* المجزوءة الأولى : الوضع البشري
المفهوم : الشخص
يقصد بالشخص في السياق الفلسفي، مجموع المحددات الماهوية الثابتة والمشتركة بين الجنس البشري، التي لا تعرف تغيرا أو اختلافا من كائن إلى آخر، كما يحيل أيضاً على الذات الواعية والمفكرة والمسؤولة عن أفعالها مسؤولية قانونية وأخلاقية.
 
* المحور الأول : الشخص والهوية
الإشكال : ما الذي يحدد هوية الشخص؟
ديكارت : العقل هو المحدد لهوية الشخص.
يرى ديكارت أن العقل هو المحدد لهوية الشخص، فمن خلال تجربة الشك التي أوصلته إلى حقيقة الكوجيطو "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، أدرك ديكارت أن الذات جوهرها الفكر، والعقل كنور فطري هو الذي يجعل الشخص يعي ذاته ويثبت وجوده ويبلغ الحقيقة. فمتى توقفت الأنا عن التفكير توقفت عن الوجود، وبالتالي هوية الشخص تتوقف أساساً على الممارسة الفكرية بكل أبعادها : التحليلية والتخيلية والإبداعية...، وهو ما يعبر عنه ديكارت بقوله: "أي شيء أنا؟ أنا شيء مفكر".
جون لوك : الوعي الحسي هو المحدد لهوية الشخص.
يرى جون لوك أن هوية الشخص لا تتأسس على العقل، لأن هذا الأخير صفحة بيضاء، بل تقوم على الوعي أو المعرفة الحسية التي تصاحب جميع أفعاله وتجاربه الشعورية، من شم وتذوق وسمع وإحساس...، فالوعي الحسي هو ما يجعل الشخص "هو هو"، مادام أن الشخص لا يمكن أن يفكر بمعزل عن المعارف التي يكتسبها بواسطة الشعور والإحساس، وبفضل الذاكرة يستمر الوعي في الزمان ويدرك الشخص أنه ذات واحدة وثابتة لا يشوبها التحول والتغيير، فهوية الشخص إذن، تتأسس على الوعي الحسي الذي يستمد من الذاكرة استمراره وذاكرته.
فرويد : اللاشعور هو المحدد لهوية الشخص.
يعتبر سيغموند فرويد أن هوية الشخص تتشكل لاشعوريا من خلال الصراع بين مكونات الجهاز النفسي الثلاث: الهو، موطن الغرائز والشهوات والملذات المكبوتة، والأنا الأعلى، الذي يتضمن مجموع القيم والمثل الأخلاقية والقانونية التي يكتسبها الفرد من المحيط الاجتماعي والتربوي والديني... والأنا، المكون المسؤول عن التوفيق بين المطالب المتناقضة للهو والأنا الأعلى والعالم الخارجي. فاللاشعور هو المحدد لاختياراتنا والموجه الرئيس لإرادتنا ورغباتنا، وبالتالي فهو المسؤول المباشر عن تحديد هويتنا.
 
* المحور الثاني : الشخص بوصفه قيمة
الإشكال : من أين يستمد الشخص قيمته؟
كانط : الشخص يستمد قيمته من ذاته.
ميز كانط بين أشياء الطبيعة التي لا تملك إلا قيمة نسبية مشروطة بالمنفعة المحصلة منها، والشخص الذي يتميز بكونه كائناً عاقلاً وأخلاقيّاً، الشيء الذي يجعل منه غاية في ذاته وليس وسيلة أو موضوعاً. فقيمة الشخص، حسب كانط، يستمدها من كونه يملك كرامة تجعل منه غاية في ذاته وليس وسيلة، وتقتضي التعامل معه بكل احترام وتقدير. كما يؤكد أن قيمة الإنسان الحقيقية تكمن في توفره على عقل عملي أخلاقي يجعل منه موضوع احترام وتقدير سواء من طرف ذاته أو من قبل الآخرين.
هيجل : من أداء الواجب وامتثال القانون.
يرى هيجل أن قيمة الشخص يستمدها من امتثاله لقوانين الجماعة التي ينتمي إليها، ويكتسبها من أدائه للواجب القانوني والأخلاقي الذي تحدده تشريعات المجتمع. لذلك على الشخص أن ينفتح على الجماعة وأن يمتثل للقوانين المنظمة لها ويؤدي الواجب المنوط به حتى يكتسب قيمته، يقول هيجل : "إن قيمة الشخص الأخلاقية تكمن في سلوكه امتثالا للواجب". فقيمة الفرد تتحدد بأدائه لواجبه بحسب المرتبة التي يشغلها، وبالتالي فهي قيمة نسبية متغيرة.
غوسدروف : من المشاركة في الحياة الاجتماعية.
يرى غوسدروف أن قيمة الشخص لا تتحدد في إطار الوجود الفردي الانعزالي، بل في إطار الوجود الاجتماعي التشاركي، فالشخص لا يكتسب قيمته الأخلاقية من ذاته، وكأنه إمبراطور داخل إمبراطورية، بل من الانفتاح على الآخرين وتحقيق كل أشكال التضامن والتعاون معهم، فلا يكفي أن يكون الشخص شخصاً حتى يتمتع بقيمة أخلاقية باعتباره غاية في ذاته، كما يرى كانط، بقدر ما وجب عليه أن ينفتح على العالم ويتقبل الآخرين، في إطار علاقة تعاون أساسها الأخذ والعطاء.
 
* المحور الثالث : الشخص بين الضرورة والحرية.
الإشكال : هل الشخص خاضع للضرورة أم يتمتع بالحرية؟
سبينوزا : الشخص محكوم بالضرورة والحتمية.
يؤكد سبينوزا على أن الإرادة الإنسانية خاضعة للضرورة والحتمية، وما اعتقاد الشخص أنه حر في أفعاله واختياراته إلا وهم ناشئ عن جهل، هذا الأخير، بالأسباب والعوامل الخارجية التي تسيره: البيولوجية والاجتماعية والسياسية...
فالشخص، حسب سبينوزا، ليس ذاتا حرة، بل هو نتاج حتميات طبيعية وموضوعية، حيث شبه دعوى حرية الإنسان بدعوى حرية حجرة متدحرجة من على مرتفع بسبب قوة خارجية محركة لها وليس اختيارا من ذاتها.
سارتر : الشخص حر حرية مطلقة.
يدافع سارتر على الحرية الإنسانية، ويرى أن وجود الإنسان هو وجود لذاته لأن وجوده يسبق ماهيته، فالإنسان مشروع يوجد أولا ثم يصنع كينونته وماهيته بكل حرية، فهو يتمتع بحرية مطلقة ويتحمل مسؤولية اختياراته، وحريته هاته لا تتحقق إلا بالانفتاح على الآخرين، يقول سارتر "إننا مقضي علينا بأن نكون أحراراً"، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يقاوم الجبر ويتحرّر من أسر الطبيعة وقوانينها.
مونييه : الشخص يتمتع بحرية مشروطة.
يرى مونييه أن حرية الشخص مشروطة بالوضع الواقعي الذي يعيشه، ومحصورة في حدود إمكاناته الفكرية والجسدية، إلا أن هذا الوضع المشروط لا يعني الخضوع للضرورة، فالإنسان، حسب مونييه، هو الذي يقرر مصيره ولا يمكن لأي شخص آخر، فردا كان أو جماعة، أن يقوم مقامه في ذلك. بما في ذلك المجتمع الذي ينحصر دوره في تطوير ميولات الشخص باعتماد تربية اقتراحية تقوم على أساس التوجيه والإرشاد البنّاء لا القسري.
 
* المجزوءة الأولى : الوضع البشري
المفهوم : الغير
يرتبط مفهوم الغير بالآخرين، ويتم تحديده بوصفه عالما إنسانيا، يقابله اللفظ الفرنسي Autrui. وعند استخدامنا للفظ الآخر Autre، يكون العالم الإنساني مجرد مستوى من مستوياته، ويشير فلسفيا إلى الأنا الذي ليس أنا، أنا يشبهني ويختلف عني في الآن ذاته، أي أنا آخر منظور إليه ليس بوصفه موضوعاً وإنّما بوصفه ذاتاً بشرية تملك وعيا وإرادة.
 
* المحور الأول : وجود الغير.
الإشكال : هل وجود الغير ضروري لوجود الأنا أم لا؟
ديكارت : وجود الغير غير ضروري لوجود الأنا.
يرى رونيه ديكارت أن وجود الغير غير ضروري لوجود الأنا ما دام أن الأنا تحقق وجودها وتعي ذاتها بمعزل عن الآخر. فخلال تجربة الشك، التي أوصلته إلى حقيقة الكوجيطو "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، عاشت الأنا الديكارتية عزلة أنطولوجية مطلقة بعيداً عن الآخرين، فوجود الأنا هو وحده اليقيني والضامن ليقين كل وجود آخر، فوجود الأنا حقيقة يقينية بديهية لا تقبل الشك أما الغير فوجوده افتراضي استدلالي قابل للشك.
سارتر : وجود الغير ضروري لتحقق الأنا وعيها بذاتها.
يؤكد سارتر أن وجود الغير ضروري لوجود الأنا لتحقق وعيها بذاتها، فرغم أن وجود الغير يحد من حرية الأنا ويفقدها عفويتها وتلقائيتها، ما دام أنه ينظر إليها كموضوع وليس كذات حرة واعية، إلاّ أنه يبقى مع ذلك، الوسيط الذي لا غنى عنه بين الأنا وذاتها. إن نظرة الغير إلى الأنا هي التي تمكن هذه الأخيرة من الوعي بكثير من حالاتها النفسية والسلوكية، كتجربة الخجل مثلاً، التي ما كان من الممكن أن يحصل للأنا الوعي لها لولا النظرة التي تتعرض لها أثناء اللقاء مع الغير ومواجهته.
هيجل : وجود الغير ضروري لتحقق الأنا الاعتراف بها.
يعتبر هيجل أن الغير وسيط أساسي لتحقق الأنا الاعتراف بها كذات واعية ومستقلة، فكل من الأنا والغير يسعى لنزع الاعتراف به كذات حرة وواعية، إلا أن هذا الاعتراف لا يمنح بشكل سلمي، وإنما ينتزع عبر صراع يخاطر فيه الطرفان معا بحياتهما حتى الموت، ولكن الموت الفعلي لا يحقق هذا الاعتراف، بل يحققه استسلام أحد الطرفين بتفضيله حياة التبعية على الموت والفناء. وبالتالي فوجود الغير، حسب هيجل، ضروري لوجود الأنا، ما دام أن السيد لن يكون سيدا إلاّ بوجود العبد الذي يعترف له بهذه السيادة.
 
* المحور الثاني : معرفة الغير.
الإشكال : هل معرفة الغير ممكنة أم مستحيلة؟
سارتر : معرفة الأنا للغير معرفة مستحيلة.
يؤكد سارتر على استحالة معرفة الأنا للغير بسبب النظرة التشييئية، فالأنا تنظر إلى الغير كموضوع خارجي وتسلبه كل معاني الوعي والإرادة والمسؤولية، فحين يكون إنسان ما وحده يتصرف بعفوية وتلقائية، وما أن ينتبه إلى أن أحداً ما يراقبه وينظر إليه حتى تتجمد حركاته وأفعاله وتفقد عفويتها وتلقائيتها. إنّ حالة التحول هاته هي التي تجعل من معرفة الأنا للغير معرفة خارجية وسطحية لا ترقى إلى مستوى المعرفة اليقينية الحقة.
ماليبرانش : معرفة الأنا للغير معرفة تخمينية.
يؤكد ماليبرانش على صعوبة معرفة الغير لأنه ذات أخرى مختلفة عنا، وأقصى ما يمكن بلوغه هو محاولة إسقاط فرضيات تدعي أن ما نشعر به هو نفسه ما يشعر به الآخرون ما دام أنهم من نفس فصيلتنا، إلا أن مبدأ الإسقاط والمماثلة هذا، ليس فعالا لمعرفة الغير، خاصة، حين يتعلق الأمر بالأحاسيس والانفعالات الذاتية. وبالتالي فمعرفة الغير تظل معرفة احتمالية تخمينية وليست معرفة يقينية، ما دام أن الأنا لا تستطيع أن تنفذ إلى أعماق الغير لإدراك حقيقة مشاعره وأحاسيسه وانفعالاته.
ميرلوبونتي : معرفة الغير ممكنة بالتواصل معه.
يرى ميرلوبونتي أن نظرة الغير لا تحول الأنا إلى موضوع، كما أنّ نظرة الأنا إلى الغير لا تحوله إلى موضوع، إلا إذا كان أحد الطرفين مجهولاً بالنسبة إلى الآخر أو متعاليا عليه، ولكن ما أن يهم الغير بالحديث إلى الأنا أو العكس، حتى ينشأ نوع من التواصل والحوار بينهما، ممّا يؤدي إلى تحقيق معرفة يقينية ببعضهما البعض، أساسها التعاون والمشاركة. فالأنا، حسب ميرلوبونتي، قادرة على معرفة الغير، والنفاذ إلى أعماقه إذا تخلت عن تعاليها، وحقّقت شرط التواصل اللغوي والوجداني معه، واعترفت به كذات واعية، حرة ومستقلة.
 
* المحور الثالث : العلاقة مع الغير.
الإشكال : هل العلاقة مع الغير علاقة صداقة أم علاقة غرابة؟
كوجيف : علاقة صراع وهيمنة لنزع الاعتراف.
يرى كوجيف أن العلاقة بين الأنا والغير علاقة صراع دائم يتأسس على مبدأ الهيمنة والرغبة في نزع الاعتراف، فكل من الأنا والغير يسعى لنزع الاعتراف به كذات حرة وواعية، إلا أن هذا الاعتراف لا يمنح بشكل سلمي، وإنما ينتزع عبر صراع يخاطر فيه الطرفان معاً بحياتهما حتى الموت، ولكن الموت الفعلي لا يحقق هذا الاعتراف، وإنّما يحققه استسلام أحد الطرفين بتفضيله لحياة التبعية على الموت والفناء.
كونت : علاقة تكامل وتضامن.
يعتبر أغوست كونت أن الإنسان مدين للإنسانية بحياته وثروته ومعارفه... فما كان له أن يحافظ على بقائه ويبلغ أشده لولا الحماية التي وفرها له الآخرون من آباء وأبناء وأصدقاء...إنّ وصول الإنسان إلى الحالة الوضعية، التي تمثل حالة نضج العقل البشري، تحتاج إلى تجاوز المصالح الشخصية والسعي لتحقيق المصالح العامة المشتركة، الشيء الذي يقتضي انفتاح الأنا على الغير ونسج علاقات تكامل وتعاون معه.
كريستيفا : علاقة الأنا بالغير علاقة صداقة.
ترفض كريستيفا اعتبار الغريب هو ذلك الدخيل الأجنبي الذي يهدد وحدة الجماعة وانسجامها، وتؤكد بالمقابل أن الغريب حقا، هو ذلك الذي يسكن دواخلنا على نحو غريب، إنه ذلك المكون اللاشعوري المعبر عن تناقض الذات وتمزقها. الشيء الذي يفرض على الأنا أن تتخلى عن كل أشكال النبذ والإقصاء والتهميش تجاه الغير الغريب وتسعى جاهدة لنسج علاقات صداقة معه، أساسها الحوار والتسامح والاحترام المتبادل.
 
* المجزوءة الأولى : الوضع البشري
المفهوم : التاريخ
يقصد بالتاريخ مجموع الأفكار والمضامين التي أنتجها الإنسان في مكان وزمان ما، إنه تسجيل واستحضار للماضي والأحوال أو الأحداث التي مرّ بها الكائن الإنساني، وهو أيضاً، علم يبحث في الوقائع والحوادث الماضية، إنه ذاكرة الإنسان بمختلف أنشطتها المادية والفكرية.
 
* المحور الأول : المعرفة التاريخية.
الإشكال : هل يمكن جعل أحداث التاريخ موضوع معرفة علمية؟
أرون : معرفتنا بالماضي معرفة صعبة ونسبية.
يرى ريمون أرون أن المعرفة التاريخية تتشكل انطلاقاً من تحليل المؤرخ للوثائق والآثار التي تركها السابقون، فهي تسعى إلى استحضار ما كان موجوداً ولم يعد له وجود الآن، إنّ معرفتنا بحاضرنا معرفة تلقائية ومباشرة في حين أن معرفتنا بالماضي معرفة صعبة ونسبية لا ترقى إلى مستوى العلمية لأن محاولة فهم وتفسير حياة السابقين علينا تتطلب عدة منهجية وجهداً فكريا.
غرانجي : المعرفة التاريخية ليست معرفة علمية.
يرى غاستون غرانجي أن التاريخ ليس علما من العلوم الإنسانية، بل هو معرفة إكلينيكية نظرية تتأرجح بين الرواية والأيديولوجيا، فالمؤرخ يوجد دائماً في وضعية يشوبها اللبس والغموض لأنه لا يستند إلى منهج علمي واحد بل يكون تارة عالم اجتماع وتارة عالم اقتصاد أو عالم لغة أو عالم نفس... الشيء الذي يجعل من المعرفة التاريخية التي يحصلها معرفة نسبية لا يمكن أن ترقى إلى مستوى الموضوعية واليقين.
مارو : المعرفة التاريخية معرفة علمية دقيقة.
يعتبر هنري مارو أنّ المعرفة التاريخية معرفة علمية دقيقة تقوم على أساس منهج منظم وصارم هدفه الكشف عن حقيقة الماضي الإنساني، وليست عملاً أدبيا أو سردا لأساطير أو قصص خيالية أو حكايات شعبية...، فالتاريخ ضد كل التمثلات العامية الخاطئة عن ماضي الإنسان وتراثه. إنّ المعرفة التاريخية غاية في ذاتها وليست وسيلة لتحقيق غايات أخرى، يقول مارو "التاريخ هو المعرفة العلمية المكونة عن الماضي".
 
* المحور الثاني : التاريخ وفكرة التقدم.
الإشكال : هل التاريخ يسير سيراً تقدميا؟ أم أنه يعرف طفرات وقفزات وتحولات؟
هيجل : التاريخ يسير سيراً تقدميا.
لا يمكن الحديث عن مفهوم التقدم في تاريخ الفلسفة دون استحضار تصور هيجل الذي يؤكد أن التاريخ يسير سيرا تقدميا نحو تحقيق الفكرة المطلقة في الزمان كما تحققها الطبيعة في المكان، فحركة التاريخ هي حركة التحقق التدريجي والنهائي للفكرة المطلقة، وقد شبه هيجل التاريخ بكرة ثلج متدحرجة تراكم اللاحق وتحتوي السابق في سيرها المتنامي نحو تحقيق اكتمالها، وكل حقبة تاريخية هي ضرورية وحتمية في مسار تحقيق هذا الكمال والإطلاق. فالتقدم والحتمية، حسب هيجل، خاصيتان مميزتان لأحداث التاريخ.
ليبنتز : التاريخ تقدم في اتجاه الرقي.
يرى ليبنتز أنّ التقدم في التاريخ يسير دائما في اتجاه بناء حضارة راقية دون أن تكون له غاية محددة ونهائية تمثل مبتغاه وكماله، فهو سيرورة لامتناهية لا تخلو من آلام وأزمات إنسانية، فالتاريخ، حسب ليبنتز، لا يمكن أن يكون تاما ومكتملا، فمازال ينمو ويتقدم نحو تحقيق الخيرات، ليجد نفسه أمام أزمات لم تكن في الحسبان، فحرث الأرض وغرس النبات لا يمنع من أن يلحق الدمار والإتلاف أراض أخرى في مكان ما.
ستراوس : التاريخ عبارة عن طفرات وقفزات فجائية.
ينتقد كلود ليفي ستراوس مفهوم التقدم كما يتصوره رواد النزعة التطورية، مؤكدا أنّ التاريخ ليس سلسلة من الأحداث الضرورية، المنتظمة والمتصلة الحلقات، بل يتطور عبر قفزات وطفرات فجائية، فالتاريخ لا يسير سيراً تقدميا تصاعديا بل هو حركة مبنية على القطائع والانفصالات، فالإنسانية في تقدمها، حسب ستراوس، لا تشبه الفرد الذي يصعد سلما فيخطو خطوات دقيقة في اتجاه مسار واحد، بل تشبه لاعب النرد الذي يرمي بالمكعب رميات متعددة فيحصل على حسابات مختلفة غير متوقعة.
 
* المحور الثالث : دور الإنسان في التاريخ.
الإشكال : ما دور الإنسان في التاريخ؟ هل الإنسان هو الذي يصنع التاريخ؟ أم أن التاريخ هو الذي يصنع الإنسان؟
هيجل : التاريخ هو الذي يصنع الإنسان.
يرى هيجل أنّ الإنسان ليس سوى وسيلة في يد التاريخ يحقق بها غاياته، فما اعتقاد الأفراد أنهم صانعون للتاريخ إلا نتاج مكر التاريخ نفسه، فالإنسان محكوم بضرورة تاريخية تعكس تطور العقل، والعقل هو جوهر التاريخ والمتحكم الرئيس في أحداثه، فالعظماء كالإسكندر ونابليون مثلا، ما هم إلا مجرد وسائل تحقق غايات العقل المطلق، فكل حدث من أحداث التاريخ إنما جرى وفقا لمقتضيات العقل الذي يرتب الأحداث العالمية لتحقيق إطلاقيته.
ماركس : الإنسان هو الذي يصنع التاريخ.
يرى كارل ماركس أن الناس هم الذين يصنعون تاريخهم الخاص ولكن ليس بإرادتهم واختيارهم وإنما يصنعونه وفق شروط معطاة مسبقاً وموروثة من الماضي، إنّ التناقضات التي تظهر بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج تؤدي إلى الصراع الطبقي الذي يعتبر المحرك الأساسي للتاريخ، فالإنسان صانع تاريخه ومبدعه. وبذلك يكون ماركس قد أسس تصوره للتاريخ على أساس مادي تاريخي خلافا للتصور المثالي لهيجل.
سارتر : الإنسان هو صانع التاريخ.
يدافع رائد الفلسفة الوجودية جون بول سارتر على الحرية الإنسانية، ويرى أنّ البشر يتمتعون بحرية مطلقة في تفسير ماضيهم والتحكم في حاضرهم والتنبؤ بمستقبلهم، فهم الذين يصنعون أحداث تاريخهم بكل وعي وحرية، بعيداً عن كل شروط موضوعية خارجية تسيرهم وتحدّد مصيرهم، فالتاريخ ليس نتاج شروط مثالية أو مادية، إنّما نابع من فعالية إنسانية وإرادة بشرية جماعية تسعى لتملك التاريخ وتسخير أحداثه لخدمة البشرية.
 
عن: مدونة منهجيتي (بتصرف)