ابتدأ العامُ الدّراسيُّ الجديدُ، وقد فتحتِ المدارسُ ذراعَيها لاحتضانِ الطّلّابِ الّذينَ أمضَوا عطلةَ الصّيفِ بعيدًا عنها.
استيقظَ يوسفُ منزعجًا من خبرِ ذهابهِ إلى المدرسةِ.
تناولَ طعامهُ بفتورٍ، ثمّ حاولَ أن يلاطفَ أمّهُ علّها تسمحُ له بالبقاءِ في المنزلِ، لكنّها رفضتْ قائلةً:
ياحبيبي أنتَ الآنَ في الصّفِّ الأوّلِ، عليكَ أن تكونَ سعيدًا، فالمدرسةُ بيتُكَ الثّاني، وعليكَ أن تشعرَ بالسّرورِ حينَ تذهبُ إليها، وسيصبحُ لك فيها أصدقاءُ كثرٌ هم أيضًا كإخوتكَ، يجبُ أن تحبّهم، وتكونَ ودودًا معهم، قاطعَها يوسفُ قائلًا:
 - ولكنّني سأشتاقُ إليكِ ياأمّي!
 - فردّت عليهِ بابتسامةٍ ذكيَّةٍ:
وأنا أيضًا ياصغيري، ولكنّ المعلّمةَ ستكونُ أمًّا عطوفةً عليكَ، وستُمضي معها أوقاتًا مفيدةً وجميلةً، وستعلّمكَ الكثيرَ من الأشياءِ الّتي ستجعلكَ إنسانًا مهمًّا في هذه الحياةِ. هيَّا اذهبْ، والبسْ ثيابكَ المدرسيّةَ، نكادُ نتأخَّرُ.
عندَ بابِ المدرسةِ أفلتتِ الأمُّ يدهُ، فبدأَ يوسفُ بالصُّراخِ، والبكاءِ متوسّلًا أن تعيدَهُ أمُّهُ معها، واجتمعَ الطّلّاب حولهُ، فزجرَهم بغضبٍ، وشراسةٍ استغربتْهما أمُّهُ.
طلبتِ الأمّ من الأولادِ أن يبتَعدوا، ثمّ قالتْ لهُ:
هذا ليسَ تصرُّفَ طفلٍ مهذّبٍ، كما أنّ والدكَ سينزعجُ كثيرًا إذا علمَ بما فعلْتَ، وقد يحرمُكَ من التّنزّهِ معهُ في القريةِ، واللعبِ مع أطفالِها أيّامَ العُطَلِ.
هزَّ رأسهُ موافقًا، ودخلَ يجرُّ خطاهُ بِكُرهٍ وامتعاضٍ شديدَينِ، كان الجميعُ قد دخلوا صفوفَهم، وهو مازالَ يتثاقلُ في مشيتهِ، وأمّهُ ترقبهُ من بعيدٍ رافضةً الدّخولَ معهُ، كي تجعلَهُ يعتمدُ على نفسِهِ.
لمحَهُ مديرُ المدرسةِ، وتذكّرَ حينَ رآهُ منذ بضعةِ أيّامٍ مع والدهِ عندما جاءَ كي يسجِّلَهُ في المدرسةِ، فابتسمَ لهُ، ودلّهُ على صفّهِ. وقفَ يوسفُ أمامَ بابِ الصّفِّ، وقد كان مفتوحًا، فبادرتِ المعلّمةُ إلى استقبالِهِ ببشاشةٍ، ولطفٍ ولاسيّما أنّهُ كانَ طفلًا جميلًا، مرتَّبًا، تبدو على مُحيَّاهُ ملامحُ الذّكاءِ، فشعرَ يوسفُ بالارتياحِ، وكأنَّ حملًا ثقيلًا انزاحَ عن كتفَيهِ.
أجلستْهُ المعلّمةُ في المقعدِ الأوَّلِ، وهي تلاطفهُ، وقد شعرتْ بحدسِها الأُموميِّ، والتّربويِّ بغربتهِ، وقلقِه.
ثمّ سألتْهُ عن اسمهِ، ولمّا أخبرَها، قالتْ:
 - يالهُ من اسمٍ جميلٍ!
 - أتعلمُ أنّهُ اسمُ نبيٍّ؟
فهزّ الصّغيرُ رأسَهُ متذكِّرًا كلام أمّهِ حين سألَها يومًا:
 - لمَ أسميتِني هذا الاسمَ ياأمّي؟
ثمّ استدركتِ المعلّمةُ:
 - أتعلمُ أنّ هناكَ سورةً في القرآنِ الكريمِ باسمِ (يوسف).
فمطَّ يوسفُ شفتَيهِ ببراءةٍ، ربّتَتِ المعلّمةُ على كتفِهِ، وقالت بمحبَّةٍ: عندما تتعلّم القراءةَ، والكتابةَ عليكَ أن تقرأها فقد وردَ اسمُكَ فيها أربعًا وعشرينَ مرَّةً.
 - هل ترى اسمكَ ازدادَ جمالًا بعدَ ماقلتُهُ لكَ؟.
 - ابتسمَ بخجلٍ وبالكادِ سمعتهُ يقولُ: نعم.
ولمّا أحسّتْ تقبُّلَهُ حديثَها، أضافتْ، وهي تحادثُ الطّلّابَ المستمتعينَ بما سمعوهُ من حوارِها معهُ:
 - أيضًا ياصغاري يوسفُ اسمُ بطلٍ حاربَ الأعداءَ في سوريةَ، ثمّ استشهدَ، وعندما تكبرونَ ستدرسونَ ذلكّ في الكتبِ المدرسيّةِ.
رنَّ جرسُ الفرصةِ، وفي الباحةِ انسجمَ يوسفُ مع رفاقهِ الجددِ، وقاسمهُم ماوضعتْهُ لهُ أمّهُ من مأكولاتٍ، وكان سعيدًا بتقبّلِ مايقتسمونَهُ من حلوىً معهُ.
مرَّ اليومُ المدرسيُّ الأوّلُ بعد أن ابتدأ بالبكاءِ، وقسوةِ فراقِ الأمِّ، وانتهى بقبلةٍ دافئةٍ من المعلّمةِ على خدِّ يوسفَ، وقد كانَ آخرَ طالبٍ يمشي في الممرِّ، لصِغَرَ خطاهُ، ونعومةِ مشيتِه.
ابتسمَ يوسفُ مودّعًا معلّمتَهُ الّتي كانَ يعتقدُ أنّها ستكونُ امرأةً قاسيةً تضربهُ، وتوبّخهُ، وقد تعاقبهُ!
ثمّ سمعهَا تقولُ لهُ:
- يوسفُ ياصغيري أحببتكَ، لاتتأخّر غدًا!
ظلّتْ كلماتُها في أذنيهِ طوالَ الطّريقِ، وهو ممسكٌ يدَ أمّهِ الّتي كانتْ تنتظرهُ بلهفةٍ، وقلقٍ عندَ بابِ المدرسةِ.
ضمّها بشوقٍ، وفرحٍ قائلًا:
 - أحبّكِ ياأمّي!
 - أحبُّ المدرسةَ، والمعلِّمةَ ورفاقي!
 - وأحبُّ اسمي وسأتعلّمُ بسرعةٍ كي أقرأ سورةَ (يوسفَ).
تفاجأتِ الأمّ كثيرًا، وأدركتْ أنّ ذلكَ يعودُ لذكاءِ، وحنانِ، وخبرةِ المعلّمةِ، ربّتتْ على شعرهِ، وقالت:
 - أنا فخورةٌ بكَ يايوسفُ الجميلُ!.
     بقلم: ميَّادة مهنَّا سليمان