يكمن سحر هذه اللعبة في كونها لعبة عقلية تجسد مواجهة محتدمة بين عقلين مختلفين، لا يعرف أي منهما خطة الآخر، وإن كان يعمل جاهدا على إفشال ما يحتسبه منها، لتكون هذه اللعبة شبيهة بمطاردة تستعير من الحياة صراعاتها وضرورة الالتفات إلى خياراتها المتنوعة، بما يستحثنا للتفكير بأنها أشبه ما تكون بلعبة وجودية همها  الاستمرار والبقاء، بما يستدعي يقظة تامة من كلا اللاعبين لاغتنام الفرص المناسبة في إطار تكتيكات يعرفانها جيدا غايتها هزيمة الخصم، وسيلتهما في ذلك قطع حجرية وربما كريستالية،  هي بمثابة العتاد في حرب تحتاج مهارة في تقنية التفكير المسبق والتخطيط للحركات بين هجوم ودفاع، إلى أن تنتهي اللعبة وتبدأ أخرى في دائرة لا تنتهي غايتها البقاء.  
في جولة طويلة قضيتها في البحث عن أثر هذه اللعبة العقلية في الأدب والأدباء، هالني عدد الكتاب الذين استثمروها مجازا مفيدا في كتاباتهم، فوجدت أن بعضا منهم يستخدم حركات اللعبة بموازاة مناورات عشقية، مما يسمح بالقول إن الشطرنج منح نفسه بسخاء لحكايات الحب المجازية، كما في قصيدة فرنسية من القرن الرابع عشر عنوانها "أحجار الشطرنج العاشقة".   
 يشدك في اللعبة أن أحدا من اللاعبين لن يرضى بالهزيمة، وربما يعاود اللعب إلى أن يحظى بالنصر، وهو ما وجدته متحققا في مجلة   Lasker Chess من خلال ما تنقله  صديقة تشارلز ديكنز القديمة تريجير حول انزعاجه عندما تتغلب عليه في لعبة الشطرنج، وإصراره من بعدها على معاودة الكَرة من جديد،  إلى أن يصلا للتعادل، كما تنقل عنه  خصوصية ميزت ديكنز لاعب الشطرنج المحترف أنه كان يريدها أن تلعب أولا، وهو ما كان يمارسه في جميع رواياته، حيث يترك الشخصية تقوده ثم يتبعها ببساطة.  
في كل الأحوال، لمعت في ذهني رواية   Chess Story  التي ترجمها يحيى حقي بعنوان "لاعب الشطرنج" ولعلها من أهم ما كُتب عن لعبة الشطرنج، وقد كانت آخر ما كتب هذا الروائي اليهودي النمساوي قبل أن ينتحر هو وزوجته عام 1942 بسبب رفضه للحروب تاركا في رسالة انتحاره ما يفيد بأنه استنفد كل قواه بعد سنوات من التجوال بحثا عن مأوى، وأن قرار إنهاء حياته جاء وهو في قمة عطائه الكتابي بعد أن كان العمل الثقافي مصدر سعادته وحريته الشخصية.   
 تتحدث الرواية عن مجموعة من الرجال يلتقون على ظهر سفينة متجهة إلى أمريكا الجنوبية، بمن فيهم سيد كبير في الشطرنج يهزمهم جميعهم بسهولة (زيتوفينك)، والذي تبرزه الرواية عقلا غبيا مهترئا لا يحسن التفكير إلا بما هو مادي، بدليل أنه يلعب من أجل المال، وهو من يبقى فترة من الزمن بطل العالم المنتصر في الشطرنج، إلى أن يظهر شخص نمساوي غريب (دكتور ب) كان النازيون قد اعتقلوه واحتجزوه في غرفة معزولة عن العالم.
 تنقل الرواية أنه تمكن فترة حبسه من سرقة كتاب أتقن من خلاله تعلم قواعد لعبة الشطرنج التي صار يلعبها في حبسه ضد نفسه، فاصلا إياها بين أنا الأبيض وأنا الأسود. يستمر هذا حاله  إلى أن ينجح في الخروج من سجنه الانفرادي حيث ينقذه طبيب يشهد على جنونه فيطلق سراحه، ومن ثم يذهب برحلته ويلتقي عشاق الشطرنج على متن السفينة الآنفة الذكر، ومن ثم يلعب ضد السيد ويتغلب عليه.  
 لن يفوت القارئ المدقق أمران أولهما أن الرواية تحمل بين طياتها معالم توتر خطير عبر عنه الأبيض والأسود اللذان يمثلان جانبين مختلفين من   العقل الباطن، ولنا أن نتخيل أن دكتور ب أثناء لعبه في حبسه الانفرادي كان عليه أن ينسى ما كان يريده الأبيض عندما كان أسود، والعكس صحيح، في إطار تفكير مزدوج ينقسم فيه الوعي انقساما كاملا. ثانيهما أن زفايج أراد أن يمثل من خلال زيتوفينك نموذج الإنسان الذي شكلته الحضارة الغربية الحديثة في أوروبا، قبالة عقل آخر مثله الدكتور ب الذي يمثل صورة نموذجية للفردية التي تشبه زفايج نفسه، لتكون اللعبة على الرقعة بين الأبيض والأسود هي نفسها اللعبة ذاتها بين عقلين يمثلان الغرب الأوروبي الذي أظهر تراجعا مريعا في القيم الأخلاقية كشفت عنها جرائم الحرب العالمية الثانية.  
 يبقى أننا نعيش لعبة الأبيض والأسود بصورة محتدمة هذه الأيام، وبأشكال وأساليب تفوق التصور، يبدو لنا معها أننا نشهد عددا من اللاعبين الشرسين الذين ينأون بأنفسهم عن روح المعادلة المتوازنة، بل إن الواحد منهم كما يصفه زفايج في كتابه "عنف الديكتاتورية" لا يعرف إلا طريقا واحدا هو طريقه هو وحده ، الكل او لا شيء، السلطة الكاملة أو لا شيء..لا يقدر أن يتفهم أو يتخيل وجود شخص آخر بوسعه أن يكون في مستواه كما فعل تشارلز ديكنز الذي أعاد اللعبة ليتعادل مع الطرف الآخر، والسبب أنه اللاعب المهووس بذاته الذي يرغي ويزبد حين يتجاسر أحدهم عليه، فمن ذا الذي يجرؤ حتى على الاقتراب من رقعته السوداء؟.
بقلم: رزان إبراهيم