في البدء كان هناكَ المعنى، لكنّه، وبسببِ طغيانِ الأيدلون[1]، طفق يَغور في سرابِ اللحظةِ الراكضةِ صوبَ حَتفها. فكيفَ السبيلُ لاستعادته من قبضةِ هذا السّرابِ الشبحيّ؟ 
 
 لا تبتغي هذه الورقة أن تكون امتداحًا أو تقريظًا لـنصوص سرديّـــة قَضى الكاتبُ "سعيد أولاد الصغير" زمنًا طويلاً في تحبيرها. لا تبتغي، أيضًا، تقـــري ظـروف اختمارها وسياقات تخــلُّقها. ولا تبتغي، بعدَ هذا وذاك، ردَّ هذه النّصوص إلى النواةِ الدلاليّة الأولــى[2] وأنماط التّسريد التي خضعت لها؛ فنحن لا نريدُ أنْ نكونَ كالبوذيّ الذي يرى مَظاهر الوجودِ كلّها في فولةٍ صغيرةٍ [3]. كلّ ما تتغياهُ، إذًا، هو الإشارةُ، بتكثيفٍ دالٍ، إلى بعضِ الـمَداخلِ القرائية التي قد تكونُ مَساربَ صوبَ احتمالاتٍ دلالــيّةٍ ممكنةٍ. 
 
 إنّ النّص السّرديّ، استتباعًا، لا ينطوي على معنى ناجزٍ، كامنٍ، ومنتهٍ، بل إنه نصٌ مشرعٌ على مفاجآت صاعقةٍ إنْ هو وَجَدَ قارئًا خليقًا بـقراءته. إنّ لا وعيّ النّص أكبرُ من وعي الكاتب وسُلطته. فكلُّ العوالـم الــمُمكنة[4] التي يخلقها السّرد تُبنَى من خلال اللّغة وبواسطتها. واللّغة –كما يوكّد ذلك السميائيون والهرمسيون- حوضٌ رمزيّ زلقٌ وزئبقيٌّ، وفضاءٌ منذورٌ للاعوجاج والالتواءِ والتشتّت. يستدعي هذا اللاوعيّ، المعبّر عن نفسه اعوجاجًا والتواءً وتشتّتًا، قراءةً صغريّةً تفصيليّةً بالمفهوم البارثيّ للكلمةِ؛ أي قراءة تتتبّع سُبُلَ انصراف المعنى ومسالكَ تَدْلالِهِ: تقفّي سيرورات هروبِ المعنى من حدّ إلى حدّ ومن علامةٍ إلى أخرى في حركةٍ دائبةٍ، مترابطةٍ، ومستمرةٍ... 
 
 تَضَعُنَا المجموعةُ "حافية القدر" حُيال عوالــمَ رمزيةٍ تحتفي بالهامشِ والمنسيِّ ومَا اعتادتِ العينُ الإنسانيّةُ المعاصرةُ- التي فقدت رَهافة الـنّظر وعُمقه بفعلِ هيمنة وسائط التواصل الجماهيريّ وقنوات التلويث البصريّ- رؤيته مألوفًا وعاديًا وبسيطًا. 
 
 يمكن، بهذا المعنى، القول إنّ هذه الــمجموعة القصصية تعتمدُ السردَ وسيلةً لــتدثير مناطقَ إنسانيّة، أضحت، بفعل العوامل المذكورة أعلاه، عَاريةً، مُنتهكةً، ومُهملةً. يتراءى رهانُ التدثير السّرديّ، انطلاقًا من مُنظورنا القرائيّ، في جعلَ الغيابِ منطلقًا رئيسًا لبناءِ المعنى، ونسُوق صورَ هذا الغيابِ، ترتيبًا وتفصيلاً وتـــأوُّلاً، في ما يلي: 
 
يتأسّسُ المعنى في قصصِ المجموعةِ على عنصرِ الغيابِ. فالسّاردُ، في كلّ قصّة، مشدودٌ إلى غيابٍ ما: 
 
 غيابُ الأب ورمزيته: في قصص "أجراس الــزّمن" و"الحظّ السّيء" و"برعم الأمل" تنشدُّ ذاكرةُ السَّارد إلى الأب الغائبِ. يحضرُ الأبُ، ها هنا، لا بعدِّه أصلاً بيولوجــــيًّا لفرعٍ تالٍ، بل إنـّـه يتمدّد عبر المساحةِ النصيّةِ باعتبار بُعده الرمزيّ؛ فهو الحماية والرّعاية والــذّاكرة الجينيّـــةُ والمعنويّــةُ والشعوريّـــةُ. في مقابل هذا الغيابِ الــمُوجعِ لـلأب، تحضرُ الأمُّ كعلامةٍ ترفدُ حضور السّاردِ/ البطلِ بما يستطيع به الـمقاومةَ والمجابهة. إنّها تسدُّ ، هاهنا، مسدَّ الأبِ الغائب. فكيفَ تسدّ الأمُّ هذا الغيابَ الشرسَ؟ 
 
  إنّها تسدُّه بحكاياتٍ ومروياتٍ تقتاتُ ذكرياتِ الزّمن الماضي؛ زمن الــحضور الـكاملِ؛ زمن الفرحِ الطفوليّ الـنابعِ من بيتٍ له ربٌّ يحميهِ. ينطوي توسُّل الأمّ بالحكايةِ، أداةً لسدّ فرجاتِ الغياب، على تناظــرٍ غريبٍ وموغلٍ في الذّاكرة الميثولوجية: إنّ الأمّ، هنا، نظيرُ "بنيلوب"، التي كانت تُداري غيابَ زوجها "أوداسيوس" من خلال الحياكة، رافضةً كلّ من تقدّم لخطبتها مُدعياً أنّ زوجها قد غرقَ في بحار "بوسايدون" أو تناهشته الأمزونيات في وديانِ الموتِ. كانت تحيكُ الثّوبَ نهاراً وتفتق أنسجتهُ ليلاً. بين حياكة الثوب وفكّ خيوطه كانت حكايةُ أملٍ عظيمٍ تتبرعمُ في صمتٍ ألــيمٍ. هذا ما كانت الأمّ تفعَلُهُ، بصيغةٍ أُخرى، في قصّة "برعم الأمل"؛ إذ أَنَّ اعتمادها الحكايةَ - بما هي عالــمٌ ممكنٌ مُوازٍ يكونُ، في أحايين كثيرة، أشدّ قوةً وتأثيراً وحضوراً من واقعٍ فعليّ مبذولٍ، مكرور، وباهت*- مكنّها، أولاً، من سدّ الغياب الفادِح للأبِ، وَأقدرها، ثانيًا، على تربية الأمل في أحضان وجودٍ موحشٍ، مخيفٍ، وجارحٍ. 
 
 لا نريدُ، في هذا الــسياق، تلخيصَ الأحداثِ والوقائعِ كما وردت في الـنّصوص؛ فهي وضعياتٌ حدثيةٌ مرئيةٌ يمكن للقارئ تعرُّفها، بنفسه، من خلال قراءةِ الــمجموعةِ القصصيّة. لكن نودُّ الإشارةَ إلى أنّ هذه القصص تَبني معانيها في ظلال الاحتمالِ. لهذا، قد يكونُ غيابُ الأبِ، منطويًا على احتمالاتٍ دلاليّةٍ خصيبةٍ وثرّةٍ، فهو يُومِضُ بنُقصان الـمَعنى، أو فقدانِ الذّاكرة الرمزيّـة، أو حالــةِ وجودٍ يفتقدُ مركزًا قيميًّا يؤطِّرُ سياقاتِ الحياةِ ويضبطُ انزياحاتها وانزلاقاتها. ويكون حُضور الأمّ، بالمقابلِ، وَوَفقَ الهيئةِ الموصوفة أعلاه، شافًا عن حركــةِ إعادةِ الـتوازنِ الدّاخليّ، التي تَضْطَلِعُ بها "القلّة الهائلة"؛ الـهادفة إلى منعِ الانزلاق صوب الـشرودِ بالمعنى الذي يُشير إلــيه الـمفكّر المغربيّ "طه عبد الرّحمن". 
 
 غيابُ الـمعنى وفداحتهُ: وَتَشي قصصُ المجموعةِ، أيضًا، بصورةٍ لِضَرْبٍ آخر من الغيابِ. ففي قصص "أجراس الزّمن"، و" تلميع صُورتي"، و"حين تنقلبُ الأدوار"، و"قصد وقصائد"، يأتلفُ السّردُ، مبنًى ومعنًى، عند الحسرةِ على فقدانِ الـمجتمع دفءَ العلاقات الإنسانية وصِدقها. ويتجلى هذا الفقدانُ في عنصرِ رئيسٍ هو غيابُ الــتراحمِ، بما هو فيضُ حبٍّ ووصل لـلعلاقاتِ الاجتماعيّة وتعضيد للبنيانِ النفسيّ ورأب للصدّع الدّاخلي وإصاخةُ السّمع للمعنى الغميس في سريانــه الجوانيّ والبرانيّ، بالمعنى الذي يومِئ إلــيه السوسيولوجيّ المصريّ "عبد الوهاب المسيري". 
 
 في "أجراس الــزّمن"، مثلاً، يغرقُ الابن في خضم طوفان الصّور المتحركةِ على شَاشة التلفازِ، وحينَ يُقرَعُ الجرسُ يَفتحُ البابَ دون التثبّت من هوية القارع. لا يُلقي بالاً لِـسُؤال الجدّ الــمُستفهم عن هوية القارع. جوابُ الابن أصواتٌ بدون معنى؛ جوابهُ غيابٌ غارقٌ في شواشِ "الحسّ الأدنى"[5]. لقد كانَ، للجرسِ، في ما مضى، قاموسٌ ومعجمٌ ومراتبُ للدّلالة والمعنى؛ وها هو يتحوّل، الآن؛ في أزمنة استشراء النزعة الاستهلاكيّة و ذيوعِ الحسيّة العمياء، آليةَ إشراطٍ سلوكيٍّ، صار الإنسانِ، تحت وطْأَة هذه الآلــيةِ الـمُطْبِقَةِ نيوبها عليه بشراسةٍ، حيوانـًا مُبَرْمَـجًا محكومًا بلحظيةِ الاستهلاكِ وشبقيّــة التلصُّص البصريِّ على حد تعبير "إليزا غودار".[6] 
 
 يصلُ غيابُ الـمَعنى في قصة "تلميع صورتي" ذروتهُ القصوى. يَصلُ التناقضُ، كذلكَ، إلى أشدِّ الـحالاتِ صعقًا ورجًّا: يجلسُ رجلٌ، في الــمَقهى، مأخوذًا بصورته المنشورة في الجرائدِ غبَّ تنصيبه مديراً لصندوق رعاية الأيتام. يرمقُ طفلاً صغيراً يَلــِجُ المقهى حاملاً صندوقاً خشبياً متهالكًا، يُلَمِّعُ فوقه، بماءِ وجهه، أحذيةَ الزبائن. يدعو الرجلُ الطفلَ آمراً إياه بالنزولِ لتلميع الحذاء. لا يقفُ، وهو المديرُ الجليلُ لـصندوق رعاية الأيتام، عندَ هذا الحدّ، بل يستعرضُ صورته أمام مرأى الطفل/ البراءة/ الأمل/ الوعدِ. لن نكمل سردَ ما حدثَ بَعدها. لكن سنشيرُ، بِسُرْعةٍ، إلى بعض ممكنات الدّلالة داخل هذه القصّة. 
 
 تلتقطُ قصّة "تلميع صورتي" الصَّدع الداخليّ الذي يَعتري إنسانـنا العربيّ الــمعاصرَ. هذا الإنسانُ، الــذي حوّلته البنيات الـتاريخيّة والاجتماعيّة والـنفسيّة الـمتأبّدة بواسطةِ السلطة السياسيّةِ الحاكمةِ، إلى كائنٍ فُصَاميٍّ، مشروخٍ بالتناقضِ، يتقدّم الـقهقرى، ظاهرةٌ صوتــيةٌ متفرّدة في الفضاءِ الحضاريّ الــكونيّ. يصدعُ في الـمحافلِ الـمحليّة والدوليّة بضرورة اعتناق الـديموقراطية والعدالة والمساواة والحبّ. بَيد أنّ هذه الأقوال تنقلبُ إلى أضدادها، ناسخةً ما كانت تتغنى به أمـام الــكاميرات. ففي تدبير الشأن الـعام والخاص نشاهدُ الوجوه نفسها، والأفعال ذاتها، والــقراراتِ عينها، وتترسّخ وجوهُ البؤسِ، وتتلبّسُ الأقوالُ بالأفعالِ، فيصيرُ القولُ وعداً بالفعل؛ ولا يتحقّق الفعل إلا في الوجودِ بالقوة؛ ويتغور الألــم أكثرَ، فيموت الإنسان، عندنا، في كلّ يوم ألف مرّة. ولعلّ هذا ما يُفصح عنه، أيضًا، حوارُ الحفيد مع الجدّة في قصّة "حين تنقلبُ الأدوار": إن وجوهَ الــمترشحين تشبه وجوه الفئران، والفئران تشبه بعضها بعضًا؛ فكلّها بــقرضِ الأوراقِ تَنتشي وتَسعد. وجميعها تفرّ، يومَ الـحساب، لائذةً بالجحور والحفر. وهي، فوق كلّ ما قيل وسيقال عنها في بلادنا، دليلٌ صارخٌ على حالة شرودٍ تؤكّد، أولا، غيابَ الـمعنى القويم الذي بـه يتشيّد العمران الإنساني، ثم تــقرّ، ثانيا، بيقين قاطعٍ: إنّه لحظٌّ استثنائيٌّ نادرٌ؛ قلّما يستوي، ألا يتحوّل أحدنا إلى فأرٍ قارضٍ للقيمِ النبيلةِ؛ فالبنيةُ أكبرُ من الــفرد وأسلافه: إنها تستمر وتتأبّــدُ أما هو فعابرٌ كَسَابقيه... 
 
  لا نــريدُ في هذا المقام التقديمي أن نتوغّل أكثر في ما يمكن أن تقولــه كل القصصِ الواردة في المجموعة. لا نريد، بالإضافة إلى ما تقدّم، أنْ نجعل القارئ يظنُّ أننا نَقطع أَمَامـهُ الطريق؛ فـطريقُ القراءة طويلٌ، طويل. ما قمنا به لا يعدو أن يكون سوى رسمٍ بسيطٍ لمسارات الإمكانات الدّلالية المحتملةِ. لــهذا؛ سنتركُ الــمجال أمام القارئ، مؤمنين، بــأنّ كل فعلٍ قرائيّ يحرّر الــنّص ويطلقُ طاقاته لتمتدّ على مفازاتٍ شاسعة ورحبةٍ. فاللّذة، كما كانَ يقول "جوفري هرتمان"، وهو أحدُ عتاة التفكيكيّة، هي ألا يتوقف رُعَاف النّصّ راشحًا بدلالاتٍ يهتزّ لــها الــمَطمور تحت القبر. 
 
  كانت هذه، إذًا، نتفًا دلاليّةً ورمزيةً تكتنزها قصصٌ وَاعِدةٌ بــميلادِ قاصٍّ يتحدّر من شلالٍ إنسانيّ رفيعٍ، أصيلٍ، وصادقٍ. إنّ قوّة هذه الـنّصوص كامنةٌ، حسبَ اعتقادنا المتواضع، في كونها تشكّل نواةَ انطلاقٍ إلــى عالم الإبداعِ السرديّ؛ الــقمين، حقاً، بهذا الـــوسم. 
 
هوامش وإحالات:
* سعيد أولاد الصغير، حافية القدر، منشورات سليكي أخوين، طبعة 1، طنجة، 2023. 
 
[1] - يتحدّد الأيدلون، حسبَ "ريجيس دوبري"، في الصورة اللحظية، الظرفية، الهشة، الــناتجة عن دخول الإنسانية مرحلة البراديغم البصري. فهذه الصورة ذاتُ طبيعةٍ شبحيّةٍ، لا تمتلكُ أية قوةٍ فنيةٍ جماليةٍ، وشرُّها كامنٌ في حَشرها الإنسانَ داخل دوامات الحسيّة واستنفار النزوعات "الهيدونيّة". والهيدونيّة، استيحاءً من أبيقور، هي انغماسُ الإنسانِ في عالمٍ شبقيّ تتناسل فيه استيهامات اللّذة، فيرتكن الإنسان، بفعل هذه الاستيهامات اللائبة، إلى  التعطّش لـمزيدٍ من اللذات دونَ بذل أي جهد عقليّ تأمّلي. أنظر كتاب: حياة الصورة وموتها، ريجيس دوبري، ترجمة فريد الزاهي، أفريقيا الشّرق، ط2، 2013. 
 
[2] - تمثل البنية الأوليّة للدّلالة، في مصطلحية أ.ج. غريماس وجهازه النظريّ، مفهوماً إجرائيًّا يبرز انبثاق المعنى. ويتغيا، أيضاً، استيضاح الأكوان المصغّرة المولّدة للخطابات. ومن ثمة، يتعيّن فهم هذه البنية "بصفتها نمواً منطقيًّا لمقولة مقوماتيّة اثنانيّة من نوع أبيض/ أسود، تكون عناصرها، فيما بينها، في علاقة تضاد، وكل واحدٍ يكون قادراً على إسقاط عُنصر جديد يكون مناقضاً له، تستطيع العناصر المتناقضة، بدورها، أن تدخل في علاقة اقتضاء متبادل تجاه العنصر المضاد الــمقابل. للاطلاع على تفاصيل هذا المتصور النظريّ أكثر يمكن العودة إلى المصادر والمراجع التّالية: 
 
Sémantique structurale, A.J. Greimas, Ed. Larousse, 1966.
Du Sens : essais sémiotique, Ed. Seuil, coll. Poétique, 1970.
Maupassant: La sémiotique du texte, Ed. Seuil, coll. Poétique, 1976.
Dictionnaire raisonnée: J. Greimas, J. Courtes, de la théorie de langage, Hachette, Paris, 1979.
Du Sens II: essais sémiotique, Ed. Seuil, coll. Poétique, 1983.
[3] -  Roland Barthes , S/Z , , Ed. Seuil, 1970, p9. 
 
[4]  - (Les mondes possibles): يقول السميائي الــمغربي "سعيد بنكراد"، شارحًا مفهوم العوالم الممكنة ،كما وردَ عند السميائي الإيطالي "أمبرتو إيكو"، ما معناه: إنّ النّص السردي لا يحاكي واقعًا فعليا على نحو حذافيريّ، بل يشخّص صوراً أفرزتها حاجات لها علاقة بالمعيش اليومي المباشر، أو نابعة من داخل نفسيّ مزّقته الحيرة والرّغبة في امتلاك مطلقٍ يتجاوز محدودية الواقع وهشاشته. إن السّر ليس في تعيين الأشياء ووصفها، إنّــه مودعٌ، صراحةً وضمنا، في التمثلات التي قادت الإنسان دائمًا إلى الانزياح عن بداهات الكون وأحكامه الظاهرة. أنظر كتاب: بين اللفظ والصورة؛ تعددية الحقائق وفرجة الممكن، سعيد بنكَراد، المركز الثقافي العربي، ط1، 2017، ص19 وما بعدها. 
 
* نشيرُ هنا إلــى ما أرودهُ أمبرتو إيكو في كتابه: "اعترافات روائيّ ناشئ"، فقد انطلقَ هذا السميائيّ الفذّ من واقعةِ زيارة السياح للسجنِ الذي سُجنِ فيه، حقيقةً وواقعًا، الشاعر الكبير "ميرابو"، لكنهم، ويا للأسف، تذكروا أن أحد الأبطال المتخيلين في روايات "ألكسندر دوما"، ولعله "الكونت دو مونتي كريستو"، كان مسجونًا في هذا السجن، وهو ما لم يحدث قطعا في الواقع. حدث هذا في الروايات فقط. أمّا "ميرابو" المسكين، فقد سُجن حقيقية في هذا السجن. تعني هذه الواقعة، من بين ما تعنيه، أن العـوالم المتخيلة سردًا قد تكون لها سلطةٌ واقعيةٌ لا يمتلكها الـمرجع الخارجيّ نفسه. 
 
[5]- "الحسّ الأدنى": أحد المفهوماتِ الرئيسة في سميائيات الأهواء. ويشيرُ هذا الــمفهوم إلى لحظةٍ استهوائيةٍ تعبّر عن ذاتَ تتحركُ بحسّ متبلّد فقدَ الإحساس بنبضِ الموجودات حوله. إن الحسّ الأدنى تعبيرٌ عن منطقةٍ تفصل بين الذّات والعالم يتحدّد ضمنها "الدّاخل" و"الخارج" الإنسانيّان من خلال أحاسيسَ أوليّة شبيهة بالمثيرات الحِسيّة الغامضة. أنظر كتاب: سيميائيات الأهواء؛ من حالات الأشياء إلى حالات النفس، أ.ج. غريماس وجاك فونتاني، ترجمة سعيد بنكراد، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2010، ص:69 وما بعدها. 
 
[6] - Elsa Godart, Je selfie donc je suis, Les métamorphoses du moi a l’ère du virtuel, Albin Michel, 2016.
بقلم: عبد الرحيم دَودِي