كنـت يومها طفـلا، حِيـن دخل أبي البيْـت ناكسا رأسه... حَـدّثَ أمّي هـمسا، فأخذ مجلسَه... تبسّمَتْ في وجهه... وضمَّتْ يدها إلى صدرها... ثمّ استأذنته والتفـتت وأعطته شيئا... نظر إليها نظرة طويلة حتى برق الدّمع في عيْنَيه... ثمّ أسرَع في الخروج و عاد يحمِل ورقـةً بين يديْـه...
مشهدٌ هزّ كياني بعنـف، لأنّي لم أطِق دمعةً تنساب على خدّ أبي أو غصّةَ في جوف أمّي... حدَث هذا أمامي عدّة مرّات، فكنت ألْحظ أساور الذّهب تَـقِـلُّ بمعـصم أمّي شيئا فشيئا... فأحزن ويضيـقُ صدري... ثمّ يصادفني الحظ، فأسمع حديثهما عن رجل لـه قصـور... فأفـرَح وأسعَـدُ بقَـدري... فالـرّجل هو أبـي طبعـا... وأساور أمّـي هي التي فسَحـت له دَرب الفـرح قطعـا... فكّـرتُ قـليلا... وتَحيّنْـتُ الفُـرصَـة وسألت أمّي:
- لِمَ لا نـرحل إلى قُصـور أبـي الآن...!؟
أغمضَتْ عينَيها، مَسحَتْ على رأسي بيدها، وبِنبـرةٍ حزينـة ردّت:
- يا ولدي، بين قصـورهم و قصـورنا، دَع عنك لغـة البلابـل... فلا تسأل ولا تجـادل... إنّ غسل الدّم و إزالة الهمّ عندنـا، يبقى رجاء بلا طائِـل...!
لم أتحـرّك من مكانـي... وبقيـت مصلـوباً على نيّـة سؤالـي...
الآن أتذكّر، وقـوفـي عند رأس أبي الضائع في وسـادة المشفـى أنتظـر... أرقُـب مجـرى الدّم في كِلْيَتـه قبل أن تنْفجـر... لا أسأل ولا أجـادِل... كي لا يضيـعَ عُمري ويُجـنّ جُنـون العـاقِـل...
يقلم: سعيد أولاد الصغيـر