قبل البدء، أريد التنبيه لكوني قد واجهتُ تردُّدًا مُترفًا عند كتابة هذه المقالة؛ إذْ بدا لي بعد كل عبارةٍ أنهيها لَكأنِّي أمتدح نفسي! وهذا حكمٌ ذاتيٌّ مسبق؛ مُبرّر واقعيًّا، بدءًا بكوني أُقدِّم ذاتي غالبًا بوصفي هاويةً للُّغة، وانتهاءً بتخصصي الأكاديمي الذي يُصدِّق على هذا الميل. لذا، فإني أجد ضرورةً لنفي هذا الحكم قولًا واحدًا؛ لأسبابٍ موضوعيّة بحتة. وربّما كانت محض افتتاحيّة مُغرّضة! حسنًا!
أنْ تُولد بملَكةٍ لُغويّة [جبّارة] مقارنةً بأقرانك (وهنا أخرج عن نظرية تشومسكي التي تزعم أن كل طفل يولد ببناءٍ لُغويٍّ مُسبق) فقد وُهِبتَ آلةً بالغة التفوّق تُمَكِّنك من العيش ببراعة، وما عليك إلا الثقة بها والحِفاظ عليها.
لنتّفق -بدايةً- على تعريفٍ جامعٍ لماهية الذكي لُغويًّا، إضافةً لمخزونه اللغويّ الواسع وقدرته على التصرّف بالكلمات -كوحدة لُغويّة-، ونَفَسه الجدليّ العالي، وقابليّته الذهنية لتعلّم اللغات، فهو مَن يُعطي اعتبارًا للمتلقي، ويبَني تعبيراته -بإيجاز- من منطلق السياق والمعرفة المشتركة بينهما، كما يبرع في شرح مقاصده بلا تشنّج؛ لثقته المُتّزنة بقُدرته. كما أنّ اللغةَ والمنطق لا ينفصلان، إذ ستجده لمّاحًا ومقنعًا ومنطقيًا في نقاشاته. ولكونهِ يعرف مكامن اللغة وحدودها فإنه الأقدر على تجنّب الَّلغوِ والتطويل والغريب من الألفاظ.
والتعريف مانعٌ عمَّن يحتشد اللغة ويَلوكها بشاعريّة مفتعلة إلى أنْ يُرقِّق من وزنِ فكرته الخام فيقع في الحشو اللغويّ (فكرة واحدة تُكرَّر في نصٍّ واحد بأكثر من صيغة وصورة بلاغيّة)، وهنا أجرؤ على تحليلٍ لساني-نفسيّ إلى أنَّ البعدَ المقصود عن الإيجاز ناتجٌ إمّا عن:
1. الخوف من عدم التأثير على المتلقي، فيجيء الحشو كمحاولات إقناع واستجداء.
2. أو قد يكون ناتجًا عن التشكيك الشخصيّ بجودة الفكرة المطلوب إيصالها للمتلقي.
قد وقعتُ على اقتباسٍ ثمين لحالة الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير لمّا قال: «حين أقع في السجع المبتذل أو التكرار السيِّئ، أعلم يقينًا أنني أتخبّط في الغلط. […] إذْ لا تغيب المفردةُ أبدًا إذا كان المرء مسيطرًا على فكرته.».
أعتقد غالبًا بإمكانية أن يكون أي شخص ذكيًا، بل عبقريًا، ولكن حصيلته اللغوية تجعله يبدو مفلسًا فكريًا، فمهما أقدم على ترجمة فِكره ومكنونات نفسه فإنه يخفق، ولربّما ظَنَّ واهمًا بأنه ليس صديقًا للغة وانغمس في وهمهِ بينما يُلقّن ذاته بعبارات مغلوطة، مثل: «أنا ذكي منطقيًّا، لكني فاشلٌ في اللغة»، وهذا -على الأرجح- خلطٌ وسوء تقدير واضح، فبحسب دراسات خبراء الذكاء، فإن هذين النوعين من الذكاء، أعني الذكاء اللغوي والمنطقيّ، يرتبطان ببعضهما ارتباطًا جذريًّا، ويدعم كل منهما الآخر؛ فكلاهما لغات طبيعية تحتوي على الأبجديات الأساسية الصغيرة (الحروف/الأعداد)، وكلاهما يدمج بين عناصر أبجدياته لتكوين مجموعات فرعيّة أو مجموعات كبرى ذات معنى (كلمات/جمل، مجموعات/معادلات)، كما أنهما أحد المكوّنات الأساسيّة لاختبارات الذكاء النموذجيّة، حيث يشتركان في كون مادتهما تتحدّى العقلَ وتُحفّزه من أجل تكوين الروابط بين عناصرهما، كما أنها تلهم العقلَ بالإبداع والابتكار، وتدفعه إلى تهذيب وصقل عمليّاته، وعلى الفَهْمِ والتفكير بصورةٍ أجلى، وعليهِ، فلا حجة للافتراض السابق، بل العكس هو الصحيح.
والأمر مشروطٌ فقط بالتطويرِ فالممارسة؛ لإيقاظ المَلكة اللغوية الكامنة، وذلك بوساطة الألعاب والأحجيات؛ لكونها تزيد من نشاط المناطق المتعلقة بالحديثِ والكلام في المخ. بالإضافة إلى ممارسة التدريبات اللغوية التقليدية كالقراءة، والكتابة التجريبية، والحديث المتصل بموضوعات عميقة، وغيرها.
هذا وينطبق الأمر نفسه على الذكي لُغويًّا الذي يَزعم ضُعفه في المنطق/الرياضيات لمجرّد ميله الذوقيّ للُّغة، أو لكونه لم يختبر ذكاءه المنطقي بعد، أو أنه رغِبَ الركونَ إلى هذا الوهم؛ ليُريح ذهنه في منطقة الراحة، بالرغم من أنه المخوّلُ للتجاسر على مناطق فاعلة أكبر، فبحسب البروڤيسور «لويس إم. تورمان» (خبير الذكاء من جامعة ستانفورد) فإن الذكاء اللغويّ مؤشرٌ ناجح للغاية على النجاح المثالي في الحياة الأكاديمية والمهنية وفي مستوى الذكاء العام ككل!
كما نعرف أن الذكاء اللغوي ما هو إلا واحد من عشرةِ أنواع مختلفة من الذكاء، من بينها الإبداعي، والاجتماعي، والمكاني، والمنطقي، والروحي، والشخصي، والحسيّ، والجنسي، والجسماني، وكل واحد منها ينتفع من تحسين الأنواع التسعة الأخرى، لذا، عندما تسعى نحو تطوير ذكائك اللغويّ تعمَل في الآن نفسه من أجلِ تطوير باقي الأنواع التسعة. فإن اللغةَ هي ترسانة الأسلحة الخاصة بالعقل البشريّ، أو كما قال اللسانيّ «هربرت كولريدج».
إعداد: آروى الفَهَد