدف كفايتكما اللغوية والمنهجية والثقافية والتواصلية وتدريبكما على مهارات مختلفة بأنشطة متنوعة."[6]
 
انطلاقا من هذه المنطلقات التأطيرية والتوضيحية، نستنتج أنه بالرغم من تعدد المقررات الدراسية الموجهة للمسالك الثانوية العلمية، فقد ظل الهم البيداغوجي لدى مؤلفيها حاضرا، من خلال الانضباط إلى مختلف التوجيهات التربوية والوثائق الرسمية. كما ظل الالتزام بذات المعطيات والمنطلقات التربوية حاضرا، حيث بيان العلاقة بين التلميذ وكتابه المدرسي من ناحية، وتجسيد التوجهات الجديدة للوزارة المعنية، من ناحية ثانية. ولعل التفاف مقدمي هذه الوسائط التربوية حول مجموعة من المصطلحات من قبيل: التأهيل، التمهير، التطوير، التعزيز، الإمداد، التكوين، التمكين، الانفتاح وغيرها، كفيل بأن يبرهن على شرعية هذا المنزع بنوعيه، البيداغوجي والديدكتيكي.
 
ولأن الشعبة العلمية والتقنية والمهنية غير الشعبة الأدبية؛ فإن توزيع حصص اللغة العربية بهما، يختلف باختلاف الأهداف والمقاصد. فسقف اللغة العربية بالمسالك العلمية بمستوياتها الدراسية الثلاثة لا يتجاوز الساعتين في الأسبوع. وهو زمن قد لا يفي بالمطلوب، إذا تم استحضار طبيعة الدروس وطرائق التدريس. واستنادا إلى هذه المدة الزمنية (ساعتين متصلتين أو منفصلتين) يتم تدريس مكونات اللغة العربية باعتماد الأطر المرجعية الخاصة بكل مكون على حدة. وقد شكل مكون النصوص، إلى جانب مكوني علوم اللغة والتعبير والإنشاء، لحظة تربوية مهمة تسعى إلى تقريب التلميذ من أهم الظواهر والقضايا الراهنة التي تمس مجتمعه ومحيطه، كما تمس شخصيته، بوصفه فردا من المجتمع. ولا شك أن ما اقتُرح من مضامين ونصوص أدبية بالمستويات الثلاثة، يكشف سعي الوزارة إلى تطوير المنهاج التعليمي وبذل كل الجهود من أجل الارتقاء بذائقة التلميذ ذي التوجه العلمي.
 
2-الكتاب المدرسي وبرمجة النصوص الأدبية.
حرصت، المقررات الدراسية الخاصة بالسلك الثانوي علوم، على تفعيل ما تضمنته القراءة المنهجية للنصوص الأدبية المبرمجة. كما عمدت على تدبير مجموعة من الأنشطة التعليمية في ارتباطها بالفئة المتعلمة. وذلك باعتماد "نظام الدورات والمجزوءات باعتبارها رؤية جديدة تحقق وحدة المجزوءة بدل الدروس المفككة وتؤهل المتعلم للتكوين الجامعي الذي يعتمد بدوره نظام الدراسة بالمجزوءات، فضلا عن أنها تستجيب لحاجات المتعلم وتقوم على مبدأ التكيف ومواءمة وتيرة التعلم."[7] وتبعا لذلك، تضمن مكون النصوص الأدبية مختارات من النماذج النثرية والشعرية، روعي فيها التنوع والتعدد بما يمنح المتلقي/ التلميذ إمكانية اختبار المدارك واستثمار معارفه في وضعيات مندمجة مختلفة. ومع تنوع المحاور المتصلة بكل مجزوءة، تنوعت النصوص وتنوعت معها المقاربات التربوية. ومن ثمة، أصبح درس النصوص مستودعا معرفيا ولغويا لتعزيز القدرات الذاتية لدى التلميذ وبلورة كفاياته التواصلية والمنهجية والاستراتيجية.
 
في هذا السياق، نكتفي بالحديث عن الشعر، كما استحضره برنامج اللغة العربية للسنة الأولى باكالوريا، مسلك العلوم والتكنولوجيات والمسلك المهني الصناعي، بوصفه مكونا دراسيا من جهة وبوصفه نصا أدبيا قابلا للتفسير، من جهة ثانية. يتعلق الأمر بالمجزوءة الثانية من الدورة الثانية، حيث خصصت لتمرير مجموعة من القيم الإنسانية التي يحفل بها الشعر العربي، منها التضامن والتسامح والجمال. فالشعر في بعض التعريفات هو: "ما يخاطب الوجدان البشري. ويستطيع أن يثيره ويحرك كوامنه، بفضل مضمونه الشعري. وفرق كبير بين المضمون الشعري ومضمون النثر التقريري القائم على مجرد تقرير حقائق أو وقائع او قضايا منطقية أو علمية أو اجتماعية."[8]. إنه، بهذا المعنى أو ذاك، مادة إبداعية تقوم على اللغة والصورة والخيال. واستنادا إلى هذا المفهوم، وُجهت عناية التلميذ، في هذه المجزوءة، إلى تمثل لغة الشاعر وتأمل معانيه حتى يتمكن من فهم الخطاب الشعري واستيعاب القيمة الإنسانية المتضمنة.
 
وقصد الاقتراب من طبيعة النصوص المقترحة في علاقتها بالمجال القيمي، بهذه المجزوءة، ونوعية الأنشطة الديدكتيكية المقترحة للتحليل، نختبر ما جاء في الكتب المدرسية التالية: "الرائد"، "الواحة" والكامل"، وهي الكتب التي حظيت بمصادقة وزارة التربية الوطنية.
 
1-2: في الانتقاء الشعري:
لعل أولى الملاحظات التي تنسحب على الكتب المدرسية، أعلاه، تلك الخاصة بالسنة الأولى، مسلك العلوم أساسا، أن مؤلفيها عمدوا إلى اختيار نصوص بعينها تنسجم وطبيعة المجزوءة المتعلقة بالقيم الإنسانية. كما تبنوا إجراءات منهجية تتولى قراءة النص وتفكيكه، في محاولة للفهم والإدراك. وحرصا منهم على تيسير التواصل، خصصوا للمتعلم مجموعة من الأنشطة الديدكتيكية في ارتباطها بمدخل الكفايات.
 
إجمالا، التزم المؤلفون بتقديم خمسة نصوص شعرية تتماشى وبرنامج اللغة العربية لمجزوءة (قيم إنسانية في الشعر العربي) حيث استعراض قيم "التضامن" و"التسامح" و"الجمال". ثلاثة منها مركزية قُدمت للتحليل المنهجي، ونص تمت برمجته في حصة التطبيق وآخر خصص لمرحلة التقويم والدعم. ولعل نظرة في عناوين النصوص وأسماء الشعراء وانتماءاتهم الجغرافية تبين مختلف الأبعاد التربوية والإنسانية المتوخاة من هذه المجزوءة. غير أن استحضار الشعر ذي الصلة بالقيم الإنسانية، فلم يكن أحاديا؛ بل تم إلى جانبه، إدراج نصوص نثرية تصبّ في ذات المنحى القيمي والجمالي بهدف المطالعة والإثراء. ويمكن تجميع هذه المعطيات ضمن الجداول الثلاثة الآتية:
 
أ‌- الكتاب المدرسي: الرائد في اللغة العربية. س.1. ب. ع.
عنوان النص نوعه صاحب النص موطنه
أخوك (ص129) - شعر عمودي - إيليا أبو ماضي (لبنان).
يا قلب (ص141) - شعر عمودي - رياض المعلوف (لبنان).
العذراء (ص148) - شعر عمودي - أمينة المريني (المغرب).
الجمال السامي (ص155) - شعر عمودي - أبو القاسم الشابي (تونس).
تخلّق الصفح (ص156) - شعر عمودي - أحمد شوقي (مصر).
 
ب‌-  الكتاب المدرسي: الكامل في اللغة العربية. س.1. ب. ع
عنوان النص - نوعه - صاحب النص - موطنه.
أخي الإنسان (ص124) - شعر عمودي - عيسى الناعوري (الأردن).
لنكن أصدقاء (ص138) - شعر تفعيلي - نازك الملائكة (العراق).
النهر الخالد (145) - شعر عمودي - محمود حسن إسماعيل (مصر).
أأخي أنت؟ (ص151) - شعر عمودي - محمد الحلوي (المغرب).
تأملات (ص152) - شعر عمودي - إيليا أبو ماضي (لبنان).
 
ج‌-   الكتاب المدرسي: واحة اللغة العربية. س.1. ب. ع.
     عنوان النص- نوعه صاحب النص- موطنه.
كفالة الشعب (ص122) - شعر عمودي - عبد الواحد أخريف (المغرب).
تسامح الصغار (ص135) - شعر عمودي - أحمد شوقي (مصر).
جمال الكون (ص143) - شعر عمودي - معروف الرصافي (العراق).
أخي الإنسان (ص152) - شعر عمودي - محمد حلمي الأزمي (المغرب).
شفشاون (ص154) - شعر عمودي - محمد الحلوي (المغرب).
 
يلاحظ، من خلال الجداول التوصيفية، أن أغلب النصوص الشعرية التي برمجت بالكتاب المدرسي تنتمي للشعر العربي العمودي، وتتراوح أبياتها بين التسعة والثمانية عشر بيتا. ولعل في هذا الاختيار انحيازا واضحا للتصور الكلاسيكي للشعر، حيث الالتزام بالوزن والقافية وما يحدثانه من نغمية وتطريب لدى المتلقي/ التلميذ. فثمة أربعة عشر نصا عموديا مقابل نص تفعيلي واحد ووحيد[9]. وقد نجد مبررا آخر لذلك كون التلميذ "أصبح ملزما بالتعرف على هذا الجنس الأدبي أكثر من المعرفة التي تلقاها سنة الجذع المشترك، فقد روعي مبدا التدرج في نقل المعرفة، من تحديد المفاهيم إلى امتلاك رصيد بيبليوغرافي مرتبط بالتراث الشعري."[10]
 
كما يلاحظ أيضا، أن المؤلفين تصرفوا في نصوصهم الشعرية المنتقاة، تارة بالزيادة وتارة أخرى بالتعديل أو الحذف، مثلما نوعوا في أسماء الشعراء، من خلال انتماءاتهم الجغرافية، فهناك حضور للمغرب، تونس، لبنان، الأردن، العراق ومصر. غير أنه، بالرغم من هذا التنويع المقصود، فقد كرست تجارب إيليا أبو ماضي ومعروف الرصافي وأحمد شوقي ومحمد الحلوي مثلا، فيما غابت تجارب أخرى من المغرب وسوريا ومصر وفلسطين وغيرها. وهو أمر يستدعي إعادة النظر في اختيار النصوص، من جديد، استنادا إلى التحولات التي عرفتها القصيدة العربية، على مستوى البناء والإيقاع والدلالة. فهل تلميذ المسالك العلمية غير معنيّ بهذا التحول؟ ذاك سؤال.
تنضاف، إلى الملاحظات السابقة، أن هذه النصوص انتخبت من مصادر متنوعة تشكلت تارة، من دواوين الشعراء مباشرة أو عبر وسائط مرجعية أخرى كالمجلات والكتب النقدية، تارة أخرى. علاوة على كون العناوين التي اختيرت للنصوص، تتماهى مع محور المجزوءات الثلاث (التضامن والتسامح والجمال). ولعل الألفاظ أو الإشارات، من قبيل: الأخوة، الصداقة، الكفالة، الصفح، الكون، التأمل وغيرها، تؤكد استجابة النص لطموح المنهاج، تصورا وإنجازا.  
 
2-2: في الإقراء النصّي؛
لعله بتفاوت النصوص المبرمجة بالكتب المدرسية، نكون قاب قوسين أو أدنى من تلكم الأبعاد الشعرية والقيم الإنسانية التي تحفل بها. فهناك صور بلاغية تسرح بخيال التلميذ وتدفعه إلى تأمل المعاني وتمثل الإشارات الجديدة. كما تجعله يستأنس بلغة الشاعر وباستعاراته المختلفة. وبالتالي تدفعه، عبر الإقراء النصّي، بمدلوله التربوي الصرف وبمحطاته الإجرائية فهما وتحليلا وتركيبا، لكي يتشبع بهذه القيم بتجلياتها المختلفة ويستحضرها في سلوكه ومواقفه.  
 
في هذا السياق التعليمي التعلّمي، لا يمكن أن نغفل دور الأستاذ، باعتباره منشطا تربويا، فهو من يلقن ويشرح ويحلل بمعية التلميذ. وقد نصت الرؤية الاستراتيجية على أهمية الانفتاح والتنويع في تجديد طرائق التدريس باعتبارها رافعة ضرورية لأي نجاح مدرسي[11]. وهكذا كلما كان أداء الأستاذ جيدا ومتنوعا في نقل مضامين النص، باستحسانه وتذوقه كان وقعه على سلوك التلميذ موفقا. ومن ثمة، فإن "تنوع طرائق المدرس في تقديم الأنشطة التعليمية بحسب الفصل الدراسي ومستوى مدارك التلاميذ، يعد مدخلا أساسيا لا غنى عنه لضمان نجاح مرتقب أكيد."[12]. 
 
يقترح المنهاج الدراسي لإقراء النصوص الأدبية، وضمنها إقراء النص الشعري، إجراءات متنوعة تستند إلى ما يعرف بالقراءة المنهجية. وتتمثل في مجموعة من الأنشطة الديدكتيكية التي يطبعها التدرج والشمول والتكامل. ومن ثمة، فنجاح الإقراء رهين بمدى مراعاة الأستاذ لقدرات التلميذ ومدى انخراطه في العملية التعلّمية، إنصاتا ومشاركة وتجاوبا.
 
يدمج المنهاج الدراسي النص الشعري، بأنواعه المختلفة، ضمن مكون النصوص. فهو جزء لا يتجزأ من أنواع النصوص الأخرى (مقالة، قصة، رواية، مسرحية وغيرها)، كما أن مجالاته لا تختلف عن باقي الخطابات. ويمكن أن نجمل هذا التصور، على سبيل المثال، في التقديم الذي صاغه مؤلفو كتاب الرائد، جاء فيه: "يتيح لك هذا المكون مواصلة التمييز بين أنواع الخطاب عبر مقاربة الخطاب الإشهاري والصحفي والسياسي، والاطلاع على قضايا معاصرة مرتبطة بعلاقة الإنسان بالتنمية والتكنولوجيا ومشاكل الهجرة، وتعرف بعض المفاهيم المتداولة كالحداثة والتواصل والإبداع، وتمثل القيم الإنسانية التي يزخر بها العشر العربي، من قبيل التضامن والتسامح والجمال."[13]
 
يقترح المنهاج الدراسي بالسنة الأولى باكالوريا مسلك العلوم، نصا شعريا واحدا يتضمن إحدى القيم من القيم الثلاثة المستهدفة. علاوة على نصين أحدهما للتطبيق والآخر للدعم والتقويم. كل نص يتخذ مساحة ورقية تمتد لصفحة واحدة أو صفحتين، فيما الصفحات الأخرى خصصت لتقديم النص والتعريف بالشاعر وتشخيص المكتسبات وأنشطة القراءة. والواقع أن مراحل القراءة المنهجية لا تختلف من مقرر دراسي لآخر، وتتجسد مراحلها في أنشطة الملاحظة والفهم والتحليل والتركيب والتقويم. إضافة إلى ما يقترحه البعض من أنشطة مكملة كالبحث والامتدادات[14] وأسئلة للبحث[15]. 
  
هكذا يستقيم إقراء النص الشعري بالسنة الأولى باكالوريا علوم، من خلال ضبط المقاطع البيداغوجية، عبر تقنية السؤال والجواب، وما ينتج عنهما من تفاعل بين الأستاذ والتلميذ وبين التلميذ والمقروء. وتشكل قراءة النص بما تقتضيه من احترام لمخارج الحروف وتمثل للمعاني أولى الخطوات، ليليها توثيق النص وملاحظة العنوان والتعرف إلى الشاعر فشرح المفردات وصلتها بالموضوع، ثم مباشرة النص بالتحليل المنهجي. وإذا كانت مرحلتي الملاحظة والفهم تنفردان باستيعاب المضامين ورؤى الشاعر عبر اختبار المعجم وتسليط الضوء على حقوله الدلالية؛ فإن مرحلة التحليل تتكفل بتفكيك النص من خلال رصد صوره وحصر أساليبه.
وانطلاقا من طبيعة النص الشعري اللغوية، يتم تخصيص حيز لاكتشاف مظاهر الجمال فيه، بلاغة وتركيبا وإيقاعا. ولنا في الأسئلة التي يقترحها المؤلفون، في الجانب التحليلي، ما يعكس الغاية المنشودة من تدريس النص الأدبي/ الشعري، فإلى جانب الاهتمام ببعده الوظيفي (تمثل القيم) هناك اهتمام ببعده الفني (تذوق النص). ونذكر من نماذج الأسئلة التي تروم تنبيه التلميذ إلى استثمار ما اكتسبه في مكون علوم اللغة واستحضارها أثناء الإجابة:
 
- وضح دلالة التكرار في النص؟
- ما الذي يسم الحرف الأخير من كل بيت شعري؟
- قطع البيت الأخير تقطيعا عروضيا وحدد تفعيلاته وبحره؟
- استخرج المقابلة الواردة في البيت الرابع موضحا ما فيها من جمالية التعبير؟
- يحفل النص بعدد من الأحوال، استخرجها وبين أثرها في معنى النص؟
- بم تفسر تنويع الشاعر أساليبه بين النداء والشرط والأمر؟
- اشرح البيت الأول وبين مواطن جمالية التعبير فيه؟
 
3-2: في الإثراء القيمي؛
لا حاجة للتذكير، من جديد، أن الوزارة قد حرصت على إنجاح مختلف محطاتها الإصلاحية، من خلال توجيهات ومذكرات ووثائق متعددة. فالاهتمام بالتلميذ، في علاقته بالمحيط الاجتماعي وبالحياة المدرسية، ظل هاجسها الأول، تتابع تطوره خلال كل سنة دراسية. وباستحضار التلميذ، يتم استحضار المناهج والبرامج، ومنها الدعوة إلى الاهتمام بالتربية على الاختيار والتربية على القيم. 
هكذا، صلة بمكون النصوص الأدبية/ الشعرية، باعتبارها حاملة للغة ومروجة للأفكار والقيم، يتبين أن مؤلفي الكتب المدرسية، انسجاما مع دفتر التحملات، التفتوا فعلا، إلى نصوص كرست موضوع القيم وجعلته مادة للقراءة والمناقشة، ينهل منها التلميذ والتلميذة. إنها نصوص تباينت موضوعاتها من حيث الطرح والتحليل، كما تفاوتت أبعادها ومقاصدها من حيث المضامين. وهو تفاوت يعكس ما عرفه المجتمع العربي الإسلامي من تطورات وتحولات استهدفت قيمه ومواقفه وجوانب كثيرة من حياته الإنسانية.
 
غير أنه بالرغم من تنويع النصوص بالمقررات الدراسية، يلاحظ أن بعضها - وإن تمثل إحدى القيم المستهدفة مثل التضامن والتسامح والجمال – فقد جاء بسيطا ومتواضعا للغاية. ومرد ذلك أحد الأسباب التالية مثل: اللغة التقريرية أو التعبير المباشر أو الأساليب البلاغية المسكوكة، أو غيرها مما يفقد التلميذ لذة القراءة وفتنة المتابعة، وكأن الشعر مجرد مضامين وأفكار، ليس إلا[16]. فهل الأمر مرتبط فقط بكون الفئة الموجه إليها تنتمي إلى المسالك العلمية والتكنولوجية؟ ذاك سؤال.
 
ورفعا لمثل هذا المطب التربوي، صار لزاما على الأستاذ اختيار نصوص أخرى، من ديوان الشعر العربي، تنسجم ومستوى تلاميذه من أجل تحقيق التفاعل الإيجابي، ليس مع مضامين النص فحسب؛ بل مع ما فيه من رؤى وجوانب جمالية أيضا. فالشعر، ذاتيا كان أم موضوعاتيا، ما كانت لغته موحية ورسالته مصاغة في تعابير وصور مدهشة. وهو التفاعل الذي تضمنه القراءة التوجيهية وتؤسس له، عبر أسئلة ديدكتيكية مناسبة. ويمكن الاستئناس ببعض ما جاء من أسئلة بالكتب المدرسية أعلاه، لنكتشف طبيعة التواصل التربوي الرامي إلى جعل النص في خدمة الهدف التربوي العام ألا وهو التربية على القيم. ومن نماذج هذه الأسئلة:
 
- ارصد مظاهر الإطناب في النص وحدد دورها في إبراز قيمة التسامح؟
- بين أهمية التضامن في التخفيف من معاناة المحرومين؟
- لم ربط الشاعر عزة الشعب بتضامنه؟
- يروم الشاعر تبليغ رسالة إلى الناس من خلال رصد مظاهر الجمال في الكون، أوضح مراميها؟
- بم تفسر إسباغ الشاعر أوصافا إنسانية على عناصر الطبيعة؟
- بين دور التشبيه والمجاز في خدمة القيمة التي يتمحور حولها النص؟
- استخرج تشبيها واحدا من المقطع الأخير؟
- ما الحكمة المستفادة من البيت الأخير؟
 
على سبيل الختم:
تأسيسا على ما سبق، يحظى مكون النصوص بالسلك الثانوي التأهيلي، أولى باكالوريا مسالك العلوم والتكنولوجيا، بأهمية بالغة لأنه يستهدف التلميذ، ومن خلاله المجتمع، كي يتشبث بالقيم الروحية وبالخصال الحميدة، من جهة، ويتمكن من أدوات إجرائية لقراءة النص الشعري وتذوقه من جهة ثانية.
 
ولأجل تحقيق هذا الهدف التربوي النبيل (التربية على القيم والوعي بالجمال) اختيرت نصوص متنوعة لشعراء عرب ينتمون لبلدان مختلفة استطاعوا نقل تجاربهم الإنسانية إبداعيا، عبر وسيط لغوي وباستراتيجية تربوية هادفة. فما جدوى الشعر إن لم يحدث تغييرا في سلوك التلميذ؟ إن لم يزرع فيه حب القيم؟ إن لم يحرك فيه السؤال؟ وإن لم يشعره بالجمال؟.
والآن، بعد مضي أكثر من عشر سنوات على تجديد المنهاج والكتاب المدرسي، نتساءل: ألم يحن الوقت لتعديل المنهاج وتجديد النصوص بما يتلاءم والتحولات الراهنة؟ ألا يمكن معالجة النواقص التي مست المنظومة التربوية، والحد من تسرب الضيق والملل إلى صفوف المتعلمين؟ وبالتالي كيف نحافظ على حماسة التلميذ، ذي التوجه العلمي، في الاهتمام بمادة اللغة العربية، في ظل الفتور القرائي الذي اعترى الكثير وخيم على الفصول الدراسية؟ فالتلميذ غدا منشغلا بغير اللغة وصار كثير الشكوى من الدروس وطرائق التدريس.
ربما حان الوقت لإعادة النظر في قضايا التربية والديدكتيك بالسلك الثانوي التأهيلي، وتغيير ما يلزم تغييره إمعانا في طلب الجودة والارتقاء، مثلما حصل مع المنهاج الدراسي بالسلك الابتدائي.   
   
المصادر والمرجع:
[1] - التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة اللغة العربية بسلك التعليم الثانوي التأهيلي. مديرية المناهج. نونبر2007
[2] - نفسه
[3] - أحمد زنيبر. السلوك المدني والتربية على القيم. مجلة الحياة المدرسية. العدد 9 السنة 2008. ص 26
[4] - مؤلف جماعي. مرشدي في اللغة العربية. جذع علوم وجذع التكنولوجيا. إفريقيا الشرق. الدار البيضاء 2005. ص3
[5] - الكامل في اللغة العربية. السنة الأولى من سلك الباكالوريا علوم. مكتبة العلوم الدار البيضاء 2006. ص3
[6] - المنار في اللغة العربية. السنة الثانية من سلك الباكالوريا علوم. طوب إديسيون 2007. ص3
[7] - التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة اللغة العربية بسلك التعليم الثانوي التأهيلي. مديرية المناهج. نونبر2007
[8] - محمد مندور. الأدب وفنونه. دار نهضة مصر للطباعة والنشر. القاهرة. ص36
[9] -  قصيدة "لنكن أصدقاء" على وزن المتدارك لنازك الملائكة. الكامل في اللغة العربية. ص138
[10] - عبد العزيز خلوفة والمختار السعيدي. ديدكتيك اللغة العربية والمقاربة بالكفايات بالسلك الثانوي التأهيلي. 2005. ص39
[11] -  انظر الرؤية الاستراتيجية 2015/2030 وما خصته للنموذج البيداغوجي المنشود ص30
[12] -  أحمد زنيبر. السلوك المدني والتربية على القيم. مجلة الحياة المدرسية. العدد9 السنة 2008.  ص27
[13] - الرائد في اللغة العربية. ص 3
[14] - انظر الرائد في اللغة العربية. صفحات: 131/143/150
[15] - انظر الكامل في اللغة العربية. صفحات: 126/140/147
[16] - راجع المقررات الثلاثة وما تشمله من نماذج شعرية محدودة التفاعل. وقد حصل معنا مثل هذا، فترة التدريس بالسلك الثانوي، ولاحظنا فتور التلاميذ وعدم تفاعلهم مع النص/ النموذج الذي لا تتوافر فيه شرط الإبداع والإدهاش.
 إعداد: أحمد زنيبر