المنهج من أهم سمات الدراسة العلمية كما سبق أن أشرنا. وقد أنجز علم اللغة الحديث تقنين مجموعة من المناهج لدراسة اللغة، وكل منهج من هذه المناهج يسد حاجة يتطلبها الواقع اللغوى؛ فبعضها يكشف عن أسرار النظام اللغوى للغة موضوع الدرس، وبعضها يرصد حركة التغير اللغوى عبر الزمن، والبعض الآخر ينهض بـهدف التأصيل اللغوى وتصنيف اللغات إلى أُسرات لغوية، وبعضها يأتى لتحقيق غايات تربوية فى مجال تعليم اللغات. وعلم اللغة الحديث يستخدم المناهج الأربعة التالية:
 
1- المنهج الوصفى Descriptive Method.
2- المنهج التاريخى Historical Method.
3- المنهج المقارن Comperative Method.
4- المنهج التقابلى Contrastive Method.
وفيما يلى موجز عن كل منهج من المناهج السابقة:
 
1- المنهج الوصفى:
 يقوم هذا المنهج على وصف اللغة " لغة محددة " فى زمن محدد ومكان محدد ودون اعتبار للخطأ والصواب فيها، فالمنهج الوصفى يصف الحقائق ويناقشها دون فلسفة، أو محاكمة لـها أو إقحام المنطق فى تفسير وتأويل الظواهر اللغوية. وعلى الباحث هنا أن يحدد المستوى اللغوى المقصود بالدراسة لظاهرة لغوية محددة صوتيًّا أو صرفيًّا أو تركيبيًّا أو دلاليًّا؛ وذلك لأن عدم تحديد زمن الدراسة أو مكانها أو المستوى اللغوى المدروس، كل ذلك يؤدى إلى الخلط ويصل بالباحث إلى نتائج مضللة؛ فهذا التحديد من دواعى الدقة التى تتطلبها الدراسة العلمـية.
فالمنهج الوصفى- إذن - يسجل الواقع اللغوى تسجيلاً أمينًـا؛ بـهدف الكشف عن حقائق النظام اللغـوى بمستوياته المختلفة.
وتمثل الدراسة الوصفية للغة خطًّا أفقيًّـا تظهر فيه العلاقات بين العناصر اللغوية، متميزة عن حقائق النظام اللغوى بمستوياته المختلفة.
إذا أراد الباحث دراسة ظاهرة محددة فى العربية المعاصرة مثل: ظاهرة الغموض فى العربية المعاصرة مثلاً، فعليه أن يحدد مستوى الدراسة من بين المستويات التالية:
 
1- الغموض فى المستوى الصوتى.
2- الغموض فى المستوى الصرفى.
3- الغموض فى المستوى التركيـبى.
4- الغموض فى المستوى الدلالى.
 
أيضًا يدخل ضمن إطار تحديد المستوى: تحديد المستوى اللغوى للبحث "الفصحى أم العامية"، والخطوة التالية هى تحديد زمن الدراسة: "خمس سنوات-عشر سنوات ...إلخ"، حسب المدة التى يراها كافية للوفاء بحاجة البحث.
ثم عليه أن يحدد مكان الدراسة: فى مصر، أم فى الوطن العربى كله... إلخ.
ثم عليه أن يحدد مصادر المادة من اختيار الشرائح التى تمثل العربية المعاصرة تمثيلاً صادقًـا: "جرائد ـ روايات ... إلخ".
ثم يبدأ فى جمع المادة حتى يتأكد من جمع مادة كافية لدراسة الظاهرة موضوع البحث، بشرط الالتزام أثناء الجمع بالحدود الزمانية والمكانية والمستوى اللغوى للبحث.
ثم يبدأ بعد ذلك فى التحليل، من واقع المادة التى بين يديه؛ فلا يسجل أحكامًا مسبقة، ولا يتأثـر بأحكام قديمة عن اللغة أو عن الظاهرة، ويستخدم فى ذلك نظريات البحث الحديثة، فمثلاً فى المستوى الدلالى هنالك نظريات للتحليل الدلالى أهمهـا:
 
• المجـال الدلالـى Semantic Field.
• السـياق Context.
• التحليـل التكويـنى Compenential analysis.
وبعد التحليل يصل إلى وصف دقيق يعبر عن سلوك هذه الظاهرة، ويخرج بنتائج بحثـه.
 
2 - المنهـج التاريخـى؛ Historical Method:
يقوم هذا المنهج على دراسة لغة محـددة عبر الزمن، للكشف عن التغـير اللغـوى على المستويات الصوتية والصـرفية والتركيبية والدلالية.
ويعتمد المنهج التاريخى على المنهج الوصفى الذى يأتى ممهـداً للدراسة التاريخية، فعلى سبيل المثـال يمكن لنا تناول ظاهرة لغوية بالبحث التاريخى بين العصر الجاهلى والعصر الإسلامى "فترتين متقاربـتين"، أو بين العصر الجاهلى والعصر الحديث"فترتين متباعدتـين" ، أو تناول الظاهرة من العصر الجاهلى، مروراً بكل العصور حتى العصر الحديث"فترات متعاقبة"؛ فتأتى الدراسة الوصفية بكل أبعادهـا: "تحديد الزمن، تحديد المكان، تحديد المستوى، تحديد الظاهرة اللغوية، التزام المنهج العلمى وما يتطلبه من دقة وموضوعية"؛ لإنجاز وصف الواقع اللغوى لكل عصر من العصور، ثم يأتى بعد ذلك دور الدراسة التاريخية التى ترصد التغير اللغوى.
 
 ويطمح اللغويون العرب المعاصرون إلى إنجاز معجم تاريخى للغة العربية يؤرخ لألفاظها، على أساس من الشواهد الموثقة، وذلك بدءًا بأقدم نص وردت فيه الكلمة، حتى أحدث استخدام لها، كما فى معجم أكسفورد التاريخى فى اللغة الإنجليزية. ولنضرب لذلك مثلاً:
فى دراسة للباحث حول كلمة "المغفـرة" ـ باستخدام المنهج التاريخى ـ قام الباحث بالخطوات الآتية:
البدء بالدراسة الوصفية الكاملة لاستعمالاتها فى العصر الجاهلى من خلال نصوص الشعر الجاهلى وكذلك النثر الجاهـلى، وتحديد الدلالات الحسية والدلالات المعنوية، ثم تعيين أقدم دلالة للكلمة من بين الدلالات الحسية، ثم ملاحظة العلاقة بين هذه الدلالة وبين جميع الدلالات الأخرى للكلمة، مع اعتبار الدلالات الأكثر شيوعًا.
 
 وأسفر بحث دلالة المغفرة عن تعيين أقـدم دلالة حسية لدلالة المغفرة، وهى "السـتر والتغطـية"، ثم انتقل البحث إلى العصر الإسلامى والدراسة الوصفية الكاملة للنصوص اللغوية خلال هذا العصر، وبخاصة القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف والشعر الإسلامى، وتم تحديد دلالات الكلمة من خلال تلك النصوص وظهر من البحث أن معنى "العفو والصفح" استقر وثبت بفضل شيوع استعماله فى القرآن الكريم.
 
 ثم أتى دور الدراسـة التاريخـية بالمقارنة بين دلالات الكلمة فى العصـرين الجاهلى، والإسلامى ؛ لرصد التغير الدلالى بكل وجوهـه.
وأسـفر البحث عن تعيين التغير الدلالى للكلمة، حيث تحول معنى الستر والتغطية إلى معنى العفو والصفح، وقد مهد المعنى القديم للدلالة الجديدة، ثم امـتد البحث بالكلمة إلى العربية المعاصرة [21].
 
3 - المنهـج المقـارن؛ [22] Comparative Method:
يقوم المنهج المقارن على المقارنة بين لغتين أو أكثر بشرط انتمـاء هاتـين اللغـتين أو تلك اللغـات إلى أسـرة لغويـة واحـدة، لمعرفـة أوجـه التشابه والاختلاف، وتحديد صلات القرابة بين هذه اللغات موضع المقارنة؛ وذلك رغبة فى تصنيف اللغات إلى أُسر وفروع لغويـة، ويقوم هذا التصنيف على أوجه التشابه فى المستويات اللغوية" صوتية، صرفية، تركيبية، دلالية" بين اللغات موضع التصنيف.
كـما تـهدف الدراسـة المقارنـة إلى التوصـل إلى اللغـة الأم Language-Proto لكل أسرة لغوية، وهى لغة من صنع الباحثين ولا وجود لها فى الواقع.
 
 أيضًا تـهدف الدراسة المقارنة إلى تأصيل المواد اللغويـة فى المعاجم، على نحو ما أنجـزه الأوربيون، ذلك مثل معجم فالد ـ بوركونى Walde Porkony لأسرة اللغات الهـندوأوروبية، وهو معجم بالألمانـية، ومعجم المترادفات فى اللغات الهندوأوروبية، الذى صـنفه بكBuck طبقًا للمعانى: A dictionary of selected synonyms in the priniciples into European Language.
 
4 - المنهـج التقابـلى؛Contrastive Method:
فى إطار المدرسـة الوصـفية لدراسة اللغة نشأ حديثًا المنهج التقابلى، لخدمة أهداف تربوية فى جانب علم اللغة التطبيقى فى مجالات متعددة: أهمها مجال تعليم اللغات، فثمة صعوبات تصادف من يتعلمون لغة أخرى "لغة ثانية" بالإضافة إلى لغتهم الأم، وهذه الصعوبات ناتجـة عن الاختـلاف الموجـود بين نظـام اللغـة الأم ونظـام اللغـة الثانـية.
 
 فمن المهم أن يؤخذ فى الاعتبار أن اكتساب لغة جديدة لا يتم بمعزلٍ عن العادات اللغوية للغـة الأم التى استقرت فى ذهن المتعـلم؛ وذلك لأن أعضاء النطق- وكذلك الجزء الخاص باللغة فى العقل- حـدث لـها أمـران:
 
  أ –  تكيـف كل منهـا على النظـام الـخاص باللغـة الأم بمسـتوياته كلهـا"صوتية، وصرفية، وتركيبية، ودلالية".
 ب – حدث بين العقل وأعضاء النطق ما يسـمى بالتوافق الذهـنى العضـلى فى القدرة على أداء اللغة الأم.
ولنضرب بعض الأمثلة للدراسة التقابلية فى مجال تعليم اللغات فيما بين العربية والإنجليزية:
 
1- على المستوى الصـوتى: هنالك فرق بين صوت الراء فى العربية وبين صوت "R" فى الإنجليزية، والعادة اللغوية للعربى فى نطق الراء العربية التى تتسم بالتكرار تغلبه حين ينطق بـ "R" الإنجليزية.
صوت الباء فى العربية صوت واحد "فونيم واحد"، على حين نجد له فى الإنجليزية صوتين مختلفين: "P – B" ولكل منهما فونيم لـه خصائصه النطقـية. وفى المقابل فإن الأصوات "ض، ع، خ، ق" تمثل صعوبة أمام الإنجليزى حين يتعلم العربية.
 
2- وعلى المستوى التركـيبى: نجـد أن الإنجليزى حين يتعلم العربية يتأثر بنسق الإنجليزية فى تركيب الصفة والموصوف؛ فالتعبير العربى " جميل جدًّا " بالإنجليزية هو: Very nice، وقد تعود ذهنه على تقديم الصفة، فيقول:
 
"جدًّا جميل" ، " جدًّا عظيم"، وفى التركيب الإضافى نجد أن العربى تغلبه عادته اللغوية فى تقديم المضاف على المضاف إليه فى مثل "جامعة القاهـرة"، فيقال بالإنجليزية: Cairo university فى حين أن العربى يخطئ وينطق : University Cairo.
وعلى الدارس أن يفرق بين المنهج التقابلى وبين المنهج المقارن، فإن كان المنهج المقارن يقارن بين لغتين أو أكثر، فإنه يضع شرطًا أساسيًّا لـهذه الدراسة المقارنة وهو انتماء هذه اللغات المقارن بينها إلى أسرة لغوية واحدة، فى حين أن المنهج التقابلى يقابل بين لغتين، سواء أكانت اللغتان من أسرة واحدة أم من أسرتين مختلفتين، فيمكن القيام بدراسة تقابلية بين العربية والإنجليزية "أسرتان مختلفتان " أو بين العربية والعبرية"أسـرة واحـدة".
 
 أيضًا يشمل المنهج التقابلى دراسة لهجة محلية واللغة الفصحى داخل لغة واحدة[23]؛ بـهدف تيسير تعلم الفصحى وتذليل الصعوبات التى تواجه من يتعلمون الفصحى من أبناء هذه اللهجة.
يضاف إلى هـذا إمكانية الإفادة من المنهج التقابـلى فى مجـال الترجـمة، وتقديـم أهـم أوجـه الشـبه والاخـتلاف، وأيضًا أهم الخصائص لكل من اللغتين موضوع الترجمة، مما يسـاعد فى إيجاد المكافئ فى حالة الترجمة [24].
كما يمـد المنـهج التقابلى المجالات التطبيقية للفنون بمادة على درجة كبيرة من الأهمية فى المسرح والقصة والتمثيلـية .. ونحو ذلك .
 
 وظهرت فى الآونة الأخيرة دراسات فى العربية [25] تعتبر بدايات مهمة فى الدراسات التطبيقية الخاصة بالمنهج التقابـلى، وتشـير البوادر إلى مستقبل عظيم لـهذا المنهـج؛ وفاءً بحاجة الواقع فى التغلب على صعوبات تعلم اللغات فى إطار المنافسة اللاهـبة بين لغات الحضارة كالإنجليزية والفرنسية والألمانيـة... وغيرها.
***************************
 المراجع:
[21] : د. محمـد محمـد داود: المغفرة (دراسة دلالية)، مجلة علوم اللغة، العدد الأول - المجلد الثالث، س3 - ص155 : 204.
[22] : د. محمـود فهـمى حجـازى: مدخل إلى علم اللغـة، ص 21 .
[23] : د. محمود فهمى حجازى: مدخل إلى علم اللغة ، ص 26.
[24] : يوجين . اى. نيـدا: نحو علم الترجمة، ترجمة: ماجد النجار، ص 76.
[25] : انظر: د. البدراوى زهـران: علم اللغة التطبيقى فى المجال التقابلى.
بقلم: محمد داود