صعدت «بيللا»، الطفلة الروسية ذات السنوات الأربع، على خشبة الاستعراض بخطوات طفولية واثقة ومرحة، وقد بدت طفلة عادية بريئة بفستانها المبهج وشعرها المصفف بعناية والمربوط بـ «توكتين» على جانبي رأسها. اقتربت من صف الكبار الواقفين بلا خجل أو تردد، وبدأت تكلم أولهم بلغة إنجليزية واضحة وجمل مرتبة سائلة إياه عن هديتها الموعودة، فأجابها أن عليها أن تجيب عن بعض الأسئلة أولا. وهكذا قضت «بيللا» عدة دقائق في الاستماع والإجابة لأسئلة بالإنجليزية والصينية والأسبانية والألمانية والفرنسية وحتى العربية إلى جانب لغتها الأم الروسية! ويمكنكم الاستمتاع بمشاهدة الفيديو الذي تجيب فيه «بيللا» عن أسئلة ثقافية قد تعجزون أنتم عن إجابتها.
وهكذا تثار لدينا عدة أسئلة: كيف فعلت ذلك «بيللا»؟ هل هي فلتة أو نابغة لغوية؟ هل تعلم اللغات الكثيرة أمر ممكن ومتاح لكل طفل؟ ومتى يمكن أن يبدأ تعلم اللغات للطفل؟ وهل هناك أضرار من تعدد اللغات؟ وما هي فوائد ذلك؟ والأهم: هل يمكنني كأب أو أم في أسرة عربية ومصرية أن أنفذ هذا مع أطفالي؟
السؤال الأول: متى نبدأ؟
متى يمكن أن نبدأ في اللغة الثانية أو الثالثة مع الطفل؟ هل ننتظر حتى يتمكن أولا من لغته؟ هل هو من أول سنة؟ من بعد 5 أو 7 سنين كما هو مشهور؟ الجواب طبقا للعلم هو: من أول شهور في حياته! لقد أجريت عشرات الأبحاث على تعلم اللغة عند الأطفال، وقد بينت واحدة من أحدث تلك الدراسات أن تعرض الطفل خلال السنة الأولى من عمره للغتين بدلًا من لغة واحدة يجعل عقله أكثر مرونة وتركيزًا واستيعابًا.
لقد قام الباحثون في تلك الدراسة بفحص مجموعة من الأطفال في عمر 11 شهرًا. نصفهم قد تربى في بيت يتحدث لغة واحدة هي لغة الأبوين والأقارب والنصف الآخر يعيش في بيت تستعمل فيه لغتان بشكل مستمر. وقد تبين أن المسح العقلي لعقول الأطفال مزدوجي اللغة أنها تكون أكثر نشاطًا وقابلية للاستجابة من عقول المجموعة الأولى من الأطفال التي لا تعرف إلا لغة واحدة.
إن تعرض الأطفال لأكثر من لغة في تلك الفترة الحرجة من عمرهم (قبل إتمام العام) يحفز عقولهم ويدفعها للتركيز أكثر لاستيعاب كل تلك الأصوات وتحليلها وتمييز اللغات ومخارج الألفاظ المختلفة ثم الاحتفاظ بها في المخ واستدعائها. وقد حددت الأبحاث أن هذا النشاط العقلي ينعكس في تشبيكات أكثر تطورًا للخلايا العصبية المشاركة ليس فقط في فهم اللغة ولكن أيضا في التخطيط والتحليل المنطقي واتخاذ القرارات وحل المشكلات المختلفة. إلا أن الأبحاث تشير إلى أن هذه الفترة هي الأكثر تميزا وتأثيرا في هذا الجانب وأن الأطفال تقل استجابتهم لأصوات اللغات الجديدة بعد انتهاء العام الأول من أعمارهم.
السؤال الثاني: لماذا؟
إن البحث أو تقصي أسباب تعليم الأطفال أكثر من لغة لهو أمر متشعب ويحمل في طياته أكثر بكثير من الأجوبة البديهية. فكما قدمنا، تشير الأبحاث إلى تفوق الأطفال الذين يتعرضون لأكثر من لغة عقليا ويتم تطوير عقولهم بشكل أكبر من خلال تشبيكات عصبية (neurological connections) أكثر كثافة في مناطق تنفيذية مهمة في المخ. وهكذا تتوالى الأبحاث التي تشير إلى تفوق هؤلاء الأطفال.
فقد أظهر الأطفال منذ سن مبكر (7 شهور قدرة )أعلى على الانتباه والتركيز حين كانوا مزدوجي اللغة. كما أن الطلبة مزدوجي اللغة يكونون أكثر قدرة على الإبداع وإيجاد أفكار جديدة بحسب دراسة أجريت عام 2011 على ما يزيد عن مئة طالب مزدوج اللغة من الجنسين. ويفيد التعدد اللغوي أيضا في تنمية المهارات الاجتماعية عند الأطفال والمراهقين، وتحسن قدرتهم على التعبير عن أفكارهم وفهم وجهات نظر الآخرين.
فقد أشارت دراسة أجريت عام 2014 إلى أن قدرة الأطفال على استيعاب المقصود ووضعه في سياقه الصحيح ترتفع حين يكونون من مزدوجي اللغة، بينما يميل الأطفال ذوو اللغة الواحدة إلى أخذ الكلام بطريقة أكثر حرفية ومباشرة. وأشارت دراسة أخرى لاحقة إلى أن هذا الأثر يوجد حتى عند الأطفال الصغار في سن ما قبل المدرسة.
وتمتد قائمة المزايا لتشمل أيضا قدرةأعلى على حل المشكلات والتفكير في المواقف المعقدة، وكذلك تشير الدراسات إلى أن ذوي اللغات المتعددة يكونون أقل عرضة للإصابة بأمراض تناقص الذاكرة وضعفها. وفي عصر العولمة وثورة الاتصالات، تمثل التعددية اللغوية ضمانا للمزيد من فرص العمل، والتعلم، بل والدراسة والاطلاع أيضا. والجدير بالذكر أن الكثير من الدراسات تشير إلى أن تلك الفوائد لا تقتصر فقط على الأطفال أو حدثاء السن، بل وتمتد للكبار وحتى المسنين أيضا، حيث ينشط المخ عند معالجته للغات متعددة ويتوقد نشاطه ويتم عمل توصيلات عصبية جديدة بين خلاياه.
السؤال الثالث: كيف؟
هناك طرق متعددة لتعلم اللغات، ومع تعدد طرق تعلم اللغة الثانية خاصة؛ إلا أنها تجمع على أهمية التعرض بشكل متدرج ومتكرر للغة المراد تعلمها، ومن هنا نشأت عدة طرق لتعلم اللغة الثانية من خلال التفنن في طرق زيادة التعرض للغة أو ممارستها، وتعدد ت النصائح والأفكار الفعالة في تعلم اللغة الجديدة.
إلا أن الطريقة الأهم والتي تجدي بشكل أكثر فاعلية مع الأطفال هي طريقة التعلم بالغمر (Language Immersion). في التعلم بالغمر لا يكون التركيز على تعلم قواعد النحو أو تراكيب الجمل بقدر ما يكون التركيز أن يحاط المتعلم باللغة من حوله كوسيلة للشرح والتعامل والاتصال. تفيد هذه الطريقة بشكل استثنائي في حالة الأطفال الرضع حيث يقع دور الكلام دائما على المعلم، ويكون المتلقي ذا مخ حاضر لتعلم اللغة وتشربها والقياس على قواعدها.
وتتميز طريقة التعلم بالغمر بنجاحها المبهر وخاصة مع التركيز والمواصلة لفترات طويلة، ومن أمثلتها الشهيرة تجربة الدكتور عبد الله الدنان مع ولده، حيث حرص على مخاطبة بالفصحى فقط منذ مولده، تاركًا العامية العادية لباقي أفراد الأسرة. ويمكنكم الرجوع لفيديو يوثق نتيجة التجربة مع ولده، حيث يتحدث الفصحى الصحيحة منذ عمر الرابعة. ولم يكتفِ الدكتور عبد الله بتجربة شخصية، بل قام بتعميم التجربة ومتابعتها كبحث علمي، نشرت نتيجته مصحوبة بمنهج لتعلم الفصحى. والجدير بالذكر أن «بيللا» الروسية هي أيضا قد تعلمت بهذه الطريقة الفريدة. ولكن الأبحاث تشدد على ضرورة التأكد من صحة لغة من يمارس هذه الطريقة من كل الجوانب لكي لا يؤثر على مستوى الطفل لاحقا.
محاذير شائعة ومخاوف مشروعة:
بقى أن نلقي الضوء على بعض الممارسات الخاطئة والمخاوف المشروعة التي تظهر على السطح عند التعامل مع قضية تعلم اللغة الثانية وخاصة بالنسبة للأطفال. فمن أكثر تلك الممارسات الخاطئة شيوعا هي الإفراط في استخدام اللغة الثانية، بحيث تتحول من لغة يدرسها إلى لغة يتعلم بها كل العلوم والمواد الدراسية كما تفعل غالبية مدارس اللغات في الوطن العربي.
فقد أشارت الأبحاث إلى أن تعلم العلوم المنطقية والطبيعية (كالرياضيات والفيزياء وغيرها) بلغة غير اللغة الأم للطالب تجعل الفهم أقل تعمقًا مما لو تعلمها بلغته الأم. حيث أكّدت الأبحاث على أن التعليم الفعال يحدث داخل عقل الطفل بالضرورة من خلال لغته الأم، فهي التي يترجم إليها المفاهيم ليستوعبها ويهضمها. ولهذا نجد أن السبيل الأمثل في التعليم هو فصل تعلم اللغة عن تعلم المفاهيم العلمية الأخرى أو المواد الدراسية المختلفة.
كذلك من الممارسات الخاطئة الملاحظة في تعلم اللغة الثانية للأطفال هي الاعتماد على المصادر الإلكترونية بشكل مكثف أو كامل في تعليم اللغة الثانية. ففي دراسة أجريت بجامعة كولورادو، قام الباحثون بمقارنة نتائج التعلم من شخص حي بنتائج التعلم من مشاهدة المقاطع التعليمية أو التعامل مع برامج اللغة التفاعلية. وقد خلص البحث إلى نتيجة مفادها أن الأطفال الذين تعلموا من شخص حي أمامهم قد حققوا نسبة أعلى في التحصيل والتقاط الكلمات والتراكيب الجديدة، ولا فارق يذكر بين كون التعليم الإلكتروني تفاعليا أو غير تفاعلي.
تثار مخاوف كثيرة عن اللغة الثانية وتعلمها وأثر ذلك على عقل الطفل. حيث يبدو على السطح أن الطفل يرتبك ويخطئ في التنقل بين اللغتين في بداية الأمر وهو ما يسمى بالخلط الكودي (code mixing)، مما حدا بالبعض إلى تفسير ذلك بأن تعدد اللغات يرهق ذهن الطفل. ولكن الأبحاث الحديثة تشير إلى أن عقل الطفل لا يرهق، ولكنه يستغرق وقتا أطول في تعلم الفصل بين اللغتين، ولكن هذا التعلم يزيد من مهارة المخ ويفيده كما أسلفنا في مزايا التعدد اللغوي. فما كان ينظر له سابقا على أنه معوق للطفل ومرهق لعقله، ثبت لاحقا أنه مجرد عرض ظاهري لتدريب المخ وزيادة مرونته ونشاطه وقدرته على التركيز.
ويمكننا أن نخلص إلى أن خير ما يهديه الأبوان لطفلهما في طفولته أن يتعلم لغة ثانية أو ثالثة، وأن هذا ليس ضربا من المحال ما دامت هناك إرادة ومثابرة. ولكن ينبغي عليهما أيضا عدم الإفراط في تقديم اللغة الثانية من خلال تدريس المواد الأخرى بها، أو من خلال ترك الطفل بالساعات أمام البرامج اللغوية. فباتباع الممارسات الصحيحة في تعلم اللغة نضمن لأطفالنا صحة عقلية دون أن نؤثر على تطورهم في باقي المجالات والعلوم.
بقلم: تيسير حرك (بتصرف)