ملحوظة: لا يمكنُ الاستغناءُ عنها: يقرأ هذا النّص صباحاً بصوتٍ جهري وسطَ الشارعَ وأمام الملإ...كاتبهُ رجلٌ عادَ من الموت. قارئتهُ امرأة جميلةٌ جداً؛ كالموت...
 
وضعَ رأسه على وِسادته، أغمضَ عينيه، ثم غاب فكانَ الظّلام وكانتالهيُولى: أصلُ الحقائق، مظلمةً، قبل أنْ تتشكَّل وترتسمَ صوراً ووجوهاً...
في غيابه الـرازحِ تحت قبضةِ النّومِ رأى وجهها يتخذُ معانٍ لا حصرَ لها: وجهٌ طفوليٌّ. وجهٌ بريءٌ. وجهٌ غاضبٌ. وجهٌ حزينٌ. وجهٌ متشفٍ. وجه حانقٌ. وجهٌ متودّدٌ. وجه عاشقٌ. وجه مراوغٌ. وجهٌ معاتبٌ. وجهٌ خائفٌ...كلُّ وجهٍ يُضْمِرُ صورةً. تماهت كل الوجوهِ في صورتها؛ سيدة الحلمِ التي كلّما اقتربَ منها تناءت وغارتْ في عمق ذاكرته. استنار الظلامُ، فجأة، فأبصرَ، وسطَ كرنفالِ زهورٍ جوريّةٍ، الصورةَ تراقصُ شبحهُ. كانا يتحركانِ بانتظامٍ محسوبٍ، منسجمٍ، مرسومٍ. اليدُ تمسكُ اليدَ. العينُ تحاورُ العين. القدمانِ توازيانِ القدمين مشياً ووثباً. وحدهمُا وسطَ ظلامٍ مُشتعلِ الكبدِ يرقصانِ بتناغمٍ. لا الماضي يعكّر صفاء القلب. ولا الحاضر ينغصّ نقاء الموسيقى المندلعة من الأرض والشّجر. الحنين، وحده، كان يجمع صورة وشبحا داخل لغة داغلة في الغموض والالتباس. والمجهول، وحده، كان قادرا على تشفير ما يحدثُ، هنا؛ في مملكة الغيابِ.
 
مُتخاصرين كأرضِ تضلعُ قمرهَا كاناَ يدورانِ فوقَ الحافاتِ التي تتّسع تحتَ الأقدامِ والرّوح. نظرت إليهِ في أوج اشتعالها. نظرَ إليه في حُميا احتراقهِ. تشابكتْ روحهما على نحوٍ لبلابيٍّ مُنظمٍ بدرجةٍ عاليةٍ من التعقيدِ.
 
-       قالت: لا أريدُ أنْ أراكَ أبداً.
-       قالَ: سأموتُ فيكِ ثم أرحلُ إلى الأبدِ.
-       قالت: أنتَ الحبُّ الـمُستحيل الناهضُ من وهمِ الصّورة.
-       قالَ: أنتِ الموتُ الذي كنتُ أحتاجهُ لرحلةِ العبورِ الأخير.
-       قالت: مُتْ، إذاً، ودَعنياستريحُ من خَطرفَاتكَ.
-       قال: إني متُّ قبلَ الآن وأحتاجُ موتاً آخرَ أشدَّ فتكاً.
-       قالت: أيموت الإنسانُ مرتين؟
-       قال: يموتُ آلافَ المراتِ.
-       قالت: سأجنُّ حتماً، لِــمَ ظهرتَ الآن فقط، أين كنت؟
-       قال: كنتُ أحرسُ قلبي من صوركِ.
-       قالت: كيفَ كنتَ تفعلُ ذلك؟
-       قال: كنتُ أعاقر المجازَ وأُدمنُ البحث؟
-       قالت: ولِـمَ عُدتَ الآن؟
-       قال: لأن صورتكَ استفحلتْ داخلي فعجزتُ عن إخمادها.
-       قالت: جرّب ثانية فأنتَ تستطيعُ.
-       قال: ذاك أشبه بالموت.
-       قالت: وماذا ستفعل مع الأنثى المنذورة لعصف ليلكَ؟
-       قال: أراكِ فيها. حين تلتقي الشفاهُ تظهرُ عيناك ما بيني وبيني.
-       قالت: وما المآلُ؟
-       قال: مضينا، بِنُبلٍ، إلى مصائرَ مختلفةٍ؛ بقيتْ هناك قصةٌ نرويها بفرحٍ.
-       قالت: إذا اقترب ومت موتكَ الأخير كما تشتهي...
 
سكتا معاً. نظرت في عمقِ عينيه المتورمتينِ. تأمّل صورتها الحزينة. اقتربت شفتاها من شفتيه. ذابَا في قُبلةٍ داميةٍ عُمرها ومضةُ برقٍ ثمَّ امحيا معًا. استيقظَ رحيم من حُلمه على وقعِ سُعالٍ جافٍ، حادٍ، أغلقَ تجاويفَ الرئتين. طفقت درجةُ حرارته تعودُ إلى طبيعتها. حدّق في السقف مُدَّة ثم صدعَ بصوتٍ متهدّجٍ مختنقٍ: لن أموتَ الآن...ما زالَ في العُمر مُتّسعٌ للرحيلِ...
                                                     بقلم: رحيم دودي