بعد أن أصبحت المعرفة هي رأسمال عصر الصناعة الثاني، والقوة الدالة على اتصالها بثورة الاتصالات والمعلومات (الإنفوميديا) كان لابد لمناهج التعليم والتعلم أن تصبح أيضًا مصادر قادرة على مواكبة التقدم الهائل الذي أنتجته المعارف في القرن الحادي والعشرين.

هكذا كان على استراتيجيات التعليم في العالم الحديث أن تختبر مناهج جديدة، وأن تتميز بعنصر أصبح الشرط الشارط في منتجات المعرفة والصناعة، ألا وهو مصطلح الجودة.

ومن خلال مفهوم الجودة يستعرض الباحث المصري الدكتور وليم عبيد في كتابه (استراتيجيات التعليم في ظل ثقافة الجودة) الذي يقع في 280 صفحة من القطع الكبير، أطراً مفاهيمية وتطبيقية للعديد من النظريات التعليمية التي واكبت تحولات مسيرة التعليم، مختبرًا بعض جوانب التميز فيما بينها.

وبما أن (التعليم ظاهرة مركبة من عوامل وتفاعلات تبادلية الأثر والتأثير في مسيرة العملية التربوية) فهو بهذا المعنى ليس أحادي البعد، بل (نشاط يتضمن العديد من المتغيرات التي تؤثر في سلوك المعلم).ذلك أن الإنسان لا يتعلم الخبرة، بل يتعلم من الخبرة، ومن ثم فإن المعلمين الذين يستخدمون نفس الاستراتيجيات والوسائط التعليمية، من المحتمل أن يحصلوا على درجات كفاءة مختلفة.

ولأن الاستراتيجية التي ينبغي أن يستخدمها المعلم والمطلوبة حاليًا هي الاستراتيجية التي يجب أن تقود إلى الجودة في التعليم، فإن هناك حاجة إلى التنوع في الاستراتيجيات التعليمية التي تعمل على تكوين المتعلم للخروج به إلى آفاق التربية المعاصرة بإبداعاتها المعرفية والتكنولوجية.

الجودة وسوق العمل:

ظهر مصطلح الجودة بمفهومه المعاصر في أحضان سوق العمل، فهو مفهوم ينطوي على قيمة الارتقاء بمستوى المنتج. ولهذا فإن الجودة ترتبط باستراتيجية إدارة إنتاج لكي تكون دلالة على التميز، وبهذا يمكن أيضًا النظر إلى الجودة بأنها منتج وليست عملية.

ومن خلال انعكاس ثقافة الجودة على منتجات المعرفة الحديثة، كان لابد للسياق التربوي والتعليمي أن يتأثر بالتطورات في مجالات الصناعة والإنتاج.

وإذا كانت المؤسسات التربوية قد تأثرت بمنعكسات الثورة الصناعية من خلال مناهج التعليم السلوكية، والتعلم من أجل التمكن، ومدخل تحليل النظم حتى نهايات القرن العشرين، فقد طرحت معايير الجودة باعتبارها منتجًا يتأتى من النظام التربوي، ويخرج من رحم منظومات فرعية للممارسات التربوية داخل النظام التعليمي؛ رهانات جديدة على محور العملية التعليمية أي الإنسان المتعلم.

وعليه فإن إدراك مستوى مفهوم الجودة في تعليم الفرد الحديث لا يقاس بالنجاح في الاختبارات المدرسية فحسب؛ بل (بالنجاح في اختبارات أصيلة تتمثل في القدرة على مواجهة المشكلات الحقيقية مثل: إدارة الأزمات ــ إدارة الوقت ــ تدوير الخبرة ــ المرونة العقلية ــ التكيف للمواقف المتغيرة ـ النجاح في المسالك المعيشية ــ النجاح في تغليب القيم الإيجابية والإنسانية على القيم السلبية).

مفهوم الاستراتيجية:

يحدد المؤلف منذ البداية مفهوم (الاستراتيجية) ويحرر دلالته ليكتب بعد ذلك عن العديد من المناهج التعليمية الحديثة في ضوء ذلك التحديد.

فالاستراتيجية بحسب المؤلف هي (خطة محكمة للوصول إلى هدف محدد ويتضمن السلوك الاستراتيجي تحركين أساسيين هما التخطيط والتنفيذ).

ومن ثم فإن العمل الاستراتيجي في أي مجال يكون عملًا جادًا من خلال رؤية ورسالة تتضمنان الآتي:

1 ــ هدفًا واضحًا محددًا.

2 ــ رغبة وإصرارا لبلوغ الهدف.

3 ــ تحركات أو (تكتيكات) متتابعة للوصول إلى الهدف.

يتناول الكتاب في أفكاره الرئيسية حول استراتيجيات التعليم ثلاث نظريات تعليمية شهيرة؛ هي: النظرية السلوكية، والنظرية المعرفية، والنظرية البنــائية

النظرية السلوكية:

تنطلق النظرية السلوكية في فكرتها من منطق العلة والمعلول فهي تركز على دراسة السلوك الذي يمكن مشاهدته وقياسه.

وإذا كان عالم النفس الأمريكي (جون واطسون) هو أول من استخدم مصطلح (السلوكية) على هذه النظرية؛ فإن هناك من قدم دراسات ساعدت على تطوير هذه النظرية بتجارب متميزة، مثل العالم الروسي (إيفان بافلوف) الذي اكتشف نظرية الاقتران الشرطي، وأكد من خلالها قدرة الحيوان على التعلم من خلال السلوك عندما قام بتجربة الجرس الذي يرن متزامنًا مع تقديم الطعام للكلب، ثم أصبح بعد ذلك رنين الجرس كافيًا لأن يسيل لعاب الكلب بمجرد سماعه.

ولقد ساهم مجموعة من العلماء الآخرين في تطوير تلك النظرية مثل تجربة التعلم الترابطي التي قدمها إدوارد ثورانديك. وذلك من خلال ربطه للسلوك التعليمي بتجربة الخطأ والصواب كميدان للعملية التعليمية ثم نظرية التعلم المبرمج عند (سكينر) وصولا إلى الفيلسوف الأمريكي المعروف (جون ديوي) الذي ربط استراتيجيات التعلم بمفهوم الديمقراطية من خلال كتابه الشهير (الديمقراطية والتربية) وكشف عن العلاقة بين رغبة الإنسان في التكيف الذي تمنحه القدرة على التعلم، للتواؤم مع الظواهر من حوله. كما بلور فيه نظريته في كيف يفكر المرء بطريقة تربوية أطلق عليها اسم (الطريقة الاستقصائية).

وتتوزع أهداف النظرية السلوكية في الاستجابة إلى ثلاثة مجالات في الإنسان هي: العقل، والوجدان، والجسد.

ولقد تمكن الأمريكي (بنيامين بلوم) في منتصف الستينات من وضع تصنيف وضح فيه تسلسل مستويات المعرفة تصاعديًا على هذا النحو:

المعلومات + الفهم + التطبيق + التحليل + التركيب + التقويم

ومن خلال اكتساب هذه المهارات التصاعدية تؤكد النظرية السلوكية في التعليم على أهمية الهدف السلوكي الذي يكشف عنه قصد المعلم من خلال المجالات المعرفية الثلاث. وتتميز المدرسة السلوكية برؤيتها للمنهج الخطي في التعليم.

النظرية المعرفية:

مع تطور نظريات التربية الحديثة أدرك بعض العلماء الحاجة إلى نظرية جديدة، وهكذا وضع العالم (بياجيه) في عشرينيات القرن الماضي مراحل عمرية للنمو المعرفي. تقوم نظرية المعرفة على ربط المعلومات الجديدة بما لدى المتعلم من معرفة سابقة. أي أن المتعلم بحسب نظرية المعرفة، يتفحص المعلومات ويقارنها بأنساقه المعرفية التي يملكها مسبقا ومن خلال التفاعل بين أنساقه المعرفية والمعلومات الجديدة، يستطيع إجراء العديد من العمليات التي تنتج له معارف متجددة. ولهذا فإن التعلم في إطار النظرية المعرفية يتضمن (عمليات تشمل المشاهدة والقياس والتصنيف والتنظيم والمقارنة والتحليل والتنبؤ الاستقرائي والتحقق الاستدلالي. وتتطلب استراتيجية التعليم من أجل التعلم المعرفي تشجيع وحفز المتعلم وتوفير بيئة التعلم التي تمارس فيها عمليات المعرفة والعمل على تنشيط التفكير الذي يتجاوز مجرد المعرفة، والذي يطلق عليه «ما وراء المعرفة» والنظرية المعرفية تسمح للمتعلم بامتلاك القدرة على الانتقال من مستوى الفهم المباشر إلى مستوى الفهم الاستدلالي بحيث لا يكون التعليم فيها مجرد عملية آلية.

النظرية البنائية:

ربما كانت النظرية البنائية امتدادًا بصورة من الصورة للنظرية المعرفية، فهي إذ تجعل من المتعلم قادرًا على أن يبني معرفته من خلال تفاعله الحر والمباشر مع المادة التعليمية ومصادرها؛ تمكنه أيضًا من التكيف العقلي بما يؤدي إلى التعلم القائم على المعنى والفهم.

وتنطلق النظرية البنائية من مسلمّات عديدة هي:

1 ــ الإنسان كائن يمتلك الإرادة الهادفة للتعلم، كما يمتلك قابلية لأن يكون مبدعًا إذا ما توفرت له بيئة التعلم والسياقات الملائمة.

2 ــ تتكون المعرفة من إمكانيتنا على تعلمها، وأن ما يمكن معرفته هو محصلة إعمال العقل والتأمل فيما نمر به من خبرات.

3 ــ التعلم عبارة عن تفسير شخصي لما يمر به الفرد من خبرات وما يمارسه من نشاطات، وما قد يتعرض له من مواقف ومشكلات.

4 ــ التعلم عملية أكثر من ناتج.

5 ــ يقاس التعلم بثلاثة أبعاد وهي: محتوى ما تم تعلمه من معارف ومهارات والطريقة التي جرى بها تعلمه، وإقامة الدليل على صحة ما توصل إليه.

هكذا نجد أن النظرية البنائية تشجع المتعلم على اختبار عملية تعليمية مفتوحة ولانهائية من ناحية، وتمنحه حرية مطلقة في استخدام ملكاته التعليمية ومهاراته العقلية من ناحية أخرى؛ الأمر الذي يحيل على ديناميكية حرة في التفكير.

ومن خلال هذا التفكير الديناميكي والرؤية الحرة في استثمار العمليات التعليمية بطريقة شخصية هادفة، تنظر النظرية البنائية إلى أخطاء الطالب من وجهة نظر علاجية، وليست عقابية. بمعنى أن أخطاء الطالب في حد ذاتها يمكن أن تكون وسائط ومداخل لتوسيع وتصويب البصيرة وإعادة تنظيم المعرفة بصورة صحيحة.

هكذا يفتح هذا الكتاب آفاقا لا متناهية للعملية التعليمية وصولا إلى مفهوم التعلم مدى الحياة، باعتبار الإنسان كائنا متعلما، ما يعني فتح آفاق التعلم بحسب النظرية البنائية، على نماذج متعددة للتعليم الأمر الذي سيحيل على ضرورة إدراك معنى الجودة بطريقة موازية لمنتجات المعرفة.

بطبيعة الحال ثمة الكثير من التفاصيل المتصلة بتلك المناهج التعليمية وعلاقتها باستراتيجيات التعلم الإلكتروني، والتعلم عن بعد. والبرمجيات التي تستجيب لفضاءات النظرية البنائية في الانترنت، وغير ذلك من موضوعات الكتاب الهامة.

                                    الكتاب: استراتيجيات التعليم في سياق ثقافة الجودة 

                         المؤلف: وليم عبيد / الناشر: دار المسيرة - بيروت / عرض: محمد جميل أحمد

 

أضف تعليق


كود امني
تحديث